ازدادت أهمية الأمن البحري (أو أمن الممرات البحرية) في الآونة الأخيرة بعد تعاظم المخاطر التي هددت تأمين طرق نقل التجارة الدولية من قبل الجماعات العنيفة من غير الدول، كما تبدى في حالة القراصنة الصوماليين في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، واتجاه بعض الجماعات الإرهابية لاستهداف مصالح بعض الدول البحرية سواء كانت تجارية أم عسكرية، فضلاً عن ارتباط الجريمة المنظمة بهذه الممرات البحرية. وفي الشرق الأوسط، الواقع على أكثر الطرق البحرية حيويةً، تتعاظم المخاطر على أمن الممرات البحرية، وإن تبدت بعض الفرص مؤخرًا لتعظيم فرص التعاون لتأمين التجارة العابرة عبر بحار ومضايق المنطقة.
ما هو الأمن البحري؟
لا يوجد تعريف عالمي للأمن البحري Maritime Security حتى من قبل المنظمات الدولية المعنية، إلا أن بعض الدراسات تعرفه على إنه «مزيج من التدابير الوقائية التي تهدف إلى حماية المجال البحري من التهديدات غير المشروعة المحتملة. وعلى الرغم من تمحور أغلب مفاهيم الأمن حول الدولة إلا أن الأمن البحري والمشاركة فيه لا يخضعان لسيطرة الجهات الفاعلة الحكومية، إنما تشارك فيه عدد من القطاعات الدولية العامة والخاصة».
تأتي على رأس تلك الكيانات المنظمة البحرية الدولية IMO، وهي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، تم تأسيسها عام 1958 بالمملكة المتحدة، وتعتبر بمثابة الوصي على جميع اللوائح اللازمة لوضع المعايير المناسبة والحفاظ عليها.
يشمل الأمن البحري المناطق التي تحتاج فيها السفن والتجارة البحرية إلى الحماية من مجموعة من العمليات غير المشروعة مثل: الإرهاب، والقرصنة، والاتجار بالبشر، والهجرة غير النظامية، والصيد غير المشروع، والتلوث البيئي، وغيرها.
تعتبر الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحر SOLAS (سولاس) واحدة من أقدم المعاهدات الدولية المتعلقة بالأمن البحري والسفن التجارية. تم اعتماد نسختها الأولى عام 1914 بعد غرق سفينة «تيتانيك»، ثم تم تعديلها أكثر من مرة خلال سنوات 1929، و1948، و1960، وأخيرًا في نوفمبر 1974 وتم اعتماد نسختها النهائية في مايو 1980.
شهدت فترة الثمانينيات من القرن الماضي قلقًا متزايدًا بشأن الأعمال غير القانونية التي تهدد الأمن البحري، لاسيما بعد ورود العديد من التقارير المتعلقة باختطاف سفن أو تفجيرها، ومن أبرز تلك الحوادث اختطاف السفينة أكيلي لاورو الإيطالية عام 1985 في السواحل المصرية على يد أربعة فلسطينيين مسلحين ينتمون لجبهة التحرير الفلسطينية؛ بهدف الإفراج عن 50 فلسطينيًّا من السجون الإسرائيلية، وكان على متن السفينة 320 فردًا من مختلف أطقمها إلى جانب 80 راكبًا.
أُثير الحديث بشكل موسع عن الأمن البحري مرة أخرى في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001؛ حيث قادت الولايات المتحدة الأمريكية وقتها المجتمع الدولي إلى أهمية حماية قطاع النقل البحري الدولي من تهديد الإرهاب، وتم ادراج نظام تنظيمي جديد للأمن البحري في اتفاقية «سولاس» يُطلق عليه ISPS Code أو الكود الدولي لأمن السفن ومرافق الموانئ.
كما تم تشكيل العديد من المنظمات الحكومية والدولية للمساعدة في وضع معايير لتحسين الأمن البحري من خلال الحرص على تثقيف، وتدريب موظفي الشركات بشكل مستمر على كيفية التعامل مع التهديدات الأمنية المحتملة.
الأمن البحري في الشرق الأوسط
ارتبط مفهوم الأمن البحري ارتباطًا وثيقًا بمنطقة الشرق الأوسط، لاسيما وأنها تضم مجموعة من أهم الممرات المائية في العالم، بالإضافة إلى ما تحتويه من مصادر الطاقة كالنفط، والغاز الطبيعي. وهو يمثل دافعًا قويًّا لبعض القوى الإقليمية والدولية لمحاولة فرض النفوذ والسيطرة؛ ومن ثمَّ الدخول في مواجهات مباشرة مع دول المنطقة.
من ناحية أخرى، هناك العديد من التطورات التي طرأت على المنطقة خلال السنوات الأخيرة، والتي كانت لها بالفعل انعكاسات قوية على أمنها البحري؛ أبرزها تفشي انتشار التنظيمات المتطرفة المدعومة من قبل قوى إقليمية ودولية، وكذلك الحروب الأهلية التي شهدتها بعض الدول العربية، والتي كان لها تأثير سلبيٌ على أمن المنطقة؛ بسبب ارتباطها بجرائم أخرى وهي الهجرة غير النظامية، والتجارة غير المشروعة، وغيرهما.
يتعلق الحديث عن قضية الأمن البحري في منطقة الشرق الأوسط، بثلاث مناطق استراتيجية رئيسة هي: منطقة الخليج العربي وتحديدًا مضيق هرمز الذي يُعد واحدًا من أهم الممرات المائية في العالم، ومنطقة خليج عدن وجنوب البحر الأحمر، ومنطقة شرق البحر المتوسط.
منطقة الخليج العربي
تضم منطقة الخليج مجموعة من الممرات المائية الحيوية التي يتوقف عليها الاقتصاد العالمي وإمدادات الطاقة في العالم أبرزها مضيق هرمز، الذي يُعد البوابة الرئيسية لأكبر مصدري الطاقة في العالم بصفة عامة ودول الخليج بصفة خاصة؛ حيث تعتمد عليه بنسبة 70% لتمويل موازناتها من خلال بيع النفط الخام في الأسواق العالمية.
تم تصنيف مضيق هرمز من قبل إدارة معلومات الطاقة الأمريكية على إنه أهم ممر نفطي في العالم؛ ففي عام 2011 شهد المضيق مرور ما يقرب من 17 مليون برميل من النفط في اليوم، وهو ما يمثل حوالي 35٪ من إجمالي النفط المنقول بالسفن في العالم.
عانت التجارة البحرية في منطقة الخليج على مدار تاريخها من العديد من التوترات، وغالبًا ما كانت إيران هي العامل المشترك في معظمها. تدرك إيران تمامًا الأهمية الاستراتيجية لمضيق هرمز، وعلى الرغم من مشاطرتها لعدد من الدول العربية في الاعتماد عليه في تصدير النفط، إلا أن إيران لم تتخلَّ عن لغة التهديد بإغلاقه أكثر من مرة.
في ثمانينيات القرن العشرين، وجهت الحكومة الإيرانية العديد من التهديدات للسفن التي كانت ترفع العلم الكويتي، وذلك بسبب دعم الكويت للعراق في الحرب الإيرانية العراقية (1980 – 1988)، شأنها شأن بقية دول الخليج.
أما في الوقت الراهن، صار التهديد أكثر خطورة لاسيما مع تطور طبيعة التوترات العربية الإيرانية، وكذلك علاقة إيران بالفاعلين الدوليين في المنطقة؛ فقد أدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» على إيران عام 2018 إلى تصاعد حدة الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وترتب على ذلك تزايد أعداد السفن الحربية في منطقة الخليج، الأمر الذي صار يمثل تهديدًا واضحًا لأمن المنطقة.
في أعقاب هذا، شهدت المنطقة مواجهات صدامية بين الطرفين، امتدت أثارها إلى بعض دول المنطقة، ومن أبرز تلك الأحداث
- في يونيو 2019، أسقطت إيران طائرة أمريكية مسيرة بدعوى أنها كانت تجمع معلومات استخباراتية باستخدام المجال الجوي الإيراني. كما تعرضت ناقلتان نفطيتان للقصف وسط مضيق هرمز بعد أسابيع قليلة من الهجوم على أربع ناقلات نفط تجاه سواحل الإمارات العربية المتحدة في؛
- في سبتمبر 2019، تعرضت المنشآت النفطية السعودية في مدينة «بقيق» للهجوم؛
- في يناير 2020، اغتالت الولايات المتحدة الأمريكية «قاسم سليماني»؛ قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في العراق؛
- في أبريل 2020، اتهمت البحرية الأمريكية القوات الإيرانية بمضايقة سفنها في الخليج، الأمر الذي دفع الرئيس السابق «ترامب» إلى توجيه دعوة للجنود على متن السفن الحربية الأمريكية لإسقاط أي زوارق حربية إيرانية تحاول ارتكاب الفعل نفسه مرة أخرى.
ظهرت العديد من الدعوات المطالبة بضرورة توخي الحذر، والتعاون الأمني والرقابي لضمان حرية الحركة البحرية في المنطقة، أبرزها «بعثة التوعية البحرية الأوروبية في مضيق هرمز» (EMASOH)، وهي مبادرة فرنسية، مقرها «أبو ظبي»، هدفها ضمان سلامة الممرات الملاحية المختلفة في الخليج، تضم ثمان دول أوروبية هي: بلجيكا، والدانمارك، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، وهولندا، والبرتغال.
خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر:
تُعد هذه المنطقة ساحة للتنافس بين عدة قوى دولية وإقليمية، أبرزها: الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وإيران، والسعودية، وإسرائيل، والإمارات، ومصر، وتركيا. وغالبًا ما تدفع الدول بحاملات طائراتها ومدمراتها الحربية إلى المياه الدولية لحماية مصالحها هناك.
حرب اليمن: أصداء بحرية:
أثرت حرب اليمن بشكل كبير على الوضع في تلك المنطقة؛ حيث قابل الاقتتال البري والتدخل العسكري في اليمن – المعروف باسم التحالف العربي- حربًا إقليمية بحرية في عرض البحر الأحمر وخليج عدن منذ 2015.
استهل التحالف مهامه العسكرية بإغلاق الموانئ اليمنية وفرض طوق بحري بغرض منع تهريب الأسلحة للحوثيين، تنفيذًا لقرار الأمم المتحدة رقم 2216 لعام 2015. وعزز التحالف تواجده العسكري في مياه البحر الأحمر بعد أن استطاعت السعودية إزاحة التواجد العسكري الإيراني من ميناء «عصب» الإرتيري لمصلحة إقامة قاعدة عسكرية إماراتية هناك في عام 2015.
وانطلاقًا من هذه القاعدة العسكرية، سمحت إريتريا استخدام أراضيها، ومياهها الإقليمية، ومجالها الجوي لتسهيل تنفيذ التحالف مهامه العسكرية في اليمن، بالإضافة إلى منح قاعدة «عصب» العسكرية الإمارات عمقًا استراتيجيًّا في أي صراعٍ مستقبلي مع إيران، سواء في حالة تهديد باستخدام القوة أو اندلاع مواجهات مباشرة.
في عام 2016 بدأت إيران استعادة تواجدها في مياه البحر الأحمر من خلال إرسال السفينة «سافيز» إلى منطقة «أرخبيل دهلك» الإريترية بمواجهة السواحل اليمينة، والتي تسبب وجودها في تلك المنطقة إلى تصاعد الأعمال العدائية من قبل الحوثيين في مضيق باب المندب؛ ففي 1 أكتوبر ألحقت صواريخ كروز المضادة للسفن التي أُطلقت من الساحل اليمني الذي يسيطر عليه «الحوثيون» أضرارًا بالغة بسفينة «سويفت»، وهي سفينة إنزال للقوات الإماراتية ومركز خدمات لوجستية.
في نوفمبر 2016، أعلنت إيران عن رغبتها في إنشاء قواعد عسكرية بحرية في اليمن، وسوريا كجزء من مساهمتها في حفظ الأمن المائي في المنطقة، وبدا ذلك واحدًا من أهدافها الاستراتيجية نحو التوسع وفرض الهيمنة الإقليمية، الأمر الذي عزز حالة عدم الاستقرار في المياه الدولية في منطقة الشرق الأوسط.
وفي منتصف يونيو 2018، وجدت قوات التحالف في ثنايا هذا التصعيد العسكري فرصة لتنفيذ هجوم خاطف على مدينة «الحديدة» الساحلية في اليمن؛ بهدف السيطرة على مطارها ومينائها، واستهدفت طائرات وسفن التحالف تحصينات «الحوثيين» في عملية سميت بـ «النصر الذهبي». وفي يوليو من العام نفسه، أعلنت السعودية استهداف ناقلة نفط تابعة لها في البحر الأحمر من قبل «الحوثيين».
عقب تلك الأحداث، بدأت مشاورات سياسية مع دول حوض البحر الأحمر لتعزيز كيان إقليمي يضم السعودية، ومصر، واليمن، والسودان، وجيبوتي، والصومال، والأردن، وبالفعل تم تأسيسه في يناير 2020 تحت مسمى «مجلس الدول العربية والإفريقية المُطلة على البحر الأحمر وخليج عدن».
يتبنى هذا المجلس رؤية شاملة للتعاون بين أعضائه، ويهدف إلى ضمان أمن البحر الأحمر وخليج عدن، كما أنه يحظى بدعم العديد من القوى الدولية؛ مما قد يمثل فرصة هامة لتعزيز أسس الأمن والاستقرار في تلك المنطقة. كذلك يسعى إلى تعزيز الحضور العربي في تلك المنطقة، وتحجيم نفوذ القوى الإقليمية المناهضة للمصالح العربية والخليجية، والتي تسعى دائمًا إلى توظيف الممرات المائية لخدمة أجنداتها ومشروعاتها.
تنافس إسرائيلي – إيراني:
خلال العام الماضي (2021) شهدت المنطقة صراعًا بحريًّا بين إسرائيل وإيران؛ فقد تعرضت سفينة الشحن الإسرائيلية «إم في هيليوس راي» لهجوم إيراني تجاه خليج عُمان.
توالت بعد ذلك الضربات بين الطرفين؛ حيث أصيبت السفينة الإيرانية «شهر كورد» بالقرب من سوريا، تلتها إصابة سفينة الحاويات الإسرائيلية «لوري» في بحر العرب، ثم استهداف السفينة «سافيز» ذات الثقل الاستراتيجي بالنسبة لإيران في البحر الأحمر، أعقبها مباشرةً ضرب السفينة «هايبريون راي» الإسرائيلية بالقرب من ساحل الإمارات.
في أغسطس 2021 استبدلت إيران السفينة «سافيز» بسفينة الشحن «بشهاد» لترسو في نفس المنطقة البحرية بـ «أرخبيل دهلك» بإريتريا وبمواجهة السواحل اليمينة.
في 30 يوليو استهدفت طائرة بدون طيار السفينة «ميرسر ستريت» في بحر العرب، وهي ناقلة نفط ترفع العلم الليبيري ومملوكة لرجل أعمال إسرائيلي. وقعت أصابع الاتهام على إيران وأفادت المخابرات الأمريكية أن الطائرة أُطلقت من شرق اليمن.
ثالثًا: منطقة شرق البحر المتوسط:
تحتل تلك المنطقة موقعًا استراتيجيًّا كبيرًا؛ حيث تُعد مركزًا هامًا للنقل التجاري، كما تُعد مجالاً للتجارة البحرية بنسبة 30%، ومن أبرز نقاط عبور النفط والغاز الطبيعي من الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي، بواقع ما يقدر بـ 35% من الغاز، و50% من النفط، وتمثل المنطقة أيضًا مركزًا للدعم الأمني؛ حيث تقف كحائط صد ضد التهديدات الإرهابية العابرة في اتجاه الدول الأوروبية.
تحتوي المنطقة على كميات هائلة من الثروات الطبيعية من النفط والغاز الطبيعي، وفقاً لهيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية التي أصدرت تقييمًا في مارس عام 2010 أفادت فيه بأن منطقة حوض بلاد الشام، والتي تشمل الأجزاء البحرية لغزة، ولبنان، وسوريا، وإسرائيل، وقبرص، يمكن أن تحتوي على نحو 120 تريليون قدم مكعب (3.4 مليار متر مكعب) من الغاز القابل للاستخراج، و1.7 مليار برميل من النفط، تتراوح قيمتها بين 700 مليار دولار، و3 تريليونات دولار.
ارتبطت التوترات التي تشهدها منطقة شرق المتوسط بتركيا – شأنها شأن إيران في منطقة الخليج العربي – حيث اتخذت موقفًا متشددًا إزاء دول المنطقة خاصة بعد الاكتشافات الهائلة لمصادر الطاقة في محاولة منها لتأمين حصتها من موارد المنطقة تخرجها من أزماتها الاقتصادية، بالإضافة إلى محاولة تأكيد ما تردده حول وجود حقوق لها في شرق المتوسط وفي الجزر اليونانية الواقعة تجاه ساحل بحر إيجة.
أثار توجه دول شرق البحر المتوسط لتوقيع اتفاقيات ثنائية لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة استياء تركيا، التي رأت في ذلك تهديدًا مباشرًا لما تدعيه من حقوق لها في ثروات شرق المتوسط، ومن أبرز هذه الاتفاقيات الاتفاقية الموقعة بين مصر واليونان في أغسطس 2020.
التعنت التركي وانعكاساته على المنطقة:
عانت المنطقة في السنوات الأخيرة من بعض التوترات؛ بسبب التجاوزات التي تمارسها تركيا، والمتمثلة فيما يلي:
- الإصرار على التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في المنطقة؛ حيث أرسلت على فترات متقطعة سفنها للتنقيب في مناطق متنازع عليها سواء مع قبرص أو اليونان، وهو ما تسبب في تصاعد التوتر في المنطقة، وقد جاء هذا الإصرار رغم التحذيرات الدولية؛
- إرسال سفن حربية مصاحبة لسفن التنقيب عن الغاز والنفط الأمر الذي زاد من احتمال اشتعال مواجهات عسكرية كما حدث بين اليونان وتركيا في منتصف أغسطس 2020؛
- القيام بمناورات عسكرية للتأكيد على استعدادها العسكري، أبرزها المناورة التي أجرتها في 29 أغسطس 2020 لمدة أسبوعين في منطقة قرب بلدة «أنامور» الواقعة في جنوب تركيا. وفي 29 سبتمبر من العام نفسه أجرت تدريبات عسكرية في منطقة تقع بالقرب من جزيرتي «رودس» و«كاستيلوريزو» اليونانيتين.
انعكست تلك التطورات على المنطقة بأكملها؛ حيث شهدت حالة عدم الاستقرار، وتوقع البعض باحتمالية نشوب صراعات بين تلك الدول؛ فعلى سبيل المثال، رغم المساعي التي بذلها حلف شمال الأطلسي وألمانيا، والتي أثمرت عن الاتفاق على عودة المحادثات المتوقفة منذ عام 2016 بين أنقرة وأثينا، فإن التوتر ما لبث أن عاد مع إعلان اليونان في 3 أكتوبر 2020 إجراء مناورات عسكرية تتضمن تدريبًا على الرماية في إحدى منطقتي شرق المتوسط خلال الفترة ما بين بين 6 و8 أكتوبر 2020.
أعلنت تركيا رغبتها في إجراء تدريبات عسكرية في المكان والزمان نفسهما اللذين حددتهما اليونان بحجة أن المنطقتين اللتين أعلنت أثينا إجراء تدريباتها فيهما تقعان في مناطق الصلاحية البحرية التركية، على شواطئ ولاية أنطاليا جنوب البلاد.
استغلت روسيا الخلاف اليوناني التركي من أجل تعزيز وجودها في المنطقة خاصةً في ظل التضييق الذي تتعرض له من قبل قوات الناتو؛ حيث عرضت المساعدة في المحادثات بين تركيا واليونان من أجل تطوير حوار بناء يهدف إلى حلول مقبولة للطرفين.
شهدت المنطقة تشكيل تحالف إقليمي جديد – اعتبرته تركيا بمثابة وسيلة لاستبعادها من خريطة ثروات المنطقة – هو منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تم الإعلان عنه عام 2019، وتحول إلى منظمة حكومية دولية مقرها القاهرة في سبتمبر 2020 بمشاركة 7 دول هي: مصر، وفلسطين، والأردن، وإيطاليا، وقبرص، واليونان، وإسرائيل. وفي ديسمبر من العام نفسه، انضمت إليه الإمارات بصفة مراقب.
يُعد هذا المنتدى أول تنظيم إقليمي دولي في مجال الغاز، ويكمن الهدف الأساسي منه في تسهيل استغلال احتياطيات الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال الاستفادة من البنية التحتية الموجودة، وتشجيع أنشطة الاستكشاف المستقبلية – لاسيما أن الكثير من موارد المنطقة لا تزال غير مكتشفة – وذلك من خلال إشراك القطاع الخاص، والمؤسسات المالية في تعزيز قدرات تحقيق الدخل.
وعلى الرغم من تركيز نطاق عمل المنتدى على تعاون الدول الأعضاء في مجال أمن الطاقة، كما أن للمنتدى دورًا أمنيًّا هامًا؛ حيث يعتبره المحللون بمثابة تحالف إقليمي ضد تركيا وتهديداتها المستمرة لأمن المنطقة. إلا أنه قد يكون نواة لفتح حوار حول تأمين خطوط نقل الطاقة والتجارة الهامة العابرة بالمنطقة، دون أن يتخلى عن مهمته الأساسية كمنظمة للحوار حول التعاون في مجال الطاقة.
في الختام، يمكن القول إنه على الرغم من ظهور بعض المبادرات الإقليمية الناشئة في مجال الأمن البحري في منطقتي شرق المتوسط والدول المطلة على البحر الأحمر، إلا أنه يقع على عاتق هاتين المؤسستين مسئولية كبيرة خلال الفترة القادمة، لاسيما في ظل افتقاد المنطقة إلى منظمة أمنية قادرة على فرض الأمن البحري.
على الرغم من تركيز آليات عمل هاتين المنظمتين حول التنسيق والتعاون بين الدول الأعضاء دون الإشارة إلى وجود نية لبناء قوة عسكرية مشتركة – على الأقل في الوقت الحالي – إلا إن هذا لا ينفي إمكانية التعاون الثنائي العسكري بين الدول الأعضاء خاصةً في ظل التحديات الكبيرة التي تشهدها المنطقة كالتوتر الإيراني – الأمريكي، والإيراني – الإسرائيلي، واستمرار الأزمة اليمنية، والتهديد التركي لأمن شرق المتوسط، وغيرها.
هناك العديد من الفرص التي يمكن الاستفادة منها من أجل نجاح هاتين المنظمتين الناشئتين في تحقيق الأمن البحري في المنطقة، وذلك على النحو التالي:
- تأييد العديد من القوى الدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية – على سبيل المثال – التي اقترحت إبان إدارة الرئيس السابق «ترامب» تأسيس منظمة لتحالف الخليج والبحر الأحمر – على غرار حلف شمال الأطلسي – يضم بجانبها عددًا من الدول مثل: مصر، والأردن، والكويت، والسعودية، والبحرين؛
- إمكانية استقطاب المنظمات الدولية المعنية بالأمن البحري في الشرق الأوسط مثل: الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والبنك الدولي، من خلال الانضمام إلى تلك المنظمات بصفة مراقب أو شريك في برامجها؛
- تمثل هاتان المنظمتان أطرًا مؤسسية في مناطق تمثل تقاطعًا لقارات وملتقى طرق عالمية، ما يعني أنه من الممكن أن تشكل تكتلات إقليمية اقتصادية قوية تحظى باهتمام القوى الكبرى في المستقبل، وما يتبع ذلك من تعزيز فرص لتعظيم التعاون الاقتصادي، والتنمية التجارية وتنفيذ الخطط الاستثمارية بين الدول الأعضاء مع مختلف دول العالم.
يبقى من الضروري أيضًا الأخذ في الاعتبار تبني أطر سياسية أوسع لتعزيز الأمن البحري في المنطقة، من خلال:
- إيجاد قاعدة من المصالح المشتركة مع القوى الكبرى في العالم، كالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والصين، مع أهمية إشراك تلك الدول في احتواء التحديَّات القائمة والمحتملة التي تهدد حركة الملاحة والأمن في المنطقة؛
- العمل على إيجاد مظلة أوسع للتعاون بين أصحاب المصلحة من الشركاء الإقليميين والدوليين في ضمان أمن الممرات المائية لتشمل قضايا أخرى مثل: التجارة، وتطوير البنية التحتية، والأمن البحري، وحماية البيئة، وإدارة الصراعات، خاصةً أن هذه القضايا تندرج ضمن أولويات المجتمع الدولي؛
- مراعاة مصالح الدول المعنية غير الأعضاء، والتفكير مستقبلاً في ضم دول جديدة تتفق أهدافها مع أهداف المنظمتين.