تعرف الجريمة المنظمة بأنها مجموعة معقدة من “التنظيمات” المركزية المكونة بالأساس من أجل الانخراط في أنشطة غير شرعية، وترتكب هذه التنظيمات اعتداءات من قبيل سرقة البضائع، والتزوير، والنهب، والخطف للمطالبة بفدية، والمطالبة بمدفوعات مقابل توفير “الحماية”. ويمثل إمداد البضائع والخدمات غير الشرعية (مثل المخدرات والدعارة والقمار والربا الفاحش loan-sharking) المصدر الرئيس لدخل هذه الجماعات، ورغم أنها غير شرعية فإنها تحظى بطلب عام مستمر.
تحضر مسألة الجريمة المنظمة، وما يتعلق بها من تجارة غير شرعية، في قلب التغيرات الحالية والمستقبلية في إقليم القرن الأفريقي؛ وترتبط في علاقة تبادلية بأزمة بناء الدولة في الإقليم الذي يتسم بهشاشة بنيوية واضحة لاعتبارات عدة منها طبيعة الدولة الحديثة في الإقليم، والتداخل-الصراع الإثني والثقافي والديني بين وحداته السياسية، وتوطن ظاهرة الإرهاب والعنف المسلح في أجزاء متفرقة منه، فضلاً عن التنافس الدولي على الإقليم. وهي عوامل تسهم جميعًا –سلبًا أو إيجابًا- في تعميق بنية الجريمة المنظمة من ناحية، وإعاقة عملية بناء الدولة كما تتضح في حالة الصومال، من ناحية أخرى.
القرن الأفريقي والجريمة المنظمة: تفهم أولي
تعاني دول القرن الأفريقي من فقر مدقع وحالة هشاشة واضحة لبنية الدولة؛ مما يوفر مزيجًا متهيئًا لتربة خصبة للشبكات الإجرامية التي تسعى لاستغلال هذه السياقات المختلفة وسهولة تمددها عبر الحدود. وبالنظر إلى هذه الظاهرة وارتباطها بأزمة “بناء الدولة” فإنه لا يمكن فصلها عن تمدد الظاهرة الإرهابية، مع ملاحظة أن المسألة برمتها لا تعد ظاهرة جديدة.
يرجع البعض الصلة بين الأنشطة الاقتصادية وتمويل الإرهاب في القرن الأفريقي إلى فترة وجود أسامة بن لادن في السودان (منذ العام 1991)؛ حيث استثمر أمولًا كثيرة في تشييد طرق حديثة ومشروعات إسكان؛ بينما غضت دول المنطقة الطرف عن أنشطته السرية ومكنته في النهاية من تكوين “قاعدة صلبة” لجماعات “المجاهدين.” كما أن بن لادن حافظ على اتصالات وثيقة مع التنظيمات الإسلاموية المسلحة في دول الجوار في إقليم القرن الأفريقي وخاصة جماعة “الوحدة الإسلامية الصومالية” في ذلك الوقت.
لقد تطورت هذه التهديدات منذ ذلك الوقت حتى أصبحت متغلغلة في النسيج الاجتماعي في بعض التجمعات والمناطق لاسيما الحدودية (كما في الحدود الكينية الصومالية، والإثيوبية الجيبوتية، والإثيوبية السودانية).
تشمل الأنشطة الإجرامية لهذه الشبكات تهريب البشر، والمخدرات، والأسلحة النارية، والموارد الطبيعية، وغسيل الأموال، ونتيجة لذلك فإن دول الإقليم أصبحت موئلًا لطرق تهريب جديدة ومع تعاون الجماعات الإجرامية والمهربين غير الشرعيين وعملهم عبر الحدود الدولية عبر تكنولوجيات متقدمة ووسائل رقمية تتحول الجريمة المنظمة بشكل سريع للغاية لتصبح تحديًا معقدًا تصعب مواجهته.
كما تأتي الجريمة المنظمة والتجارة غير الشرعية في شكل صراعات محلية داخل إقليم القرن الأفريقي (خاصة الصومال) على الموارد بما فيها السيطرة على طرق تهريب البشر والتجارة غير الشرعية والأراضي والموارد الطبيعية. وبهذا تتداخل الجريمة المنظمة مع جانبين آخرين من الصراع؛ وهما الصراع وفق الانتماء الهوياتي (بما فيه بين الجماعات والإثنيات والطوائف)، والصراع السياسي.
في هـا السياق، توصل ميشيل باتيستي إلى خلاصات مهمة أبرزها وجود صلة وثيقة بين الجريمة المنظمة والتفاوت الاجتماعي، وأن استمرار المستويات المرتفعة من التفاوت يمكن أن يقود إلى تطور أعلى من الجريمة المنظمة، وأن المستويات المنخفضة من الحراك الاجتماعي- الاقتصادي مرتبطة بتطور الجريمة المنظمة، ورجح باتيستي قياس التغيرات في الرفاه الاجتماعي ذلك بالتفاوت في الاستهلاك وليس بالتفاوت في الدخل وهو قياس يلائم المجتمعات البدوية والزراعية التي تمثل أغلبية مطلقة في دول القرن الأفريقي.
الجريمة المنظمة وتهديد خطط النمو الاقتصادي
من الملاحظ تزايد ترابط اقتصاديات منطقة القرن الأفريقي بالاقتصاد العالمي نسبيًا، الأمر الذي أثر مباشرة على أنشطة التجارة غير الشرعية وأعمال الجريمة المنظمة الإقليمية في المنطقة. لقد أفادت الجريمة المنظمة من هذا الترابط الآخذ في الاتساع بحكم الصلة بين نمو الاقتصادات غير الرسمية بموازاة الاقتصادات الرسمية. كما رافق ذلك واقع أن حركة الأموال والمعلومات في الإقليم أصبحت سلسة للغاية بشكل متزايد. كما أن انتشار اختلاط سكان الإقليم بالخارج- سواء عبر الهجرة إو حركة الوافدين إلى الإقليم- عنى أن هذه المجتمعات أصبحت تتوجه نحو اندماج أكبر في العالم، مع ظهور شبكات يمكن أن تفيد من هذه الاتصالات. من بين هذه الشبكات المعولمة شبكات الجريمة المنظمة التي تفرض تهديدًا كبيرًا على الأمن الإنساني داخل الإقليم وخارجه، ولاسيما أن أغلب دوله غير مستعدة تمامًا لمواجهة تعقيدات هذه الجرائم أو علاج آثارها.
كما تهدد الجريمة المنظمة مقدرات التعاون الإقليمي في القرن الأفريقي بأكمله؛ وعلى سبيل المثال تثور مخاوف حقيقية ومتفهمة من تضرر مشروع خطة الموانيء الكينية الكبرى التي تجري على قدم وساق حاليًا بتكلفة استثمارات إجمالية قيمتها 3.6 بليون دولار وتشمل موانئ بحرية وبرية وأخرى في بحيرات على مدار 30 عامًا. ومن المقرر التزام هذه الموانئ بمعايير منظمة الملاحة الدولية لجذب سوق أكبر في قطاع النقل البحري مما سيعزز ويستديم الاقتصاد الكيني وبقية الإقليم.
لكن في ظل هذه المشروعات الكبرى ما تزال هناك مخاوف أمنية حقيقية تهددها خاصة الجريمة المنظمة والإرهاب. وأبرز هذه المشروعات “ميناء لامو الجديد” بقيمة استثمارات مبدئية 2.1 بليون دولار وأحد مشروعات البنية الأساسية السبعة العملاقة في مشروع ممر نقل ميناء لامو- جنوب السودان إثيوبيا. تبلغ قيمة الاستثمارات الإجمالية في هذا البرنامج 25 بليون دولار وهو جزء من رؤية كينيا 2030 التي تهدف إلى تحويل الدولة إلى اقتصاد متوسط الدخل. و
يستهدف أن يتحول ميناء لامو لمرفق عبور لمنافذ بحرية هامة أخرى مثل جيبوتي وجنوب أفريقيا والإمارات. ويتعاظم هذا التخوف في ضوء قرب ميناء لامو من الحدود الصومالية حيث تهيمن جماعة الشباب بشكل ملحوظ على هذه المنطقة التي شهدت في يناير 2020 هجوم الجماعة على قاعدة “ماندا باي” Manda Bay العسكرية وقتلت 3 جنود أمريكيين ودمرت طائرة وعربات عسكرية أمريكية في الهجوم.
الجريمة المنظمة وتهديد بناء الدولة في الصومال
يعد الصومال حالة نموذجية لتأثيرات الجريمة المنظمة والتجارة الشرعية على عملية بناء الدولة وتعقيدها لعدة عوامل: أن الصومال يملك أطول سواحل بحرية لدولة أفريقية وتشرف على أهم طريق ملاحة عالمي؛ وأنه يملك ثروات بترولية هائلة في جنوب هذه السواحل، بينما يطل شمالها على خليج عدن ومدخل البحر الأحمر الجنوبي على نحو يكسبه أهمية استراتيجية مضاعفة.
في الوقت نفسه تعاني البلاد من توجهات انفصالية لولاية “أرض الصومال” التي أصبحت البوابة الواسعة لتدخل أطراف إقليمية ودولية (ربما تلحق بها الولايات المتحدة شريك الصومال الرئيس سعيًا لتحجيم النفوذ الصيني المتصاعد في القرن الأفريقي) في الشئون الصومالية بما يهدد وحدة جمهورية الصومال ويتجاوز عملية بناء الدولة به برمتها.
كما يتسق رصد حالة الجريمة المنظمة والتجارة غير الشرعية في الصومال تحديدًا -ضمن سياق إقليم القرن الأفريقي ككل- مع تيار بارز في تحليل الظاهرة ودراستها يربط بين الأنشطة غير المشروعة والانتماء الإثني أو العشائري في هذه الحالة؛ وإن رأى متخصصون أن فكرة هذا التيار تنطوي على ما يقترب من تنميط عرقي وإثني رغم اعتماده على حالات محدودة للغاية.
حسب تقارير صومالية فإن “جماعة الشباب” تتعاون مع جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وتتورط الجماعة في أنشطة الجريمة المنظمة لتمويل تنظيمها وحملاتها الإرهابية، وعلى سبيل المثال فإن الجماعة تهرب سلعًا مثل السكر والأسماك المجففة من خلال شبكة معقدة ومعترف بها من التعاون مع الجماعات الصومالية داخل البلدين حيث يمثل الصوماليون أغلبية سكان شمالي كينيا المعروف بإقليم “إنفدي” والاتجار في الأسلحة النارية، وتهريب البشر، وتجنيد العناصر الإرهابية في كينيا، كما يتم تهريب القات من كينيا إلى الصومال عبر ميناء لامو الكيني قرب الحدود مع الصومال وإن بكميات محدودة نسبيًا بشحنات متقطعة تصل قيمة بعضها إلى 220 ألف دولار.
وتمثل تلك التهديدات حقيقة واقعة في إقليم أرض الصومال الذي أعلن استقلالًا ذاتيًا عن جمهورية الصومال الفيدرالية ويحظى باهتمام عدة دول مثل تايوان والإمارات وتركيا للاستثمار في مشروعات البنية الأساسية به لاسيما في مجال تشييد الموانئ وخدمات حركة التجارة الدولية المارة بميناء بربرة الذي يتوقع أن تصل قدرته السنوية إلى 500 ألف حاوية، وتخشى حكومة الإقليم الساعية إلى توسيع الاعتراف الدولي بها من تداعيات الجريمة المنظمة وارتباطها بالتهديدات الإرهابية وتأثيرها على الاستقرار النسبي الذي يشهده الإقليم مقارنة ببقية ولايات جمهورية الصومال.
الصومال في مؤشر الجريمة المنظمة العالمي (GOCI 2021)
رصد مؤشر الجريمة المنظمة العالمي Global Organized Crime Index أهم مظاهر الجريمة المنظمة في الصومال وفي مقدمتها “تهريب البشر” الذي ينشط من جنوب وسط الصومال إلى أوروبا ودول الخليج العربي وبعض دول أفريقيا الجنوبية، كما يوفر الصومال نقطة انتقال للإثيوبيين الفارين من الأزمة في بلادهم. تشارك جماعة “شباب المجاهدين الصومالية” الإرهابية في ممارسات استغلال المواطنين الصوماليين أو “الإثيوبيين” المارين بالأراضي الصومالية، مع التركيز على تجنيد الأطفال والاسترقاق الجنسي والزواج القسري.
نظرًا لاستمرار العنف المسلح وعدم الاستقرار السياسي طوال العقود الفائتة توجد في الصومال كميات كبيرة من الأسلحة غير الشرعية تتراوح بين البنادق العادية والآلية إلى أجهزة التفجير ويتم تهريبها غالبًا عبر ميليشيات عشائرية وجماعة الشباب وبعض المجموعات الحكومية وشبكات التهريب عبر الحدود المتمركزة في الشمال لاسيما في “بونتلاند” وشرقي “أرض الصومال”. ورغم حظر تصدير الفحم من الصومال منذ العام 2012 فإنه ما يزال يهرب بشكل مستمر وتتحكم فيه مجموعات إجرامية عند عدد من المعابر الحدودية على نحو قد يعزز تمويل الإرهاب. كما تمر عبر الصومال تجارة الفهود غير الشرعية من إثيوبيا خاصة إلى السعودية والإمارات. ورغم عدم وجود سوق محلية للهيروين في الصومال فإن شحنات المخدرات تمر عبر مياهه الإقليمية. كما تستمر عمليات الصيد غير القانونية أو غير المنظمة.
وأدرج المؤشر نشاط جماعة الشباب تحت لافتة أنشطة الجريمة المنظمة. ومثلت الجماعة أهم الفاعلين الإجراميين في نشاط الجريمة المنظمة بالصومال. وحسب التقرير فإن الجماعة الإرهابية تتورط في أغلب أوجه نشاط هذه الجريمة وتطبق أسلوبًا يشبه “المافيا” في استخدام العنف وجمع الضرائب على سلع متنوعة. كما أشار التقرير إلى تورط جماعات عشائرية أخرى في هذا النشاط وتزايد توجهها لتنسيق العمل مع “الشباب”. عزز ذلك هيمنة عناصر إثنية- عشائرية على شبكات تهريب إلى شرق أفريقيا ودول الخليج العربي.
يأتي ذلك في ظل تدني الموارد التي تتوفر للحكومة الصومالية الفيدرالية بسبب الضعف الواضح في الدولة. وأظهرت أدلة –حسب التقرير- تورط مسئولون بالدولة وسلطات حكومية في أنشطة الجريمة المنظمة خاصة في فرض رسوم على البضائع المهربة أو رعاية أنشطة غير شرعية مقابل الحصول على رشاوي. كما يسعى لاعبون من خارج الصومال للسيطرة على العديد من شبكات التهريب داخل الصومال في ظل اضطراب أوضاعه الأمنية.
خلاصة
تمثل الجريمة المنظمة والأنشطة غير الشرعية المرتبطة بها واحدة من أهم عوامل أزمة إعادة بناء الدولة في إقليم القرن الأفريقي. وتبدو بشكل متزايد واحدة من أبرز التهديدات التي ستستمر في صياغة تحولات القرن الأفريقي لاسيما في دولة بحجم إثيوبيا التي تشهد أزمة سياسية وأمنية خطيرة منذ نحو عامين. كذلك تتفاقم الأزمة في الصومال الذي يعاني أزمة بنيوية حقيقية لم يستطع الفرقاء السياسيون به تجاوزها؛ ووسط تدخلات إقليمية ودولية متضاربة ومتناقضة بشكل حاد؛ مما يعظم في النهاية الدور المتوقع لأنشطة الجريمة المنظمة وصلاتها بالإرهاب وتهديداته للمشروعات التنموية المرتقبة في الإقليم في الفترة المقبلة.