بقدر من الاختزال المشروع، يمكننا القول بأن كافة مشكلات العالم العربي تبدأ من، وتدور حول، عدم اكتمال تحوّله الصناعي، بل وربما عدم تحقّقه من الأساس في بعض بقاعه، ولعل هذا ما يبرر جوهرية مناقشة واقع ومستقبل الصناعة التحويلية في المنطقة العربية، ضمن الظروف والشروط والقيود المحيطة به حاليًا، وبنشأته ابتداءً، بما لهما معًا من آثار وامتدادات مُحتملة في المستقبل.
يستدعي ذلك البدء بمعرفة أنماط التصنيع المختلفة ضمن موجاتها الثلاثة المعروفة تاريخيًا، وفهم الشروط التاريخية العامة التي تحقّقت، وتظل قانونيات عامة للتحقّق، ضمنها، كأساس للتكهّن بمستقبلنفط في ضوء مواريثها التاريخية وواقعها الراهن، فضلاً عن الأبعاد والقيود الهيكلية المُحددة لآفاق ذلك المستقبل.
أنماط وشروط التصنيع التاريخية:
عرف الاقتصاد العالمي الحديث ثلاث موجات رئيسية من التصنيع الحديث، تشاركت بعض المعطيات العامة، فيما اختلفت في الظروف والسياقات، كانت أولاها موجة تصنيع غرب أوربا التي تمركزت في انجلترا ثم فرنسا، وثانيتها في باقى الغرب وشملت أساسًا ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم الاتحاد السوفييتي واليابان، وثالثتها الأخيرة جنوب شرق آسيا المنتهي بقلبه بالصين.
ورغم وحدة الأساس بين هذه الموجات الثلاثة، فقد اختلفت في بعض السمات الناتجة عن اختلاف السياقات بما جعلها ثلاثة أنماط مختلفة جزئيًا. أما وحدة الأساس المتصلة كلها بالقانونيات العامة لعملية التحوّل الهيكلي التاريخية، فقد تمثلت جوهريًا، أولًا، في عملية نقل الفوائض المالية وقوة العمل من الزراعة بعد انسداد آفاق تطورها؛ وثانيًا، في مركزية دور الدولة في دعم الصناعة حتى في الموجة الأولى التي تزعم السرديات الليبرالية التبسيطية نشأتها بعيدًا عن أي دور لها؛ ثم ثالثًا، محاولة توسيع فضائها السوقي كلًّا وفق ظروفه. في الوقت نفسه، تمثلت السمات المختلفة أساسًا في طرائق تحقيق عملية نقل الفوائض وسياقات توسيع الفضاء السوقي، ما تجسّد أساسًا في الموجات الثانية والثالثة، في دور أكبر للدولة في عملية التعبئة الرأسمالية وفي ضيق إمكانات التوسّع الخارجي أمام الموجات اللاحقة من التصنيع، مع هيمنة المراكز الصناعية القديمة على معظم مصادر الموارد والمساحات السوقية عالميًا؛ ما كان سببًا في حربين عالميتين، خاضتهما ألمانيا واليابان ضد المراكز القديمة، وما يدفع الآن لمنافسة الصين للولايات المتحدة على مركز القيادة العالمية.
تكاد أن تتمحور كافة تجارب التصنيع حول هذين العنصرين الأساسيين، الداخلي (تحويل الفوائض المالية والتقنية من القطاعات الأخرى لقطاع الصناعة التحويلية تحديدًا)، والخارجي (توفير مصادر التموين بالموارد وفتح أسواق لتصريف المنتجات). وهذان العنصران يكفيان بذاتهما لاستكشاف مستقبل الصناعة التحويلية في العالم العربي، مع التأطير بالعوامل الأخرى لدعم أو مخالفة الرؤية الأساسية لذلك المستقبل؛ وعلى رأسها ما يتشعّب عن هذين العنصرين نفسيهما. وهي، أولًا، توفّر سلة السلع الأجرية بأسعار مقبولة؛ لضمان عدم ارتفاع الأجور، كأحد أهم عناصر التكلفة؛ وثانيًا توفّر “فائض فضاء سوق”، بمعنى القدرة على غزو الأسواق الخارجية، أي القدرة التنافسية المبنية على القدرة التقنية والكفاءة الإدارية/التكاليفية؛ وثالثًا توفر هيكل أسعار محلي داعم للاستثمار الصناعي، أي عدم منافسة قطاعات أخرى أقل مخاطرة وأعلى عائدًا منه، على فوائض رأس المال.
نظرة في أوضاع التصنيع العربية:
تشير البيانات حسب آخر إصدار من التقرير الاقتصادي العربي الموحد إلى بلوغ نسبة مساهمة القيمة المضافة للصناعة التحويلية حوالي 11% في الناتج المحلي الإجمالي العربي عام 2020، مقابل 17.3% للصناعة الاستخراجية، و5.7% للزراعة، و54.9% للخدمات. كما نرى، تمثل هذه المساهمة نسبة شديدة التواضع عمومًا، وإن كان يمكن القول بحدوث تحسّن طفيف فيها بالنظر لارتفاعها من 9.6% من الناتج الإجمالي عام 2010.
وبالخروج من نطاق المتوسط العام، والتمييز فيما بين الدول العربي، حقّقت الصناعة التحويلية في البحرين أعلى مساهمة في القيمة المضافة بنسبة 18.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، تلاها الأردن بنسبة 17.3%، ثم مصر بنسبة 16.2، والمغرب بنسبة 14.8%، وتونس بنسبة 13.3%، والسعودية بنسبة 13%، وصولًا لما دون المتوسط العربي المذكور، حتى نسب شديدة الضآلة، بلغت 6.2% للكويت، و4.9% للجزائر، و2.8% للعراق .
ويغلب طابع استهلاكي متخلف على هذه الصناعة التحويلية العربية، بضعف مكون الصناعات الرأسمالية والوسيطة التي توفّر تجديدها الاجتماعي وعمقها الصناعي، ما يظهر في ضعف درجة التعقيد الاقتصادي للاقتصادات العربية بمجملها، حيث احتلت دول المنطقة مراتب متأخرة عمومًا على المؤشر المعروف بذات الاسم؛ فأتت السعودية كأول دولة عربية في المرتبة 33 على المؤشر، تلتها البحرين في المرتبة 51، ثم لبنان والإمارات في المرتبتين 54 و55 على التوالي، وتونس في المرتبة 60، ثم الكويت في المرتبة 63، والأردن 64، وقطر 72، ومصر 73، من إجمالي 151 دولة غطّاها المؤشر عام 2019.
وعلى مؤشر التنافسية الصناعية الذي غطىّ 152 دولة عام 2019، كانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة عربية على المؤشر في المرتبة 30، متخلفة عن إسرائيل بمركز واحد، والدولة العربية الوحيدة في الخمس الأعلى على المؤشر، فيما وقعت خمس دول عربية في الخمس الثاني هى السعودية وقطر والبحرين والكويت وعمان، في المراتب 39 و48 و 50 و58 و60 على الترتيب، تلتها أربع دول فقط في الخمس الثالث، هى المغرب ومصر وتونس والأردن، في المراتب 62 و64 و68 و75 على الترتيب، لتقع باقي الدول العربية في الخمسين الباقيين، أو لا تتوافر عنها بيانات من الأساس.
قد انعكس كل هذا الضعف في حصة القطاع الإنتاجية وفي قدراته التنافسية، في ضعف حصته في الصادرات السلعية العربية، المتواضعة إجمالاً بنسبة 4% تقريبًا من إجمالي الصادرات العالمية . لقد بلغت مساهمة الصادرات السلعية من الصناعة التحويلية 32% من إجمالي الصادرات العربية عام 2020، مرتفعة من 11% فقط عام 2010 ، مع تراوح في النسب بين الدول العربية من مستوى 77.5% لتونس و74.4% للأردن و50.8% للإمارات، مرورًا بحوالي 59% لمصر و52% لسوريا، حتى 18% لقطر و4.8% للجزائر و2.4% للعراق، مع ضرورة الإشارة لشمول جزء معتبر من هذه السلع المنسوبة للصناعات التحويلية لمكونِ مرتفع من الإنتاج الاستخراجي أساسًا. وعلى ما في ذلك من إيجابية بالمقارنة بتصدير الموارد المُستخرجة بشكلها الخام، فإنه يظل مرتبطًا بها، ومحدود القيمة التصنيعية من الوجهة الفعلية.
يدعم هذا تركّز معظم المزايا النسبية للدول العربية في التجارة الدولية في صناعات تقليدية أو متخلفة محدودة القيمة المضافة . على سبيل المثال، تشير تحسّنات المزايا النسبية لعام 2018، إلى تميّز البحرين وتونس والجزائر وعمان وقطر في الأسمدة، وتميز السعودية وفلسطين ومصر في البلاستيكيات، وتميز البحرين وفلسطين وقطر في الألومنيوم. ويسجّل الكوّاز عن الحالة المصرية كأكبر دولة عربية سكانًا، والتي “تمثل أقدم تجارب التصنيع العربية،” أنه يُلاحظ أن أغلب هياكل صادراتها، ولأهم الأسواق التصديرية: الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي أو شمال أفريقيا، يتشكّل من صادراتها ذات محتوى الموارد الطبيعية. وحتى في شمال أفريقيا؛ حيث من المفترض أن تقل حدة المنافسة مع صادرات الدول الأخرى، تأتى منتجات المواد الغذائية المُصنعة، ثم السلع النفطية المُكررة كأهم سلعتين مُصدرتين لشمال أفريقيا، في حين تأتي المنتجات النفطية المُكررة والملابس المُصنعة كأهم سلعتين مُصدرتين للسوق الأمريكية، والمنتجات النفطية المُكررة والملابس المُصنعة كأهم سلعتين مُصدرتين للسوق الأوربية” .
جذر الأزمة: نمط فخ الموارد المُعادي للتصنيع
تبدأ المشكلة من نمط النمو والنموذج الاقتصادي القائم، بالطبيعة الريعية الغالبة عليه، الموروثة عن فترة الطفرة النفطية، التي تشعّبت آثارها لتصيب حتى الدول العربية غير النفطية. وتظهر غلبة الطابع الريعي على الاقتصاد العربي في ترتيب أحجام الاقتصادات المكونة له؛ حيث تحتل دول الخليج العربي صاحبة أكثر الاقتصادات العربية ريعية المراكز الأولى في أحجام الناتج المحلي الإجمالي. وباستبعاد مصر بحجمها السكاني الضخم الذي يبلغ تقريبا ربع العرب، والتي تحتل مع ذلك المركز الثاني، احتلت خمسة اقتصادات نفطية المراكز الستة الأولى، من إجمالي عشرين اقتصاد عربي، عام 2020، هى السعودية والإمارات والعراق والجزائر وقطر على الترتيب .
علمًا بأن الريعية في الاقتصاد العربي لا تتوقف على “ريعية الموارد” الخاصة، بل تتسع نطاقًا لتصبح “ريعية ممارسات” عامة؛ حيث لا يتوقف الأمر على غلبة الموارد الطبيعية والنفطية على الإنتاج “السلعي”، ولا حتى على الأهمية الكبيرة للقطاعات الخدمية والجيوبوليتيكية كالسياحة والموانئ والمنافذ البحرية ذات المواقع الإستراتيجية كقناة السويس المصرية؛ بل تشمل طبيعة الممارسة الاقتصادية السائدة نفسها وآليات توزيع الموارد وتوجيه الاستثمارات، كما تتجسّد في “رأسمالية المحاسيب الكوربوراتية” الغالبة على كل الاقتصادات العربية تقريبًا، والعاملة ضمن إطار أوسع من حالة “المرض الهولندي” الموروث عن الطفرة النفطية نفسها.
تتجلّى هذه الريعية أساسًا في، كما تعمّق من، ضعف الحوافز للتصنيع، بهيكلتها للأسعار النسبية وتوزيع التكاليف الإنتاجية والمخاطر الاستثمارية وحفزها التضخم المُزمن بشكل يحفز الممارسات المضاربية والاكتنازية والهروبية. كما يوجّه الفوائض للقطاعات غير الاتجارية، أي غير السلعية أساسًا، من قطاعات التجارة والخدمات والعقارات ..إلخ. يجتمع كل هذا ضمن بنية من سيطرة رأس المال التجاري المتمفصل ضمن موقع تابع عالميًا؛ متسقًا مع ضعف إمكانات وميول التصدير لصالح الميول للاستيراد، ومع حالة من تكلّس الأسواق المحلية الراكدة، بضعف الإنتاجية وبغلبة الاحتكارية ذات الشكل المحاسيبي، المتغوّل عل كافة القطاعات، بما فيها منافذ التمويل. أدت هذه الوضعية لغياب الحلقات الوسيطة بين الكيانات الاحتكارية العملاقة والشركات الصغيرة، بغياب الشركات متوسطة الحجم وإمكانات النمو فيها؛ بما كوّن “رأسمالية مشقوقة”، بتعبير عمرو عادلي ، راكدة عاجزة عن التطور كيفيًا؛ بتحكّم الكيانات الاحتكارية المحاسيبية من جهة، وانغلاق إمكانات النمو أمام الكيانات الصغيرة من جهة أخرى.
ومع كل هذه الصعوبات، انطلاقًا من القاعدة النوعية شديدة الانخفاض للاقتصادات العربية، تمتلك الدول العربية بعض القدرة على تحقيق قدر من التحوّل الهيكلي في بناها الاقتصادي، بما يشمله من، ويقوم عليه جوهريًا، من نمو للصناعة التحويلية واكتسابها دورًا ومكانة أكثر تأثيرًا وريادية في التكوين الاقتصادي. وتشير بعض التحليلات لامتلاك دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو بعضها على الأقل، لنفس ظروف وإمكانات التحول الهيكلي لدول مثل تركيا وتايلاند .
الحدود الهيكلية لدول الصناعة المستقلة في العالم العربي
يمكن تصنيف تلك الحدود الهيكلية، وتحديدًا الأكثر جذرية واستراتيجية منها، بشكل مصفوفي بين نوعين من القيود، متداخلين جزئيًا، أولهما هو القيود النوعية المتعلقة بالموقع والطابع الخاص بالصناعة كقطاع ضمن السياق الاقتصادي الأشمل مما تناولنا إشكالاته الريعية آنفًا (محور تخصيص الفوائض)، فيما ثانيهما القيود المادية العامة كأحجام الدول العربية، التي يتسم أغلبها بالصغر جغرافيًا وسكانيًا (محور الفضاء السوقي)؛ وهى الحدود التي تتفاعل معًا لتخلق ثلاثة درجات، بأكبر درجات التساهل، من الإمكانية في مستقبل الصناعة التحويلية العربية:
أولاً: الدول الصغيرة جدًا، والتي لا يمكنها تكوينيًا أن تمتلك أسواقًا محلية كافية تتطوّر على أساسها لتصبح دولاً صناعية مستقلة. وأقصى طموحها أن تصبح مراكز تصنيع تابعة أو ملحقة بمراكز تصنيع أكبر خارجها؛
ثانيًا: الدول المتوسطة، والتي يمكنها أن تتعاون سويًا للتخصص في الصناعات المتوسطة تقنيًّا وتحسين موقعها في منظومة التجارة الدولية، دون أن تطمح للانتقال من منظومة الدولة المحيطية الطرفية إلى مستوى منظومة الدول الوسيطة، ضمن النظام الاقتصادي العالمي؛ لافتقادها القوة السياسية الكافية لتحقيق وحماية ذلك الانتقال، حتى حال امتلكت أدوات تحقيقه اقتصاديًا؛
ثالثًا: الدول الكبيرة، وهى بضعة دول عربية لا تتجاوز دولتين أو ثلاثة دول، التي تستوفي شرط السوق المحلية الكبيرة، والمساحة الجغرافية والعدد السكاني الكافيين، هى أساسًا مصر والعراق والسودان، وربما بعدها الجزائر وسوريا، وهى المجموعة الوحيدة التي تمتلك الإمكانات التكوينية لبناء دول صناعة مستقلة تقليدية، مع الأدوات الديموغرافية والسياسية الكافية حال امتلكت الإرادة السياسية الجادة، للارتقاء بموقعها من مرتبة الدول المحيطية الطرفية إلى مرتبة الدول الوسيطة، مثل إيران وتركيا مؤخرًا.
فرص وتحديات: التكامل التجاري في ظل اقتصاد عالمي ينحو للركود
رغم المخاوف من تزايد دور الأتمتة والروبوتات في عملية التصنيع، بشكل يمكن أن يقضي على البقية المتبقية من القدرات التنافسية والصناعية للدول النامية في السوق العالمي، لصالح المراكز الرأسمالية المتقدمة ؛ فضلاً عن استئثار الصين وحدها بما يقرب من ثلث الصناعة العالمية كـ”دولة-ورشة” أقرب لثقب أسود انتزع الحصة الأكبر عالميًا في الإنتاج الصناعي عمومًا، فإن الآفاق ليست كلها مسدودة، خصوصًا وأنه مع تواضع المستوى الصناعي القائم فعليًا في المنطقة العربية، فإنه تظل أمامها الكثير لتحققه في هذا الطريق، قبل أن تصل لاصطدام حقيقي مع تلك الإشكالات الأقرب لأوضاع العالم الأول المتقدم.
كذلك، فإنه رغم ما يرجح أن يشهده الاقتصاد العالمي من تراجع وركود في السنوات القادمة، وتصاعد في صراعات الهيمنة بين الأقطاب الصاعدة ومركزها الصين، والآفلة وقلبها الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها للمفارقة، قد تمثل فرصة تاريخية لتحسّن ما في آفاق التصنيع العربي المستقل؛ حيث كثيرًا ما تكون هذه الأوضاع بذاتها سببها لدفع الصناعات المحلية في الدول الطرفية الأضعف في منظومة الاقتصاد العالمي؛ نتيجة ما سترتبه هذه الأوضاع من تخفيف لقبضة الأيدي المهيمنة على منظومة الإنتاج والتجارة العالمية.
ورغم أنه ليس من المُتوقع أن تنفتح أمام الدول العربية أسواق تصديرية كبيرة، حتى في حال رفعت قدراتها التنافسية المتواضعة؛ بسبب ذلك الركود المتوقع في الاقتصاد العالمي، فإنها يمكن أن تستفيد منه في تطوير قدراتها المحلية واستبدال الواردات، فضلاً عن تعظيم تجارتها البينية على حساب تجارتها الخارجية؛ بما يعزز قدراتها الإنتاجية والسوقية المحلية مجتمعةً، مع ما يوفّره تقارب مستوياتها التنموية من توازن في العلاقات التجارية والحاجات الإنتاجية، وما ينتج عن ذلك التقارب من تخفيف الضغط على موازناتها من النقد الأجنبي وتوفيرها للحاجات الأشد إلحاحًا، بفضل ما يمكن إبرامه من ترتيبات نقدية بديلة عن الدولار.
فقط سترتهن إمكانات الاستفادة من ذلك السيناريو بتقلص الطابع الريعي/ التابع / المحاسيبي المسيطر على الاقتصادات العربية؛ لتحرير إمكاناتها التصنيعية والإنتاجية، وعدم إهدار إمكاناتها الاستثمارية الضخمة، لكن غير المُستفاد منها إنتاجيًا بشكل إستراتيجي.
الخاتمة: ثلاثة سيناريوهات للتصنيع المستقل
خلاصة القول، لدينا من الاتجاهات ما يشير لإمكانية تحقيق تحسّن ولو طفيف في الأداء التصنيعي العربي؛ ما يمكن إرجاعه جزئيًا لبوادر التراجع في الصناعات الاستخراجية مع قرب انتهاء الطفرة النفطية التي بدأت أواسط السبعينيات، وانخفاض الضغط الخارجي على الأسواق المحلية العربية مع الركود المحتمل للاقتصاد العالمي، هذا التراجع الذي يمكن أن يدفع لمزيد من التحسّن لاعتبارين واحتمالين متشابكين:
أولهما خفوت وجود وتأثير المرض الهولندي بما جلبه من طابع وممارسات ريعية شملت أغلب الاقتصادات العربية، بشكل مباشر أو غير مباشر؛ ما سيسهم في تحسين هياكل الأسعار والربحية القطاعية بشكل يدفع باتجاه الاستثمار السلعي / الإنتاجي / الاتجاري؛
ثانيهما، تشجيعه السياسات الحكومية العربية على العودة لجادة الطريق التنموي، بالخروج من الميل لاستسهال الموارد الريعية، والتركيز على التنويع الاقتصادي وفي مركزه وقلبه تحفيز الصناعة التحويلية كقطاع قائد سائد لاقتصاداتها.
لكن يظل تحقّق هذه الاتجاهات الإيجابية نسبيًا محكومًا بالقيود الهيكلية المذكورة سابقًا، ومع استبعاد الدول العربية شديدة الصغر مساحة وسكانًا؛ لافتقادها بعض أهم شروط التصنيع المستقل من سكان وسوق كافيين، يمكننا إجمال مستقبل الصناعة التحويلية العربية في الدول العربية الكبيرة والمتوسطة في ثلاثة سيناريوهات أساسية:
السيناريو الأول، المرجعي، الأقرب لميول ومصالح استقرار البُنى السياسية والاقتصادية القائمة في الأجل القصير، وهو استمرار أو تجديد الريعية في المراكز العربية، بمستوي أقل ريعية وأعلى تصنيعية نسبيًا، سواء بمصادر ريعية وموارد طبيعية جديدة، أو بأنشطة خدمية ولوجستية تتعيّش على قنوات عمل وخطوط حركة المراكز الإنتاجية العالمية، مع تصدير فوائضها من رؤوس الأموال وفرص العمل للفروع العربية، بنفس الصيغة اللي استحدثتها الطفرة النفطية في السبعينيات.
السيناريو الثاني، التطوري، والذي يمكن أن يتحقق بإصلاحات جزئية ضمن البنية السياسية العربية القائمة، وهو التحاق المراكز العربية بمواقع متواضعة من سلاسل القيمة العالمية، باحتلال مواقع ضمن خطوط الإنتاج التكاملية التي تقودها المراكز الصناعية من صناعات مغذية، صغيرة وهامشية، أو برفع درجة تنافسيتها ضمن أسواق الصناعات التقليدية الكبيرة، التي أصبحت ضمن صناعات الدرجة الثانية منخفضة التقنية والقيمة المضافة، مع تفكك صيغة المراكز والأطراف الريعية سالفة الذكر، وركود إن لم يكن مزيد من التراجع في التجارة البينية العربية.
السيناريو الثالث، الجذري، الذي يشتمل ويشترط حتمًا تغيّراتَ سياسية محلية وإقليمية معتبرة، وهو اتجاه الدول العربية المنتمية للفئة الكبيرة للتصنيع المستقل، بما يشمله من زيادة لنسبة التصنيع الثقيل والوسيط، وجذبها الدول العربية المتوسطة والصغيرة خلفها ضمن خطوط إنتاج متكاملة إقليميًا؛ ما يغيّر هيكل التجارة الخارجية العربية باتجاه مزيد من التجارة البينية العربية، وتراجع التجارة مع العالم الخارجي؛ ما قد يتطلب، ويدفع باتجاه، صيغة ما من الاتحاد التجاري والتبادل النقدي، فضلاً عن التنسيق السياسي بالطبع.