شاع في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح «الإيكو سايد» Ecocide داخل الأوساط السياسية، وبين النشطاء الحقوقيين المعنيين بقضايا التنمية والبيئة. ويعني باللغة العربية الإبادة البيئية أو التدمير المتعمد للبيئة، وهو رد فعل طبيعي للأفعال التخريبية التي تواجهها البيئة مع تعاظم رأسمالية الشركات، والتي بكل تأكيد ستكون لها نتائج بالغة الخطورة على البشر في المدى البعيد.
يدور الجدل في الوقت الراهن حول ظهور دعوات لتجريم الإبادة البيئية، وجعلها ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، باعتبارها جريمة دولية شأنها شأن الجرائم التي يرتكبها مجرمو الحروب.
على الرغم من مثالية الطرح، إلا أن تحقيقه أمر في غاية التعقيد؛ حيث تحكمه تعقيدات سياسية، وتوازنات اقتصادية؛ فتجريم تلك الأفعال من شأنها أن تؤثر بالسلب على اقتصاديات العديد من الدول، وتحد من نفوذها.
تواجه تلك الدعوات تحديَّات عديدة قد تعوق تنفيذها خاصةً وأن تصديق المحكمة الجنائية الدولية معناه إضافة جريمة دولية جديدة ضمن اختصاصاتها، الأمر الذي يتطلب تعديل نظام روما الأساسي الحاكم لها، والمُوقَّع عليه حتى الآن 123 دولة.
خمسون عامًا على طرح المفهوم:
استُخدم مصطلح «الإبادة البيئة» Ecocide لأول مرة منذ حوالي خمسين عامًا تقريبًا، وذلك خلال الكلمة التي ألقاها عالم الأحياء الأمريكي «آرثر جالستون» Arthur Galston في مؤتمر «الحرب والمسئولية الوطنية»، الذي عُقد بواشنطن العاصمة عام 1970؛ حين أشار إلى الضرر الواسع النطاق الذي نجم عن استخدام الولايات المتحدة لمبيد الأعشاب السام “العامل البرتقالي” في حرب فيتنام، مؤكدًا على حتمية إبرام اتفاقية دولية لحظر الإبادة البيئية.
أما بالنسبة لفكرة جعل الإبادة البيئة Ecocide جريمة دولية، فقد طُرحت لأول مرة خلال الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء السويدي الأسبق «أولوف بالم» في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الذي عُقد في «ستوكهولم» عام 1972، وحَذَّر فيها من أن «التقدم الصناعي السريع يمكن أن يستنفذ الموارد الطبيعية بمستويات غير مستدامة».
وفي عام 1973 قدم «ريتشارد فولك» Richard Falk؛ أستاذ القانون الدولي بجامعة برينستون الأمريكية Princeton University أول تحليل قانوني لحظر الإبادة البيئية، أشار فيه إلى أن «الإنسان تسبب بوعي ودون وعي في إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالبيئة في أوقات الحرب والسلام».
ظهرت بعد ذلك عدة محاولات لإضفاء الطابع الرسمي على الإبادة البيئية كجريمة دولية؛ حيث أُعيد طرح هذا المفهوم قبيل تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه سقط ولم يؤخذ في الاعتبار وقت الإعلان عن التأسيس الرسمي لها في «لاهاي» عام 1998. وخلال العشر سنوات الماضية، قادت المحامية الأسكتلندية «بولي هيجينز» Polly Higgins حملة من أجل الاعتراف بها كجريمة دولية إلى أن توفيت في العام 2019.
في ديسمبر 2019 قدم سفير دولة «فانواتو» لدى الاتحاد الأوروبي «جون ليخت» John Licht اقتراحًا في المحكمة الجنائية الدولية بجعل تدمير البيئة جريمة دولية دون تقديم أية اقتراحات بشأن تعديل نظام روما الأساسي، والجدير بالذكر أن «فانواتو» هي دولة جزرية صغيرة في جنوب المحيط الهادئ، وهي دولة مهددة بشدة بارتفاع منسوب مياه البحر.
مؤسسة أوقفوا الإبادة البيئية Stop Ecocide Foundation
تأسست عام 2017 على يد «بولي هيجينز» Polly Higgins، و«جوجو ميتا» Jojo Mehta (المدير التنفيذي الحالي)، ومقرها هولندا. وتولت تلك المؤسسة استكمال مسيرة النضال من أجل تجريم الإبادة البيئية، وبمبادرة منها تم تشكيل لجنة خبراء مستقلة في شهر يونيو من العام الجاري (2021).
ضَمَّت اللجنة 12 محاميًا وخبيرًا قانونيين من مختلف أنحاء العالم لوضع تعريف للإبادة البيئية Ecocide، وصياغة مشروع قانون يهدف إلى تجريم الإبادة البيئية، وإدراجها ضمن الجرائم الدولية التي تأتي ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
وبالتعاون مع خبراء خارجيين، استغرقت اللجنة ستة أشهر لصياغة التعريف القانوني لـ «الإبادة البيئة»، وقدمت تعريفًا مكونًا من 165 كلمة، وهو كالتالي:
«أعمال غير قانونية أو غير مشروعة تُرتكب مع العلم بوجود احتمال كبير لحدوث أضرار جسيمة وواسعة النطاق أو طويلة الأجل للبيئة بسبب تلك الأعمال».
في ضوء التعريف، هناك مستويان أساسيان يجب أن تستوفيهما الأفعال حتى تشكل جريمة:
المستوى الأول: يجب أن تكون هناك احتمالية قوية بأن تتسبب تلك الأفعال في إحداث ضرر شديد إما واسع الانتشار (بأن يمتد إلى ما وراء منطقة محددة، أو يتجاوز حدود الدول، أو يؤثر على نظام بيئي بأكمله أو عدد كبير من الناس)؛ أو طويل الأجل (غير قابل للعودة إلى الحالة السابقة أو العلاج من خلال التعافي الطبيعي أثناء فترة معقولة من الوقت).
يشمل هذا المستوى حالات معينة كالتلويث السام لمنطقة تمركز سكاني (عدد كبير من الناس، لكن في منطقة جغرافية محدودة نسبيًا) أو تدمير نظام بيئي بحري، وهو ما قد يكون محدود الحجم، لكنه يُفقَد للأبد.
المستوى الثاني: يستلزم أن يكون الضرر غير مشروع أو غاشمًا. ونجد أن تشريعات الدول متباينة في هذا الشأن. أما القانون الدولي للبيئة، فيقتصر على نسبة محدودة المحظورات الصريحة، بل إن بعض الأفعال المسموح بها قانونًا والتي قد تضر البيئة مستحسنة اجتماعيًّا كمشروعات الإسكان أو النقل أو البنية التحتية. وفي مثل تلك الحالات، يضع القانون الدولي للبيئة مبادئ عامة، يأتي على رأسها مبدأ التنمية المستدامة، ومن المفترض أن تتصرف الدول وفقها.
سيناريوهات مستقبلية:
في حال أن تبنت المحكمة الجنائية الدولية هذه المبادرة فستصبح «الإبادة البيئية» خامس الجرائم التي تقاضيها المحكمة بعد كلٍّ من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجريمة العدوان، والتي يتم التعامل معها من خلال نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي لم يذكر كلمة البيئة إلا مرة واحدة فقط في الجزء المتعلق بجرائم الحرب، وتحديدًا في الحالات التي يمكن وصفها قانونًا بأنها نزاعات مسلحة.
وهنا تجدر الإشارة أيضًا إلى أن المرة الأخيرة التي أُدخلت فيها جريمة جنائية دولية جديدة إلى المواثيق الدولية كانت بعد الحرب العالمية الثانية؛ حينما أضاف ميثاقا «نورمبرج»، و«طوكيو» الجرائم ضد الإنسانية إلى جانب جرائم الحرب، وجرائم العدوان، وذلك ترسيخًا لفكرة مفادها أن أفعالاً معينة تتسم بالفظاعة الشديدة. بعدها مباشرة، وتحديدًا في عام 1948، أُدرجت جريمة خاصة ضد الإنسانية، وهي الإبادة الجماعية في معاهدة جديدة.
- المحكمة الجنائية الدولية وإجراءات التصديق:
بموجب التعريف وفي حالة تصديق المحكمة الجنائية الدولية عليه، ستكون الإبادة البيئية – على عكس الجرائم الأربع سالفة الذكر – هي الجريمة الوحيدة التي لا يكون فيها الضرر البشري شرطًا أساسيًا للمحاكمة.
يتطلب اعتماد المحكمة الجنائية الدولية لهذا التعريف تعديل نظام روما الأساسي، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات التي قد تستغرق وقتًا طويلاً للدخول حيز التنفيذ، وهي على النحو التالي:
- يتعين على إحدى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية البالغ عددها 123 دولة، والتي لا تشمل الولايات المتحدة أو الصين أو الهند، تقديم التعريف إلى الأمين العام للأمم المتحدة؛
- يجب بعد ذلك التصويت على الاقتراح بأغلبية أعضاء المحكمة الجنائية الدولية خلال الاجتماع السنوي المنعقد في ديسمبر للنظر فيه؛
- بمجرد مناقشة النص النهائي للتعديل والاتفاق عليه، يجب أن يصوت ثلثا الدول الأعضاء لصالحه (82) دولة؛
- بمجرد التصديق على التصويت يصبح واجب النفاذ في الدول بعد عام.
من المقرر أن يتم طرح الأمر في الاجتماع السنوي للمحكمة الجنائية الدولية الشهر القادم (ديسمبر 2021)، وفي حالة انتهاء الإجراءات واعتماد هذا الطرح سيكون على الأفراد بمواقع المسئولية ممن يرتكبون أفعالاً ينطبق عليها التعريف عرضة للملاحقة القضائية من قبل المحكمة الجنائية الدولية، أو أية محاكم قومية مختصة ذات ولاية قضائية، وسيُحكم عليهم بالسجن حال إدانتهم.
أيضًا يحق للدول المصدقة اعتقال غير المواطنين الموجودين على أراضيها بسبب جرائم الإبادة البيئية المرتكبة في مكان آخر. ويعني هذا أن مواطني الدول غير الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن يتأثروا.
يرى أنصار هذا الاتجاه أن تصديق محكمة العدل الدولية على هذا الجرم سيمثل تحولًا كبيرًا، لاسيما وأننا نفتقر في الوقت الراهن إلى العقوبات الجنائية – على المستويين القومي والدولي – في مواجهة الكثير من حالات التدمير البيئي واسع النطاق؛ ففي معظم الدوائر القضائية، لا يواجه الأفراد أو الشركات سوى عقوبات مالية فقط.
كذلك، سيصبح تجريم الإبادة البيئية أقوى تأثيرًا من ناحية الردع مقارنةً باحتمالات الاتهام بالإبادة الجماعية أو جرائم الحرب، لأن أكثر جرائم الإبادة البيئية ترتكبها الشركات، ونظرًا لاعتماد قيمة أي شركة بشكل كبير على سمعتها وثقة المستثمرين، فسوف يخسر المسئولون الكثير بأن يجدوا أنفسهم في قفص الاتهام المحتجز فيه مجرم حرب، الأمر الذي قد يدفع صنَّاع القرار في الشركات إلى إتباع طرق أكثر أمانًا واستدامة؛ خوفًا من الظهور بمظهر المرتكب لجريمة دولية.
الأصداء الدولية:
لاقت فكرة تجريم الإبادة البيئية القبول من قبل العديد من دول العالم، وبدأت بالفعل في التعبير عن اهتمامها بالقضية. وبالفعل بدأت حكومات العديد من الدول التعبير عن اهتمامها بالقضية، ومن أبرز تلك الدول فرنسا ورئيسها الحالي «إيمانويل ماكرون،»المح الذي أصبح أحد أبرز مؤيدي تجريم الإبادة البيئية.
خلال العام الماضي (2020)، صوت أكثر من 99٪ من مجموعة مكونة من 150 شخصًا من المواطنين الفرنسيين تم اختيارهم بالقرعة لتوجيه سياسة المناخ في البلاد لتجريم الإبادة البيئية، مما دفع ماكرون للإعلان عن أن الحكومة ستتشاور مع خبراء قانونيين حول كيفية دمجها في القانون الفرنسي.
لم يكتفِ «ماكرون» بذلك بل أكد على ضرورة تكريس هذا المصطلح في القانون الدولي بحيث يكون مرتكبيه مسئولين أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما أكد عليه أيضًا البابا «فرانسيس»؛ بابا الفاتيكان.
وفي بلجيكا قدم الحزبان «الخضر» Green Parties مشروع قانون لمكافحة الإبادة البيئية يقترح معالجة المشكلة على المستويين الوطني والدولي.
كذلك، حظيت أيضًا الفكرة بدعم كبير بين البرلمانيين السويديين، وكذلك النشطاء البيئيين وعلى رأسهم الناشطة السويدية «جريتا ثونبرج» Greta Thunberg التي تبرعت بمبلغ 100000 يورو في صورة جوائز شخصية لمؤسسة Stop Ecocide Foundation.
رؤى مغايرة:
على النقيض، يرى البعض أن اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية ليس حلاً مناسبًا لإنقاذ البيئة. وفي هذا الصدد، يرى «ديفيد وايت،» أستاذ الدراسات الاجتماعية والقانونية بجامعة ليفربول، أن القانون الجنائي الدولي لن يقضي على التدمير البيئي فهو يقتصر فقط على مقاضاة الأفراد، وبالتالي لا يمكن بموجبه مقاضاة الشركات، وفي حالة ما تم إلقاء القبض على رئيس تنفيذي لشركة ما فهذا لا يعني إنهاء العمل التجاري نفسه، المهم هو تغيير نموذج رأسمالية الشركات.
أيضًا ترى «راشيل كيليان،» المحاضرة البارزة في القانون بجامعة كوينز- بلفاست الأيرلندية أن فرصة موافقة مجلس من الدول الأطراف على جريمة إضافية مثل الإبادة البيئية أمر غير مرجح؛ لما قد تتسبب فيه من الحد من توسعاتها الاقتصادية، وتقليص نفوذها.
في الختام، يمكن القول إنه على الرغم من الأصداء الدولية الإيجابية التي لاقتها تلك الدعوات المتمثلة في جعل الإبادة البيئية «Ecocide» جريمة دولية ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، إلا أن هذا التأييد هو تأييد فقط من الناحية النظرية، وربما كانت تلك الأصداء، وتزايد أعداد حكومات الدول المؤيدة مثل: المالديف، وفنلندا، وإسبانيا، وكندا، ولوكسمبورج، وغيرها، هو الدافع وراء تشجيع هؤلاء النشطاء على المضي قدمًا في هذا الاتجاه.
أما على أرض الواقع فالأمر ليس يسيرًا على الإطلاق؛ حيث يتطلب تقديم الاقتراح للمحكمة حكومة شجاعة، ومستوى معين من النفوذ الدبلوماسي. وعلى الرغم من طرح دولة «فانواتو» تلك الفكرة عام 2019، إلا أنه كان مجرد اقتراح لم يتضمن تعديل نظام روما الأساسي، وإدراج «الإبادة البيئية» كخامس الجرائم التي تأتي ضمن اختصاصات المحكمة.
يدرك أعضاء اللجنة والقائمون على مؤسسة Stop Ecocide Foundation صعوبة تحقيق الفكرة لارتباطها بتوازنات سياسية واقتصادية قادرة على عرقلتها، فكيف يمكن لدولة كبرى التصديق على قرار قد يحد بشكل كبير من نفوذها الاقتصادي!
ومن ناحية أخرى، جرت العادة في القانون الدولي على إدانة الأفراد فقط في حين أن جرائم تدمير البيئة تُرتكب في أغلب الأحوال من قبل شركات، وهنا يبقى السؤال: هل يمكن لمعاقبة مديري الشركات المساهمة في القضاء على تلك الجريمة؟
إن تصديق المحكمة الجنائية الدولية على تجريم الإبادة البيئية هو حلم بالنسبة لهؤلاء النشطاء، وسيمثل تجسيدًا لمشوار طويل من الجهد والنضال؛ لذا سيحتاج الأمر وقتًا طويلاً لتحقيقه، وهذا ما جاء على لسان «جوجو ميتا»؛ المدير التنفيذي لـ مؤسسة Stop Ecocide Foundation بأن حسم هذا الأمر قد يستغرق وقتًا طويلاً يتراوح ما بين ثلاث إلى سبع سنوات.
وعلى المستوى العربي، فعلى الرغم من تزايد اهتمام الحكومات العربية والنشطاء العرب بالقضايا البيئية والتغير المناخي، فلم تأخذ “الإبادة البيئية” حظها الكافي من الجدل، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي، فضلاً على مستوى السياسات. إلا أن هذا الجدل قد يحتدم عند طرح الموضوع للجدل القانوني في الفترة القادمة. وهو ما يستدعي الأخذ في الاعتبار ضرورة بناء موقف عربي واضح من الاتجاه الرامي لتجريم “الجرائم البيئية.”