لا شك أن هناك علاقة طردية وثيقة بين التنمية البشرية والنمو الاقتصادي لأي دولة، حيث تسهم التنمية البشرية إذا ما تم الاستفادة من عملية التحول الديموغرافي (تغير أنماط النمو السكاني) بمراحلها المختلفة، في تحقيق ما يسمى “العائد الديموغرافي” والذي يعني في تعريفه البسيط” تحقيق الانمو الاقتصادي بالاعتماد على التركيبة العمرية للسكان، بالتركيز على شريحة السكان في سن العمل (14-64 عامًا) عندما تكون هي الشريحة الأكبر في المجتمع؛ حيث تسهم هذه الشريحة في الإمداد باليد العاملة الماهرة المدربة، وتحقيق مستويات عالية من الادخار نتيجة انخفاض معدلات الخصوبة وصغر حجم الاسرة، ورأس المال البشري نتيجة لاستثمار الآباء والأمهات في صحة أطفالهم وتعليمهم بسبب انخفاض عددهم وارتفاع متوسط العمر المتوقع، وبالتالي ارتفاع مستويات الانتاجية كانعكاس لتضافر كل هذه العوامل مجتمعة.”
ومن التعريف السابق، يمكن استخلاص العلاقة الوثيقة أيضًا بين التخطيط السليم لسياسات الحماية الاجتماعية لأي دولة، ومدى نجاحها في تحقيق العائد الديموغرافي، وتحقيقها لفرصة النافذة الديموغرافية.
وقد تنبهت الدول العربية لأهمية العائد الديموغرافي والعنصر البشري لتسريع عملية التنمية المستدامة، لتحقيق أهدافها، لإدراكها أنه لا تنمية بدون تنمية العنصر البشري والاستفادة منه. ظهر هذا الاهتمام منذ إعلان القاهرة 2013، المنبثق عن المؤتمر الإقليمي للسكان والتنمية فى الدول العربية، والذي نص على 4 محاور رئيسية، وهي الكرامة والمساواة، والصحة، والاستدامة البيئية والإدارة الرشيدة. وتمثل الهدف الرئيسي لهذا الإعلان في تحقيق عائد ديمغرافي للمنطقة العربية، والاستفادة من النافذة الديمغرافية المتاحة.
والتساؤل الذي يثور هنا ويدور حوله هذا المقال هو: كيف أفادت الدول العربية وخاصة مصر من فرصة النافذة الديموغرافية تحقيق أهداف خططها للتنمية المستدامة، وكيف يمكن تعظيم تلك الاستفادة؟.
كيفية تحقيق العائد الديموغرافي
كي تحقق أية دولة العائد الديموغرافي أو تخلق ما يسمى فرصة النافذة الديموغرافية، فلابد من أن تمر بمراحل التحول الديموغرافي. ويعني الأخير تغير في أنماط النمو السكاني من مرحلة ارتفاع معدلات الخصوبة والوفيات إلى انخفاضها؛ حيث تبدأ المرحلة الأولى بانخفاض معدلات الوفيات في الأطفال الرضع والمواليد، مما يعني زيادة في عدد الأطفال، تليها مرحلة انخفاض في معدلات الخصوبة وانخفاض في حجم الاسرة، ويكون ذلك نتيجة لانتشار حالة من الوعي وثقافة تنظيم الأسرة، والتي تكون غالباً انعكاسًا وعائدًا لسياسات حكومية في اتجاه تنمية الأسرة؛ الأمر الذي ينتج عنه خلال تلك المرحلة الوسيطة زيادة في حجم السكان في سن (14-64 عام)، وانخفاض في أعداد المسنين، وبذلك تنخفض نسبة الموارد المنصرفة لإعالة المسنين وكبار السن، وينصرف الفائض في الاستثمار في راس المال البشري، والتنمية الاقتصادية، فيتحقق العائد الديموغرافي، وهي المرحلة النهائية من التحول الديموغرافي؛ حيث تصل نسبة الخصوبة والوفيات إلى مستويات متدنية.
تجدر الإشارة إلى أن فرصة “النافذة الديموغرافية” تنشأ في المرحلة الوسيطة للتحول الديموغرافي، والتي لا تتعدى خلالها نسبة المسنين وكبار السن 15%، ونسبة الاطفال لا تتعدى 30% من إجمالي السكان، مما يعني أن تلك الفرصة تكون محددة المدة الزمنية، ولذلك سميت فرصة؛ بحيث إذا ما استحسن استغلالها من خلال التخطيط الجيد في مرحلة صياغة السياسات العامة للدولة، مروراً بمرحلة التنفيذ، لن تستفيد الحكومات من العائد الديموغرافي.
والجدير بالذكر أن سمة عوامل محفزة لتحقيق العائد الديموغرافي، وهي العمالة المدربة، ومعدلات الادخار، وبرامج الحماية الاجتماعية المنفَذة فيما يتعلق بمحوري التأمين الاجتماعي وسوق العمل. تتوافر هذه العوامل بقوة خلال المرحلة الوسيطة للتحول الديموغرافي خلال الاستفادة من فرصة النافذة، حيث مع زيادة أعداد السكان في سن العمل يكون هناك وفرة في الأيدي العاملة المدربة، وتكون ذات كفاءة مع وجود برامج حماية اجتماعية تركز على تنمية رأس المال البشري، من خلال برامج تعليم جيدة تنعكس في مستويات أجور أعلى مستقبلاً، ومستوى رعاية صحية لائق، وبرامج تدريب مهني وتدريب من أجل التشغيل، وبرامج تنمية القدرات للطلاب ما قبل التخرج، وبرامج تغذية مدرسية خلال مراحل التعلم الأولى لدعم صحة الأطفال، ليكونوا أصحاء خلال مرحلة الشباب وسن العمل، هذه العوامل تسهم في تحقيق معدلات ادخار مناسبة، لانخفاض معدلات الإعالة داخل الاسرة الواحدة، وزيادة مستويات الدخول، نتيجة لارتفاع مستويات الإنتاجية.
تمتد الاستفادة من العائد الديموغرافي لخمسة عقود وأكثر وفق تقديرات المنظمات الدولية، ولكن الاستفادة منها ليست تلقائية بل تعتمد على مدى توفير البيئة المناسبة، كما سبق وتمت الإشارة من سياسات اقتصادية واجتماعية تسهم في تدعيم رأس المال البشري، وتحسين برامج سوق العمل، وحوكمة هذه السياسات والبرامج، وكذلك تعتمد على مدى سرعة الانخفاض في معدلات الخصوبة وزيادة الإنتاجية.
وقد تصل فرصة النافذة الديموغرافية إلى مرحلة الانغلاق دون تحقيق الاستفادة المرجوة من العائد الديموغرافي، نتيجة تباطؤ قرارات الحكومات؛ حيث مع استمرار انخفاض معدلات الخصوبة يقل المعروض من الايدي العاملة إذا ما كان اقتصاد غير معتمد على المهاجرين، ومع انخفاض وفيات المسنين وزيادة أعمارهم يزيد عددهم مما ينعكس في نسبة الإعالة وتتكرر مرحلة التحول الديموغرافي والتي تمتد لعقود مرة أخرى.
طبيعة التحول الديموغرافي في العالم العربي
تحليل الهيكل السكاني في المنطقة العربية:
وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الإسكوا، فإن المنطقة العربية تعاني من تحديات عديدة بالرغم من الجهود المبذولة لتنمية رأس المال البشري، والاستفادة من الأعداد الكبيرة للسكان، فحوالي 60% من إجمالي عدد السكان في المنطقة العربية تحت عمر 30 عام، إلا ان أعداد المسنين وكبار السن أيضًا في زيادة كبيرة بالتوازي مع زيادة عدد السكان من الشباب، ومن المتوقع أن يتجاوز عدد المسنين 100 مليون بحلول عام 2050، كما هو موضح بالشكل التالي، وهي نسبة زيادة كبيرة مقارنة بعام 2017 والتي بلغت 29 مليون. وبمراجعة وتحليل التركيبة السكانية للمجموعات العمرية في المنطقة العربية، يتضح أن المجموعة العمرية الواقعة بين (15-59 عامًا) هي الشريحة الاكبر، مثلما هو موضح في الشكل التالي.
أما عن وفيات الأمهات في المنطقة العربية، فقد انخفض بشكل ملحوظ بلغ النصف تقريبًا على مدار 25 عامًا؛ حيث انخفض من 6.2 مليون أم في عام 1990 إلى 5.2 مليون في عام 2000، ثم إلى 3.7 مليون حالة وفاة في عام 2015. هذه التقديرات تعطي مؤشرًا إيجابيًّا عن توافر بيئة جيدة لفرصة النافذة الديموغرافية لدول المنطقة العربية.
وفي إعلان القاهرة 2013 الذي تضمن توافق الدول العربية على أهمية الاستفادة من العنصر البشري في تخطيط أجندة التنمية المستدامة، تضمن مجموعة من النقاط الهامة، على رأسها إدراج الصحة الجنسية والإنجابية ضمن اولويات القطاع الصحي في الدول العربية، والقضاء على ظاهرة زواج الأطفال والزواج القسري، وتوسيع نطاق الرعاية الصحية، وتحسين وتوسيع الخدمات العامة في مجال تنظيم الاسرة والصحة الإنجابية، وإدراج الدراسة الجنسية بالمدارس وخارجها لتعزيز الثقافة الجنسية لدى المواطنين، على أن يتم دراستها بطريقة تلائم طبيعة المنطقة العربية، إلى جانب تطوير برامج تمكين المرأة اقتصاديًّا، والقضاء على كافة أشكال التمييز ضدها، وتعزيز ثقافة الديموقراطية والمشاركة بين الشباب، وإجراء البحوث العلمية لدراسة أحوال كبار السن، ونشر بيانات السكان للدول العربية على الصعيدين المحلي والعربي.
وخلال عام 2018، أجرت منظمة الإسكوا بالشراكة مع مكتب الدول العربية التابع لصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA-ASRO) والجامعة العربية استعراضًا لإعلان القاهرة لعام 2013 “تحديات التنمية والديناميات السكانية في عالم عربي متغير.” وقد نتجت هذه الوثيقة الختامية عن استعراض المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في 20 عامًا في المنطقة العربية، وقدمت خارطة طريق لمعالجة الأولويات السكانية والإنمائية لما بعد عام 2014.
أنماط استفادة دول المنطقة العربية من فرص النافذة الديموغرافية
بعد مرور أكثر من ثمانِ سنوات على إعلان القاهرة 2013، وبتقييم مدى التزام دول المنطقة العربية بما تم الاتفاق عليه في هذا الإعلان، يستخلص عدة ملاحظات أهمها أن معظم الدول العربية ركزت في محاربة الفقرعلى برامج توليد الدخل، والتمكين الاقتصادي. إلا أن القليل من هذه الدول الذي اعتمد على برامج لتصحيح الاختلالات الجغرافية في الاستثمار والتنمية، كما تم اتخاذ خطوات في رفع بعض التحفظات كانت اتخذتها فيما يخص اتفاقية التمييز ضد المراة (CEDAW) إلى جانب تنفيذ عدة برامج لتمكين المراة، وفيما يخص ملف الشباب، تم تنفيذ عدة برامج في مجال التدريب وتطوير منظومة التعليم، وتعزيز مشاركة الشباب في صنع القرار السياسي في بلدانهم.
بالنسبة لكبار السن، تم تنفيذ عدة برامج ومشروعات في عدة دول عربية في مجال تحسين الأحوال المعيشية لكبار السن، ونظم المعاشات، والرعاية الصحية، وفيما يرتبط ببرامج تنظيم الأسرة، اتخذت العديد من الدول العربية خطوات جادة في نشر التوعية المجتمعية بأهمية خفض معدلات الخصوبة. وبدأ التفكير في سن قوانين تسهم في الحد من زيادة عدد أفراد الاسرة مثل خفض الدعم بعد الطفل الثالث والرابع، إلى جانب منح حوافز للنساء في مقابل استخدام وسائل تنظيم النسل. وفيما يخص مسألة الهجرة؛ فقد اتخذت قلة من الدول العربية خطوات جادة في الحد من الهجرة غير الشرعية، وتقنين أوضاع اللاجئين.
هذه المراجعة تشير لحقيقة هامة؛ وهي أن هناك من دول المنطقة العربية من لم يستطع الاستفادة من النافذة الديموغرافية المتاحة للمنطقة، وبشكل عام ووفق تقديرات تقرير صادر عن منظمة الإسكوا لعام 2016، عن قياس العائد الديموغرافي للدول العربية، فإنه من المتوقع أن تستمر النافذة الديموغرافية لبعض الدول العربية مرتفعة الدخل حتى عام 2050، وانغلاقها قبل ذلك للعديد من لدول منخفضة الدخل، في حين أظهرت النتائج تناقضات فيما يخص كل من مصر والجزائر، والتي بينت أن النافذة الديموفراغية متوقع أن تغلق بالنسبة لمصر في عام 2043، و2038 بالنسبة للجزائر. ولعل مبررات ذلك هو زيادة أعداد السكان في الدولتين، والنمو السكاني الكبير فيهما.
وبالنظر للشكل التالي وبمقارنة تطور أعداد السكان في سن العمل في المنطقة العربية مقسمة إلى دول المشرق ودول المغرب والدول العربية الاقل نمواً ودول مجلس التعاون الخليجي، يلاحظ تطور منحنى السكان في سن العمل في اتجاه صاعد، بالتوازي مع اتجاه منحنى نسبة الإعالة في اتجاه متناقص، خاصة بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، يليها دول المغرب العربي، مع اتجاه معدلات الخصوبة نحو الانخفاض، واتجاه معدلات الوفيات في المواليد في اتجاه متناقص، والاتجاه الغيجابي لكافة مؤشرات والعوامل المحفزة لرأس المال البشري، فإن عدداً من دول المنطقة العربية نجحت في استغلال فرصة النافذة الديموغرافية، واصبحت في طريقها للاستفادة من العائد الديموغرافي. ومن هذه الدول، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، وما يدعم ذلك حركة الهجرة للشباب والعمالة الماهرة المدربة في سن العمل إليها من الدول العربية، يليها دول المغرب العربي مصر والمغرب والجزائر، إلا أن نتيجة لعدد سكانها المحدود فقد انغلقت فيها فرصة النافذة الديموغرافية مبكراً.
يتطلب استمرار تحقيق الدول العربية للعائد الديموغرافي وتحقيق النمو الاقتصادي، القدرة على استيعاب ما يقرب من 25 مليون طالب وطالبة في المدارس، في ظل وجود حوالي 15 مليون طفل وطفلة خارج المدرسة في المنطقة نتيجة للنزاعات والحروب، وفقاً لمنظمة الإسكوا، وخلق ما يقرب من 39 مليون وظيفة جديدة كل عام، في ظل معدلات بطالة تصل في منطقة شمال افريقيا إلى 29%، و25% في باقي دول المنطقة العربية.
رابعاً: تقييم مدى استفادة جمهورية مصر العربية من فرصة النافذة الديموغرافية اليونيسيف أشكال هامة لتوضيح العائد الديموغرافي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.pdf:
يمكن القول إن الحكومة المصرية استطاعت الالتزام إلى حد كبير بإعلان القاهرة 2013، ومازالت تقوم بتنفيذ العديد من هذه الالتزامات، بدأت الحكومة المصرية منذ مطلع عام 2015 في تطبيق سياسات دعم عن طريق استهداف الفقراء، لتحسين أحوالهم المعيشية وتنمية العنصر البشري من خلال مشروطية في مقابل الدعم النقدي تتمثل في التزام الأمهات بزيارة الوحدات الصحية، وعدم تسرب الاطفال من المدارس في مقابل الحصول على الدعم.
إلى جانب ذلك بدأت تطبيق منظومة تطوير برامج التعليم قبل الجامعي، واستراتيجية تنمية الاسرة المصرية لخفض عدد أفرادها من خلال تقديم حافز للأم في مقابل التزامها بطفلين فقط، بالتوزاي مع ذلك انتهجت استراتيجية تمكين المرأة اقتصاديًّا من خلال تقديم قروض مشروعات صغيرة ومتوسطة ومتناهية الصغر بفائدة متناقصة في إطار مبادرة البنك المركزي المصري. كما زادت نسبة مشاركة الشباب في مراكز صنع القرار، والمجالس النيابية.
على صعيد آخر، سجلت معدلات الفقر انخفاضًا للمرة الأولى منذ 30 عام في نتائج بحث الدخل والإنفاق الأخير لتسجل 29.7% عام 2019/2020 في مقابل 32.5% في 2017، كما انخفضت معدلات الزيادة الطبيعية في أعداد السكان لتصل إلى 1.8% في عام 2019 في مقابل 2.5% عام 2012.
خلاصة القول، فإن ما يعادل ربع سكان العالم يقع في الفئة العمرية (10-24 عامًا)، كما تتراجع معدلات الخصوبة في دول عديدة حول العالم، وتستفيد المنطقة العربية من النصيب الأكبر من النافذة الديموغرافية، واستطاعت عدة دول الاستفادة من العنصر البشري في التنمية الاقتصادية وتنمية رأسمالها البشري، الأمر الذي انعكس في معدلات أدائها الاقتصادي، وحققت مستويات نمو ملموسة خاصة دول مجلس التعاون الخليجي. ومن المتوقع أن تستمر هذه الدول في حصد ثمار العائد الديموغرافي لعدة عقود مقبلة إلى أن تنغلق نافذتها الديموغرافية.