مُقدمة:
ربما كشفت أزمة كورونا عن هشاشة شديدة في النموذج الاقتصادي السائد عالميًا، فمجرد تهديد بالانتشار السريع لفيروس لا يزال ضمن فئة الفيروسات منخفضة الخطورة من جهة الآثار المرضية، بل هو أقرب لإنفلونزا حادة قليلاً، كان كفيلاً بتعطيل كبير للعجلات الاقتصادية حتى في أعرق الرأسماليات وأكثرها قوةً وتقدمًا، وبتوقف سريع وحاد في خطوط التجارة الدولية بشكل يهدد خطوط التوريد والإمداد العالمية، وانهيار كبير في حركة السياحة بين الدول، فضلاً عن توقف مُرشح للزيادة لكثير من الأنشطة التعليمية والاجتماعية في كثير من البلدان المهمة.
ولاشك أن الأثر أكبر في البلدان الأضعف اقتصاديًا، والأكثر هشاشة، التي تعاني مشكلاتً هيكلية اقتصاديًا واجتماعيًا، وهو حال مصر التي تعاني من مجموعة من القيود الهيكلية على أية سياسة حجر صحي شامل، لا تتوقّف بحال عند القيود المالية التقليدية، فبلد ضخم سكانيًا ومضغوط ديموغرافيًا ومختل اقتصاديًا، فضلاً عن مشكلاته المؤسسية، سيعاني نظامه قيودًا شديدة في مواجهة أزمة شاملة من هذا النوع؛ ما يفرض سياساتً استثنائية لمعالجة الموقف، في إطار تلك القيود من جهة، وضمن استراتيجيات أشمل لمواجهتها من جهة أخرى؛ ما سنسعى لتناوله في هذه العُجالة.
لمحة حول القيود الهيكلية للتشكيل الاقتصادي-الاجتماعي المصري:
بدايًة تمثل مصر دولة كبيرة السكان بتعداد يتجاوز المئة مليون، يعيش معظمهم في مساحة صغيرة لا تتجاوز 6% من أراضي البلد، حول النيل ودلتاه وبعض المواقع المتفرقة الأخرى، ما يعني ارتفاع الكثافة السكانية، التي بلغت كمتوسط عام 98.4 نسمة للكيلومتر المربع عام 2019م، والتي تكون أكبر بكثير ككثافة حضرية في مناطق تكتلاتها السكانية الأساسية، في القاهرة والدلتا وبامتداد نهر النيل، ينتج عن هذا احتماليات انتشار سريعة وعالية لدرجة خطرة لأي مرض وبائي، خصوصًا لو كان تنفسيًا مثل فيروس كورونا الحالي، وإن كانت مصر لحسن الحظ تتميّز بهيكل سكاني يغلب عليه الشباب وصغار السن وفقًا لتعداد عام 2017م، بنسبة تتجاوز الـ 80% دون عمر الأربعين، والـ 65% دون عمر الثلاثين، والـ 48% دون عمر العشرين عامًا، وهى الأعمار الأقل تأثرًا بالفيروس ضمن تحوّراته الحالية إصابًة ووفاةً.
وفي ضوء معدل الإعالة المرتفع نسبيًا البالغ 61.5% في مصر، تتمتع الفئات في سن العمل (15-64 سنة) بأهمية بالغة، والتي تبلغ في الحالة المصرية حوالي 62% من السكان، بمعدل مشاركة فعلي في قوة العمل بلغ حوالي 43%؛ ما يجعل أي تأثيرات اقتصادية عليها تنعكس بالضرورة على بقية الشعب.
فإذا نظرنا للهيكل القطاعي للاقتصاد المصري؛ لوجدناه اقتصادًا يغلب عليه الطابع الخدمي، بنسبة تتجاوز نصف الناتج المحلي الإجمالي تقريبًا؛ ما يعني تأثرًا كبيرًا بأي انخفاض في النشاطات الحياتية اليومية عمومًا، وتزداد الصورة تعقيدًا بالنظر لارتفاع نسبة الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد (التي تتراوح تقديراته الدنيا ما بين 20 و35% من الناتج المحلي الإجمالي، والعُليا ما بين 40% وفقًا لتقديرات بعض المسئولين الحكوميين، و60% وفقًا لأكثر التقديرات تطرفًا)، حيث يعمل قطاع كبير من القوة العاملة بدون تأمينات أو حتى أجور ثابتة أحيانًا، ناهيك عن أن تكون أجورًا لائقة تكفي لتكوين أية مدخرات ولو صغيرة وعن وجود مظلات حماية اجتماعية أو تأمينات صحية لهذه الفئات.
يُضاف إلى ما سبق اعتماد كبير على الخارج في السلع الغذائية، يتجاوز نصف الاحتياجات من الحبوب التي تمثل أهم عناصر استهلاك الشعب المصري؛ ما يعني استنفادًا سريعًا للاحتياطيات الغذائية وارتفاعًا كبيرًا في أسعار كافة المواد الغذائية، إذا ما استمرت أية إجراءات تقييدية للتجارة الدولية لفترات طويلة، تتجاوز حدود الاحتياطيات المحلية والإمكانات المحصولية المرتقبة.
يطرح ما سبق شكوكًا حول قدرة مصر على القيام بحجر صحي شامل، فمن جهة تفرض الكثافة السكانية المرتفعة مخاطرًا كبيرة بسرعة انتشار المرض، ومن جهة أخرى يعني هذا الحجر تكاليفًا هائلة على المستويين الفردي والجماعي في ضوء تلك القيود الهيكلية، بشكل يتطلب خططًا خاصة لمواجهته؛ لضمان التزام أفراد الشعب به على الأقل!
ما هى القيود على فرض حجر صحي شامل في مصر؟
بجمع ما سبق نجد أمامنا وضعًا مُعقدًا يمكن إيجازه في عدد سكان ضخم مرتفع معدل الإعالة، ونسبة كبيرة من قوة العمل التي تقوم بهذه الإعالة تعمل في قطاعات خدمية شديدة التأثر بالآثار الركودية للحجر الصحي، ونسبة أكبر من قوة العمل تلك، تُقدر بحوالي 55 لـ 60% منها، تعمل في القطاع غير الرسمي منخفض الرواتب وغير المشمول بأية تأمينات اجتماعية أو صحية، بل إن قطاعًا ضخمًا من أولئك العاملين بالقطاع غر الرسمي، هم من العاملين لحسابهم أو ممن يحصلون على دخولهم بشكل يومي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، العاملين بالإنشاءات والخدمات البسيطة وسائقي المركبات والتكاتك والباعة الجائلين والسرّيحة والعاملين بمصانع “بير السلم” غير المُسجلة، التي يدفع بعضها أجوره يوميًا أو أسبوعيًا، والتي بلغت وفقًا لتقديرات اتحاد الصناعات حوالي 47 ألف مصنع عام 2015م، والتي قدّر معها وجود 1200 سوقًا عشوائية يعمل بها ثمانية مليون مواطن، ما يشير لجسامة حجم هذا الاقتصاد البالغ حوالي تريليوني جنيه سنويًا وفقًا للتقديرات المعتدلة.
هذا الاقتصاد الضخم الموجود خارج أية رقابة اقتصادية أو تنظيمات والتزامات إدارية وصحية، يشكل تهديدًا مزدوجًا، فمن جهة لا يمكن السيطرة على حركته سوى بحظر تجوّل شامل، يمنع الناس من النزول للمشاركة بأنشطة جذريًا، فيما يفرض ذلك الحظر ذاته من جهة أخرى، بحكم لا مؤسسية ذلك القطاع وهشاشة أوضاع العاملين به، وغياب الحصر الدقيق لهم وقنوات الاتصال الرسمية بهم، ضغطًا اقتصاديًا واجتماعيًا هائلاً على القطاعات العمالية الضخمة المعتمدة عليه، فضلاً عن آثاره الركودية؛ ما يطرح السؤال الأهم هنا، كيف يمكن للحكومة المصرية التعامل مع هذا الوضع المُعقد؟ فهل يمكنها فرض حظر تجوّل شامل مهما كانت التكلفة؟ وهل يمكن احتمال هذا الوضع اقتصاديًا واجتماعيًا، والالتزام بتكاليفه، لفترة طويلة؟ وهل يمكن إيجاد حلول إبداعية للتعامل مع هذه المعضلة الصعبة؟
ما هى الحلول الممكنة للتعامل مع هذه القيود؟
الحقيقة أن الوضع السابق يجعل اللجوء لحظر التجوّل الشامل على مستوى البلد آخر الاختيارات الجادة الممكنة ، حال تحقق أسوأ السيناريوهات وخروج الوباء عن حدود السيطرة وقابلية الاحتواء؛ ليصبح عندها “اقتصاد حرب” استثنائي بالمعنى الحرفي للكلمة هو الاختيار الوحيد للحكومة لإدارة الأوضاع الاقتصادية والحياة اليومية لعموم الشعب.
وما ستحاول توليفة المُقترحات التالية تجنبّه، هو تحقق الموازنة بين استمرار الحياة اليومية دون انهيار اقتصادي وخدماتي كبير من جهة، وخفض النشاط لمحاصرة انتشار المرض في أضيق الحدود من جهة أخرى، خصوصًا في ظل وجود احتمالات غير هينة لاستمرار الأزمة لفترة لن تقل عن شهر أو شهرين حتى حلول الصيف وفقًا للسيناريوهات المتفائلة، وربما تصل وفقًا لما يقرب من عام كامل وفقًا للسيناريوهات الأكثر تشاؤمًا!
أولاً: الحجر الصحي الانتقائي، وهو ما يبدو أن الحكومة المصرية تتبعه حاليًا، بملاحقة الحالات المُكتشفة وحصر مناطقها، والحجر بحسب الحالات المُكتشفة فقط، والعزل في مناطق متطرفة، دون إيقاف لمجرى الحياة الطبيعية؛ تجنبًا لسيناريو مواجهة تكاليف حجر صحي كامل، وهى مقاربة سهلة نسبيًا وقليلة التكلفة، لكن يعيبها كونها رد فعل لا يمنع انتشار العدوى من خلال الإصابات الكامنة الفعلية التي لم تُكتشف بعد، بينما لا تزال تتمتع بكامل حرية الحركة؛ ومن ثم ليس نشر المرض داخل مناطقها فقط، بل الأسوأ نقله لمناطق أخرى،
ثانيًا: الحجر الاستباقي الجزئي، وهو تطبيق أشمل للنهج الانتقائي سالف الذكر، لكن بشكل استباقي لا ينتظر ظهور حالات إصابة فعلية، حيث يستهدف القطاعات والمناطق الأكثر احتكاكًا واتصالاً بقنوات نقل العدوى من الخارج، مثل قطاعات السياحة والطيران بقطعها عن باقي البلد وعن الخارج بداهًة، كذا بإغلاق الجهات الأكثر ازدحامًا والأقل تأثيرًا من الوجهة الاقتصادية، بحيث يتم إيقافها جزئيًا وتقليل احتمالات الإصابات المتصلة بأنشطتها، لفترة أسبوعين أو أكثر بما يعادل أو يتجاوز الفترة المعروفة المعتادة لحضانة الفيروس وظهور أعراضه؛ لمنع انتقال العدوى ولتسهيل اكتشاف الحالات الفعلية وحصارها قبل الانتشار إلى المناطق التي لا تزال “نظيفة”، والتي ستكون مُطالبة دون إلزام كامل بمراعاة إجراءات الوقاية الممكنة، أي بالدعاية الإعلامية والمبادرة الفردية، دون حجر صحي أو حظر تجوّل شامل، مع تحبيذ ودعوة القاطنين بها لسياسة التباعد الاجتماعي بالإجازات وغيره في حدود قدرتهم على تحمّل تكلفتها، ويبدو أن الحكومة المصرية قد بدأت تطبيق هذه السياسة جزئيًا، حيث أعلنت مؤخرًا إغلاق المطارات وإيقاف العمل ببعض الهيئات الحكومية التي يمكن تعطيل أنشطتها دون خسارة اقتصادية كبيرة، أو ضرر على العاملين بها والمتعاملين معها،
ثالثًا: خفض حرارة النشاط، وذلك في القطاعات التي لا يمكن التخلّي عنها، والتي لا يمكنها استئناف أنشطتها بأدوات تكنولوجية حديثة تسهّل العمل عن بُعد، مثل المتعلقة بالحاجات الغذائية والمستلزمات الصحية الضرورية ومستلزمات التشغيل الصناعي والخدمي الأساسية وما شابه، حيث يتم تقليص النشاط بها إنتاجًا وعمالًة في القطاعين العام والخاص لمستوياته الضرورية فقط، مع التوافق على اقتسام تكاليف وخسائر تلك السياسة بشكل مقبول بين كافة الأطراف، سواء بين الحكومة والشركات من جهة، أو بين الشركات والعاملين من جهة أخرى، مع وضع أسقف استهلاكية ورقابة على الأنشطة التجارية، تضمن عدم حدوث اختناقات كمّية أو قفزات سعرية في المعروض من تلك الضروريات،
رابعًا: استحداث نظام دعم اجتماعي استثنائي: سواء بتقديم إعانات بطالة مؤقتة للعمالة التي ستتعطل كليًا في القطاعات المتوقع ركودها مع انخفاض حركة الطلب في البلد، أو مساعدات تعويضية للفئات الأشد فقرًا لحفزها على الالتزام بالإيقاف والإغلاق الإجباري لأنشطتها وأسواقها العشوائية مؤقتًا، وتمويلها تلك الإعانات والمساعدات بسندات طويلة الأجل يتم سدادها مستقبلاً من بعض الضرائب المُستحدثة ومن عوائد إعادة تنظيم تلك الأسواق والأنشطة وإدماجها في الاقتصاد الرسمي بشروط وأوضاع مميزة ومُيسّرة، تحقق مساهمتها المالية دون أن تحمّلها بأعباء لا تطيقها.
خامسًا: خفض نشاط النقل الجماعي: وذلك بتقليص عدد محطات المترو والسكك الحديدية وخطوط المواصلات النشطة، واختزالها في عدد محدود من المحطات المفصلية بشكل مؤقت؛ ووضع منصات كشف سريع في تلك المحطات وفي مداخل المدن والأحياء الكبيرة؛ بما يكمّل سياسة خفض النشاط سالفة الذكر بخفض وتيرة ونطاق حركة الأفراد إجباريًا، ويساعد كذلك في كشف الحالات المُصابة واحتجازها لكبحها عن المزيد من الحركة ونشر العدوى بين المناطق المختلفة.
سادسًا: تقليص تكاليف الحياة الثابتة: وذلك تماشيًا مع حالة خفض النشاط، بفرض خفض أو تأجيل لتكاليف الحياة الثابتة مؤقتًا، مثل تكاليف الإيجارات والفوائد وما شابه في القطاعين العام والخاص على السواء (ووضع تسويات عادلة لها لاحقًا)؛ بما يخفض الالتزامات الحياتية العاجلة لحدها الأدنى؛ فيسهل على الناس الالتزام بتقليل تحركاتهم وأعمالهم للفترة المطلوبة.
جُملة القول، أن ما نحتاجه هو حزمة سياسات نوعية تصلح لإدارة وضع أزمة “يُحتمل استطالتها”، في ظل أوضاع هشّة يعني فيها الحجر الشامل أزماتً لا تقل عن أزمة الكورونا نفسها؛ ما يعني ضرورة استهدافها تسيير أوضاع الحياة دون حدوث انهيار كبير يؤدي لمشكلات أكبر، وهو ما يتحقق بالتزام تلك السياسات بخطين عريضين، هما “خفض النشاط” لمحاصرة المرض، و”هندسة التكاليف” لضمان تحمّل الوضع الاستثنائي لأطول فترة يمكن أن تستمر فيها الأزمة.