تمثل الجريمة المنظمة أخطر تهديد للأمن البشري، والتنمية، والعدالة في العالم اليوم؛ إذ يعيش ما يقرب من 80% من سكان العالم في بلدان ذات مستويات عالية من العمليات الإجرامية، تأتي على رأسها ظاهرة الاتجار بالبشر، والمخدرات والسلاح. كما يعد الاقتصاد الإجرامي الأكثر انتشارًا في العالم الآن؛ الأمر الذي يمثل تجسيدًا واضحًا للتطور غير الإنساني الذي وصلت إليه الجريمة المنظمة.
جاء ذلك في مقدمة التقرير الصادر العام الماضي (2021) عن «المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة العابرة للحدود» تحت عنوان «المؤشر العالمي للجريمة المنظمة»، وهو بمثابة الأداة الأولى من نوعها المصممة لتقييم مستويات الجريمة المنظمة، وقياس مدى قدرة الدول على الصمود في مواجهة هذا النشاط، ويشمل المؤشر جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، ومن المقرر أن يتم تحديثه كل عامين.
الجريمة في ظل الوباء
يركز التقرير على العام 2020 الذي شهد انتشارًا واسعًا للجريمة المنظمة؛ نتيجة حالة الفوضى التي نجمت عن انتشار وباء كورونا (COVID –19) الذي تسبب في قتل ما يقرب من 2 مليون شخصًا خلال هذا العام فقط، بالإضافة إلى الخلل الذي لحق بالاقتصاد العالمي؛ نتيجة عمليات الإغلاق، والقيود التي فُرضت على السفر.
استغل المجرمون تلك الأوضاع، وظهرت أساليب جديدة للتجارة غير المشروعة؛ تمثلت في تزييف اللقاحات، ومعدات الحماية الشخصية، فضلاً عن التوسع في تجارة المخدرات، ونقلها ضمن شحنات الإمدادات الطبية اللازمة لمواجهة الوباء.
من ناحية أخرى، شهد هذا العام عدة تطورات في الدول الهشة، ومناطق الصراع المعروفة بأنها محاور رئيسية في الاقتصاد العالمي غير المشروع. ففي إفريقيا شهدت مالي، على سبيل المثال،انقلابًا عسكريًّا أطاح بالرئيس «إبراهيم بوبكر كيتا»، الأمر الذي ساعد على ازدهار الاقتصادات غير المشروعة في منطقة غرب أفريقيا..
وفي أمريكا اللاتينية، أدى استمرار عدم الاستقرار السياسي في «فنزويلا» إلى تعزيز وضع الجماعات الإجرامية الإقليمية، وجعلت من فنزويلا مركزًا تجاريًّا رئيسيًّا للتدفقات غير المشروعة للأسلحة والأشخاص في المنطقة.
أيضًا من الملامح المميزة لعام 2020 تورط الجهات الحكومية في الممارسات الفاسدة وغير القانونية، الأمر الذي ساعد على تعزيز التدفقات العالمية غير المشروعة، وفي الوقت نفسه حَدَّ من قدرة الدول على الصمود والمواجهة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك انفجار مرفأ بيروت في شهر أغسطس، والذي اعتُبر على أنه نتيجة للفساد المتجذر داخل جهاز الدولة اللبنانية.
المؤشر العالمي للجريمة المنظمة: المنهجية والنتائج
يتكون المؤشر من مقياسين مركبين يُقَيّمَان الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على حد سواء وفقًا لمستويات إجرامها على درجة من 1 إلى 10 (من الأقل إلى أعلى مستويات الجريمة المنظمة)؛ ووفقًا لصمودها في التصدي لها أيضًا وفقًا لمقياس من 1 إلى 10 (من أدنى إلى أعلى مستويات الصمود).
حدد المؤشر أربعة أنواع من الجهات الإجرامية، هي: الجهات التابعة للدولة، والشبكات الإجرامية، وجماعات المافيا، والجهات الأجنبية، كما استند إلى فرضية أساسية وهي «إن اخفاق الدول في توفير بيئات آمنة وسبل عيش اقتصادية مستقرة يخلق ظروفًا مواتية للاستغلال».
وضع التقرير تعريفًا للجريمة المنظمة Organized Crime على إنها «أنشطة غير مشروعة تنفذها مجموعات أو شبكات تعمل بشكل متضافر، إما داخل الدولة أو بشكل عابر للحدود، من خلال الانخراط في أعمال عنف أو فساد من أجل الحصول – بشكل مباشر أو غير مباشر – على أموال أو منفعة مادية».
كما عَرَّف الصمود Resilience على إنها «القدرة على مقاومة وتعطيل الأنشطة الإجرامية المنظمة من خلال التدابير السياسية، والاقتصادية، والقانونية، والاجتماعية المبذولة من قبل الجهات الحكومية وغير الحكومية على حد سواء».
يوفر المؤشر طريقة موحدة لتقييم الإجرام والصمود عبر مجموعة من العوامل والبيئات، وذلك من منطلق أن الدول غير متكافئة وربما تعاني من جرائم مفروضة عليها بحكم طبيعتها. على سبيل المثال، قد نجد أن الدول التي تستضيف مستويات أعلى من التنوع البيولوجي هي أكثر عرضة للجرائم البيئية، في حين أن الدول التي تشهد نزاعات قد تكون أكثر عرضة لزيادة التدفقات غير المشروعة عبر الحدود.
أفاد المؤشر بأنه لا توجد قواعد صارمة عند التعامل مع الجريمة المنظمة؛ فما قد يجعل بلدًا ما عرضة للإجرام، قد يكون أمرًا غير جوهري بالنسبة لبلد آخر. إلا أن البلدان الأكبر حجمًا قد تكون أكثر عرضة للتدفقات غير المشروعة؛ لأنه من الصعب مراقبة حدودها، بينما قد يكون تأثير الجريمة المنظمة أكبر على الدول الأصغر حجمًا.
أظهرت نتائج المؤشر أن قارة آسيا التي تضم 46 دولة قد سجلت أعلى مستويات الإجرام بنسبة 5.30، كما أن الاتجار بالبشر هو السوق الإجرامي الأكثر انتشارًا فيها. على سبيل المثال، تضم منطقة جنوب آسيا ست دول من أصل ثمانية تمثل أكبر أسواق الاتجار بالبشر في العالم وهي: أفغانستان، وباكستان، والهند، ونيبال، وبنغلاديش، وجزر المالديف.
تأتي تجارة المخدرات في المركز الثاني، يليها تهريب البشر، ثم جرائم الموارد غير المتجددة، وأخيرًا جرائم الحيوانات.
يرى المؤشر أن الجهات الفاعلة التابعة للدولة هي أبرز الفاعلين الإجراميين في آسيا. وبالتالي، فمن الطبيعي انخفاض قدرة دول القارة على الصمود أمام الجريمة المنظمة، تليها الشبكات الإجرامية، ثم الجهات الأجنبية، وأخيرًا جماعات المافيا.
سجلت منطقة غرب آسيا أعلى معدلات الجريمة في العالم؛ حيث سجلت سوريا نسبة 6.84، ولبنان 6.76، والعراق 7.05، وإيران 7.10، وتركيا 6.89، واليمن 6.13، وذلك لكونها منطقة هشة تعاني من العديد من الصراعات، الأمر الذي ساعد على توفير بيئة مواتية للجريمة، لاسيما مع تراجع مؤشرات شفافية الحكومة والمساءلة، والنظام القضائي، والجهات الفاعلة غير الحكومية، وذلك بسبب القمع الذي تفرضه دول المنطقة على المجتمع المدني، ووسائل الإعلام.
تضم أيضًا منطقة جنوب آسيا مجموعة واسعة من الاقتصادات غير المشروعة؛ أبرزها تجارة المخدرات التي تعززت بشكل كبير في أعقاب الاتفاق الذي أبرمته الولايات المتحدة الأمريكية في فبراير 2020 مع طالبان – اللاعب الرئيس في تجارة الهيروين في المنطقة.
في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن جنوب آسيا هي ثاني أعلى منطقة لتجارة الهيروين بعد آسيا الوسطى والقوقاز، ناهيك عن تسجيل ميانمار أعلى درجة على مستوى العالم في تجارة المخدرات (9.5)، وذلك بالتساوي مع سوريا.
معايير الصمود في مواجهة الجريمة
أما عن درجة الصمود، فقد تصدرت منطقة شرق آسيا القارة؛ فطوال عام 2020 تم الترويج لكوريا الجنوبية باعتبارها واحدة من قصص النجاح في العالم من حيث مواجهتها لوباء كورونا، والعمل بسرعة لتنفيذ أنظمة تتبع فعَّالة، وضمان ثقة السكان، والتخفيف من الآثار السلبية للوباء على الاقتصاد.
من ناحية أخرى، أغلقت بعض دول المنطقة حدودها كاليابان، على سبيل المثال، ونجحت المنطقة ككل في الحفاظ على درجة من الاستقرار على مدار العام لم تتحقق في مناطق آسيوية أخرى.
جاءت قارة أفريقيا في المركز الثاني بنسبة 5.17؛ حيث أدى تقلص الاقتصاد القاري بنسبة 3.4٪ في عام 2020 بسبب وباء كورونا إلى تعرض العديد من الشركات لخسائر فادحة، الأمر الذي أدى إلى التحول نحو ممارسة الأنشطة غير المشروعة للحصول على مصادر دخل بديلة.
في العام نفسه، استشرى الصراع، والهشاشة، والفساد في العديد من البلدان، وكذلك العنف العرقي، وصعود الجهاديين في منطقة الساحل، بالإضافة إلى الأزمة السياسية في غينيا-بيساو، والتمرد في موزمبيق؛ الأمر الذي ساعد على توسيع أنشطة الجريمة المنظمة.
بالنسبة لقدرة دول القارة على المواجهة؛ فقد أظهرت نتائج المؤشر أن البلدان التي تعاني من صراعات طويلة الأمد مثل: ليبيا، والصومال، وجنوب السودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى لديها أدنى مستويات المرونة والصمود.
أشار التقرير إلى أن الاتجار بالبشر هو السوق الإجرامي الأكثر انتشارًا في أفريقيا – شأنها في ذلك شأن آسيا – تليها تجارة الأسلحة، ثم جرائم الموارد غير المتجددة، وجرائم الحيوانات.
أما عن أكثر الفاعلين الإجراميين تأثيرًا في إفريقيا، فهي الجهات الفاعلة التابعة للدولة (6.89)، تليها الشبكات الإجرامية (5.96)، ثم الجهات الأجنبية (5.63)، وأخيرًا مجموعات إجرامية أشبه بالمافيا وذلك بمتوسط درجات أقل بكثير من (3.11).
أشار الخبراء إلى أن أفريقيا تمتلك أقل الآليات، والأطر المؤسسية تطورًا لمكافحة الجريمة المنظمة بمتوسط درجة مرونة 3.80، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى انخفاض دور الجهات الفاعلة غير الحكومية، مما يعكس المستويات العالية من قمع المجتمع المدني من قبل الحكومات الإفريقية.
تم تحديد شرق أفريقيا على أنها المنطقة ذات أعلى مستويات الإجرام (5.66)؛ بسبب انتشار الجهات الإجرامية في الدول المتأثرة بالصراع فيها مثل: الصومال، والسودان، وجنوب السودان؛ حيث انتشرت تجارة الأسلحة بشكل ملحوظ في هذه المنطقة.
كذلك ظهر تهريب البشر خاصةً في إريتريا التي تحتل المركز الأول في العالم لهذا السوق باعتبارها واحدة من أكبر الدول المنتجة للاجئين في إفريقيا. وفي هذا الخصوص، تجدر الإشارة إلى أن العديد من الإريتريين يسعون إلى الحصول على مساعدة شبكات التهريب التي غالبًا ما تكون لها صلات بالطبقة السياسية والعسكرية في البلاد.
وفي شمال أفريقيا شهدت عمليات تهريب البشر انتشارًا كبيرًا. ما زالت ليبيا مركزًا رئيسًا لعبور المهاجرين الذين يتم تهريبهم من جميع أنحاء إفريقيا، كذلك تونس التي أصبحت بمثابة دولة مصدر مهمة ناشئة، فضلاً عن استمرار دورها كمركز عبور للهجرة غير النظامية إلى إيطاليا.
من ناحية أخرى، أدى تصنيف المغرب كواحدة من الدول الرئيسية المنتجة لنبات القنب – ذي التأثير المخدر – إلى تأثر كافة دول شمال أفريقيا باقتصاد القنب، الذي تم تقييمه على أنه أحد الأسواق الإجرامية الأكثر انتشارًا في شمال أفريقيا بمتوسط درجات (6.92).
أظهر التقرير أن الجهات الفاعلة الأجنبية لها تأثير كبير في حوالي نصف الدول الأفريقية البالغ عددها 54 دولة، وتحديدًا في غرب أفريقيا، تليها شرق أفريقيا، وأخيرًا منطقة جنوب أفريقيا.
في ضوء ذلك، استخلص التقرير مجموعة من النتائج الرئيسية، أبرزها ما يلي:
- يعيش أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم في بلدان بها مستويات عالية من الإجرام، وفي دول ذات قدرة منخفضة على الصمود أمام الجريمة المنظمة؛
- الاتجار بالبشر هو أكثر الأسواق الإجرامية انتشارًا على مستوى العالم؛
- تتمتع الدول الديمقراطية بمستويات أعلى من الصمود في مواجهة الإجرام مقارنةً بالدول الاستبدادية، لكونها دول تتسم بالتشاركية، والمساءلة، وسيادة القانون، ودعم المؤسسات غير الحكومية لتحسين المجتمع، ومن أبرز تلك الدول فنلندا، ونيوزلندا، والدنمارك، وأيسلندا؛
- الجهات الفاعلة التابعة للدولة هي أكثر أنواع الفاعلين الإجراميين هيمنة في العالم، وتتدرج درجة تغلغل الإجرام في مؤسسات الدولة من الفساد منخفض المستوى إلى الاستيلاء الكامل على الدولة، إلا أن هذا التغلغل يلعب الدور الرئيس في تسهيل الاقتصادات غير المشروعة، وتقييد المرونة في مواجهة الجريمة المنظمة؛
- الدول الهشة، وتلك التي تشهد نزاعات هما الأكثر عرضة لخطر الجريمة المنظمة؛ حيث تعاني تلك الدول من ضعف المؤسسات الاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، الأمر الذي يترتب عليه تراجع قدرتها على الصمود أمام مواجهة الجريمة المنظمة.
في الختام، أشار التقرير إلى أنه كان الاعتقاد السائد مع اندلاع وباء الكورونا بأن الجريمة المنظمة ستتأثر بجائحة كورونا، وستتكبد خسائر كبيرة شأنها شأن الاقتصاد الشرعي، إلا أن العكس هو الصحيح؛ حيث تمكنت الجهات الإجرامية من التكيف بسرعة مع الوضع، ونجحت في استمرار التدفقات غير المشروعة كتجارة المخدرات – على سبيل المثال – التي ازدهرت بفضل التجارة البحرية التي لم تتأثر بالقيود التي فرضتها الجائحة.