لمحة عامة
تكتسب منطقة القرن الأفريقي أهمية متزايدة، ضاعف منها حالة الحراك الحالي في العلاقات البينية بين دول المنطقة، ومع أطراف إقليمية ودولية بالغة التنوع وذات الأجندات المتنافسة، وصولًا إلى صراعات مفتوحة على النفوذ والسيطرة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وبرز في قلب هذا الحراك “أزمة الموانئ” التي تتوزع على ساحل القرن الأفريقي، كما الحال في ميناء مصوع الإرتيري الذي سعت إثيوبيا لاستخدامه “مجانًا” ضمن ترتيبات ما بعد اتفاق السلام بين البلدين (يوليو 2018)؛ وميناء جيبوتي الذي يستضيف عدد كبير من القواعد العسكرية واللوجيستية من دول أوروبية وآسيوية، إضافة إلى استعداده مطلع مارس الجاري لدخول تركيا باستثمارات كبيرة عبر شركة البيرق Albayrak Group وثيقة الصلة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم (ليكون الثاني بعد وجود تركي متصاعد في ميناء مقديشو عبر نفس المجموعة منذ العام 2014) لإدارة مرافق في ميناء جيبوتي . كما برز في هذه الأزمة التوتر الذي رافق الوجود الإماراتي في المنطقة مع جيبوتي (كما في أزمة ميناء دوراليه وفسخ حكومة جيبوتي عقد شركة موانئ دبي لإدارة حاويات ميناء دوراليه في فبراير 2018 زنقل أصول محطة الحاويات لشركة أخرى)، وسعي الإمارات لإقامة قاعدة عسكرية وميناء بحري في بربرة بإقليم “جمهورية أرض الصومال”.
أولًا- المساعي الوطنية لإدارة أزمة موانئ القرن الأفريقي
تقوم مقاربة إدارة أزمة الموانئ على الصعيد الوطني في القرن الأفريقي على حسابات المكاسب القصيرة، والتلاعب الناجح بالتحالفات الإقليمية كما اتضح على نحو متسارع في إريتريا التي فتحت علاقات مع إسرائيل وإيران وقطر والسعودية والإمارات في فترة زمنية وجيزة للغاية، والحالة الإثيوبية الراهنة، غير المتوقعة والمباغتة في واقع الأمر، بالانتقال السلس والناجح بين المحورين السعودي- الإماراتي، والقطري- التركي. ويمكن رصد بعض هذه المساعي، التي تتباين في رؤيتها لمصالحها الوطنية بطبيعة الحال، على النحو التالي:
- إثيوبيا: تستند إثيوبيا، وهي دولة حبيسة، في مقاربتها لإدارة الأزمة إلى تصورها لنفسها كدولة عظيمة في المنطقة واجهت محيط حضاري مغاير (بدعم كبير من قوى خارجية في واقع الأمر منذ قدوم الاستعمار البرتغالي في مياه المحيط الهندي)؛ ومن ثم فإن لها حقوقًا في الوصول للبحر الأحمر وخليج عدن بغض النظر عن حقائق الجغرافيا، والتاريخ الإثيوبي “غير الرسمي”. لذا فإنها تسعى بقوة لتعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية البحرية بشكل كبير من أجل تعزيز أدوارها الإقليمية، ومواجهة التهديدات الداخلية المتصاعدة سواء تهديدات إرهابية أم انفصالية أم صراعات إثنية قائمة ومحتملة. وفي المقابل تحاول إقامة قنوات غير مكلفة لاستيراد الأسلحة وفق تفاهمات “وظيفية” مستقبلية للدور الإثيوبي في إقليمي البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وفي سياق هذا السعي اتفقت مع فرنسا في مارس 2019 على توقيع أول اتفاق للتعاون العسكري بينهما يتضمن مساعدة الأخيرة لإثيوبيا على بناء قوة بحرية وتقديم تعاون جوي، وعمليات مشتركة، وفرص للتدريب ومبيعات المعدات. كما وصل التعاون العسكري الإسرائيلي الإثيوبي مرحلة متقدمة في منتصف العام الماضي (2019) حسب تقارير عسكرية إسرائيلية بتولي شركات إسرائيلية إقامة منظومة دفاع جوي صاروخي لحماية سد النهضة “دون أي تنسيق مع مصر”، رغم إنكار مصادر عسكرية إسرائيلية في مطلع يوليو 2019 هذه التقارير. لكن سرعان أن تجسد هذا التعاون بزيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لإسرائيل مطلع سبتمبر 2019 بهدف تقوية التعاون الأمني مع إسرائيل و”نقل خبرتها لإثيوبيا”. كما تواترت تقارير مطلع ديسمبر 2019 عن عزم إثيوبيا جعل قواتها البحرية (التي يعاد تكوينها بعد حلها في العام 1991) متمركزة في جيبوتي –كمرحلة أولى ربما تمتد لاحقًا للسودان وإريتريا- وأن يكون مقر قيادتها في بحر دار، بالتزامن مع تنشيط الهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد” لقوة مهام من الدول الأعضاء في البحر الأحمر وخليج عدن والدول المجاورة لها (لتشمل إثيوبيا بشكل محدد) بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وبقيادة إثيوبية تقليدية.
- جيبوتي: تعد جيبوتي، التي تستضيف مرافق عسكرية ولوجيستية من عدة دول إقليمية ودولية، بوابة مثالية إلى منطقة القرن الأفريقي. وتتحكم في مقاربة جيبوتي لأزمة الموانئ عوامل الانحياز للاستراتيجيات والسياسات الأمريكية والأوروبية، خاصة بعد رسوخ الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة منذ العام 2001 بتكوين القاعدة الأمريكية الدائمة في أفريقيا هناك (“كامب ليمونيه” Camp Lemonnier)، وحصول واشنطن على حقوق استخدام المطار والمرافق البحرية المجاورة للقاعدة، إضافة إلى بروز العامل الإثيوبي لما للعلاقات بين البلدين من أهمية فائقة لجيبوتي في المقام الأول (التي تحصل على المياه العذبة ومصادر الطاقة من إثيوبيا). وتعول “رؤية جيبوتي 2035” للرئيس عمر جيله على استغلال الموقع الجغرافي لجيبوتي وتقوية مكانتها كمنفذ لشرق أفريقيا وفتح المرافق البحرية للبلاد لخدمة هذه المنطقة ككل بمرور السلع من أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وكون ميناء جيبوتي مركز للتبادل التجاري، إضافة إلى توسع حالي في منطقة دامرجوج Damerjog الاقتصادية تشمل ميناء بحري جديد وموقع لتخزين الغاز الطبيعي.
وهكذا تسعى جيبوتي لتعزيز مكانتها كمركز يصعب منافسته في القرن الأفريقي عبر الحفاظ على علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة وإثيوبيا والقوى الغربية بالأساس، وعلاقات عسكرية مفهومة مع الصين (الشريك التجاري الأول لإثيوبيا وجيبوتي)، واستبعاد أي وجود روسي منذ سنوات، إضافة إلى مماطلة متعددة الأسباب لتفعيل المنطقة الاقتصادية المصرية في جيبوتي رغم ضآلتها مقارنة بالمنطقة المماثلة لتركيا مثلًا. إضافة إلى ذلك فإن جيبوتي لا تمانع وجودًا تركيًا من بوابة الاستثمارات التركية السخية في المنطقة، حيث تحضر تركيا بشكل قوى في إثيوبيا، وفي الصومال. وبالفعل توصلت جيبوتي وتركيا لاتفاق مطلع مارس الجاري يمكن بمقتضاه نقل إدارة أحد موانئ الأولى الاستراتيجية لتركيا وتحديدًا لمجموعة البيرق وثيقة الصلة بالرئيس التركي أردوغان. وغطى الاتفاق تكوين شركات مشتركة لتشغيل وإدارة الموانئ، والنقل البحري الدولي، وخدمات الملاحة، وبناء السفن واليخوت، وتطبيق التكنولوجيات وطرق التدريب الحديثة.
“إقليم أرض الصومال”: سعت “جمهورية أرض الصومال”، الساعية للانفصال عن دولة الصومال وتملك ميناء بربرة الهام على خليج عدن وقرب المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، إلى تعميق علاقاتها مع الإمارات وإثيوبيا كمسار حتمي لضمان عمليات التنمية وإقامة علاقات عسكرية وأمنية، غير أن هذا المسار تعرض لانتكاسة في شقه العسكري ففي منتصف سبتمبر 2019 أعلن رئيس جمهورية أرض الصومال موسى بيحي عبدي أن المشروع سيتحول من مطار عسكري إلى مطار للخدمة المدنية. وفي نهاية نوفمبر 2019 أعلنت شركة موانئ دبي العالمية التزامها ببناء ميناء بربرة بأرض الصومال ليصبح مرفق عالمي، وكجزء من مشروعات تطوير البنية التحتية في القرن الأفريقي. وأن الشركة أنهت المرحلة الأولى من ثلاثة مراحل وزادت قدرة الحاويات للميناء بنسبة 50% ورفعت حجم البضائع بنسبة 70%، وهو ما يشكل تحسن هائل.
تمثل مسألة “جمهورية أرض الصومال” مأزقًا حقيقيًا أمام إدارة أزمة الموانئ وفق الترتيبات الأمنية المختلفة في البحر الأحمر وخليج عدن، لاسيما أن أرض الصومال سعت أكثر من غيرها (خارج دائرة صناع المجلس: السعودية ومصر) لشمولها في هذه الترتيبات، ومنها مساعيها للحصول على وضع مراقب في قوة مهام البحر الأحمر التابعة للهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد”. وفاقم استثناء أرض الصومال من تكوين مجلس دول البحر الأحمر وخليج عدن (الرياض- يناير 2020) تهديد أرض الصومال بتصعيد أزمة موانئ القرن الأفريقي، حيث بادرت حكومة الإقليم بالتأكيد على أن أية مبادرة لتنسيق الاستجابة لبيئات البحر الأحمر المتغيرة لا تشمل “أرض الصومال” ستفتقر إلى المصداقية والقدرة والتمثيلية الضرورية للاتساق مع جهود التعاون المتعددة الجنسيات في هذه المياه. بينما رأى محللون من أرض الصومال أنه دون تعاون المجلس مع “حكومة أرض الصومال” فإن النظام المؤسس لن يكون فاعلًا بالنظر إلى عدم وجود أي تدخل صومالي في المياه البحرية لأرض الصومال في خليج عدن. وأن الظروف الحالية قد تثير صراعًا آخر. وأن المجلس غير مقبول دون مشاركة أرض الصومال وفقًا لبيان وزارة الشئون الخارجية بتاريخ 7 يناير 2020، التي سيكون عليها أن تؤسس بحرية خاصة بها لحماية سواحلها والسعي لبناء قدراتها بمساعدة أي لاعب إقليمي مستعد لذلك، بما في ذلك إيران وروسيا، مما يؤشر على تصعيد متوقع في إدارة أزمة موانئ القرن الأفريقي من بوابة “أرض الصومال” هذه المرة.
ثانيًا- المسارات الإقليمية لإدارة الأزمة
يبدو أن المقاربة الإقليمية (ونقصد هناك القوى الإقليمية العربية ذات الارتباط المباشر بمنطقة القرن الأفريقي عبر البحر الأحمر وخليج عدن ) لأزمة الموانئ القرن الأفريقي تتركز في تخوف رئيس من نفوذ قوى إقليمية معينة وهي إيران وتركيا وقطر، لاسيما أن هذه الدول حققت اختراقات ونجاحات عدة داخل أبنية دول القرن الأفريقي لاسيما إثيوبيا والصومال. ويمكن تلمس اهم المسارات “لإدارة الأزمة” فيما يلي:
- السعودية: أعلنت السعودية، في سياق النهج “الدفاعي” في هذه الأزمة، في السادس من يناير 2020 عن قيام “مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن” رسميًا ومكونًا من ثمانية دول هي مصر والسودان والأردن وجيبوتي والصومال وإريتريا واليمن إضافة إلى الدولة المؤسسة السعودية. وتضمن بيان تأسيس المجلس 12 نقطة تعمل الدول الأعضاء على تحقيقها والالتزام بالعمل بها من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي والبيئي والأمني. وأثار تكوين المجلس توقعات إيجابية بتعزيز الأمن في المنطقة لشمول قائمة الدول الصومال وإريتريا (بعد غيابهما عن المنتدى لأسباب متعددة) فيما اعتبر في حالة الأولى اصطفافًا صوماليًا وراء “المحور” السعودي المصري وانخراط مقديشو في الترتيبات الأمنية التي يقودها هذا المحور وما يعنيه ذلك من تأثيرات مباشرة على ملفات عدة أبرزها الحرب في اليمن، والاتساق مع مقاربات القاهرة في القرن الأفريقي، وربما علاقات الصومال بدول “معادية” للسعودية ومصر مثل تركيا وقطر. أما في حالة إريتريا، حليفة مصر الموثوق فيها في القرن الأفريقي وربما في تجمع دول حوض النيل، فإن شمولها في المجلس يمثل ورقة إضافية لها تعزز قدرتها التفاوضية مع إثيوبيا وخطوة للأمام في مسار إعادة دمجها في النظام الإقليمي والدولي.
التنافس المصري- الإثيوبي: أثار غياب إثيوبيا (وبدرجة أقل بقية الدول الظهيرة لدول حوض البحر الأحمر وخليج عدن مثل كينيا وأوغندا وجنوب السودان) عن تكوين أهم كيان مؤسسي لمقاربة أزمات المنطقة ومن بينها إدارة الموانئ المختلفة تساؤلات كثيرة، وتهديدات أكبر بشأن نجاعة سياسات المجلس مستقبلًا وقدرته على إدارة أزمة الموانئ وما يتعلق بها من تدخلات أطراف إقليمية من خارج المنطقة بدأت في التصعيد فعلًا في فبراير ومارس 2020، ومدى ارتباط هذا الغياب “بفيتو” مصري أكثر من ارتباطه بالرؤية السعودية المؤسسة للمجلس. وبادرت مصر بتأكيد رؤيتها في الترتيبات الأمنية في البحر الأحمر وضبط أو موازنة نفوذ القوى الإقليمية من خارج حوضه، وافتتحت في 15 يناير 2020 قاعدة برنيس البحرية -الأكبر من نوعها في مصر- قرب الطرف الجنوبي من سواحل مصر على البحر الأحمر، وفي مسعى جاد لمواجهة مآزق الافتئات على دورها في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وسط أزمة متفاقمة على حدودها الغربية في ليبيا. وربما تكون مصر هي مفتاح نجاح أو فشل مقاربة إدارة الأزمة مستقبلًا لعدة اعتبارات منها الأهمية التقليدية للدور المصري في المنطقة، وسعي الحكومة المصرية لاستعادة مواطئ أقدامها المفقودة في الصومال وربما جيبوتي وتحقيق نوع من التوازن في العلاقات العسكرية والأمنية مع السودان لمواجهة جهود إثيوبيا التي لم تتوقف لتحجيم الدور المصري في المنطقة؛ مما يعني أن حالة التوتر الحالية بين مصر وإثيوبيا بسبب “سد النهضة” ستكون ذات تأثيرات ممتدة على إدارة أزمة الموانئ لاسيما في إريتريا.
الإمارات: تواجه المقاربة الإماراتية مازقًا حقيقيًا في الوقت الراهن في مقاربة أزمة الموانئ في القرن الأفريقي؛ فبعد التواجد في إريتريا وجيبوتي وجمهورية أرض الصومال يشهد الوجود الإماراتي انكماشًا في الحالتين الأخيرتين. وبينما كانت الحالة الجيبوتية ذات مسار قانوني ووفق حسابات تقارب جيبوتي مع قوة عظمى هي الصين وشركات منافسة لشركة موانئ دبي، فإن حالة ميناء بربرة بجمهورية أرض الصومال ارتبطت أكثر باحتواء إقليمي قطري- تركي للدور الإثيوبي في هذا الملف، مع ورود تقارير إعلامية إثيوبية ومن أرض الصومال مطلع مارس الجاري عن قرب توصل إثيوبيا لاتفاق مع حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية بالسودان للحصول على امتيازات إدارة ميناء سوداني، وهو ما أكده وزير النقل الإثيوبي داجماويت موجيس Dagmawit Moges من أن بلاده تواصل مساعيها “لامتلاك ميناء” وفق استراتيجية اللوجيستيات الوطنية لعشرة أعوام Ten Years National Logistics Strategy المعلنة نهاية العام 2019، وأن المحادثات مع السودان جارية وسيتم إعلان النتائج في وقتها. ومن هنا يبدو أن قطر وتركيا قد عملتا على جذب إثيوبيا لناحيتهما بدلاً من الإمارات، وهو ما يجب أن يتم وضعه في الاعتبار عند مراقبة االاستراتيجيات التي تتبعها كل من قطر وتركيا لمد النفوذ في منطقة القرن الألإريقي بشكل عام .
ثالثًا- احتمالات إدارة الأزمة: الفرص والتحديات
ثمة فرص وتحديات امام إدارة الأزمة، مع ملاحظة أن بنية الأزمة نفسها عرضة للتغير السريع والارتهان بالحسابات قصيرة الأجل من قبل دول القرن الأفريقي نفسها:
- يمكن أن تنجح المؤسسات الفاعلة في إدارة الأزمة، وعلى رأسها مجلس دول البحر الأحمر وخليج عدن رغم حداثة تكوينه، في مهمة ضبط أكبر للأزمة وضمان عدم انكشاف المنطقة أمام موجة جديدة من امتيازات الموانئ هذه المرة لصالح تركيا وإثيوبيا وإيران. ويعتمد المجلس على مقاربة اقتصادية لاحتواء توجهات دوله بدعم سعودي ينتظر أن يكون كبيرًا، وبأدوات ينتظر أن تكون أكثر مؤسساتية. ويعزز فرص هذه المقاربة الشراكة الاستراتيجية السعودية- المصرية، والنجاح الذي حققه المجلس حتى الان في احتواء الصومال نسبيًا، ووثاقة علاقات السعودية بجيبوتي، وإلى حد ما مع إثيوبيا. كما يتوقع أن تقوم مصر بدور أكثر فعالية في الفترة المقبلة في المجلس في هذا المسار لحماية مصالحها في القرن الأفريقي وإقليم حوض النيل المتاخم له.
- توفر حالة الهدوء النسبي الحالية في الأزمة اليمنية فرصة أمام الدبلوماسية العربية المعنية بانتهاج سياسات أقل ضغطًا على دول القرن الأفريقي، بما فيها السودان، والابتعاد عن سياسات تقليدية عانت منها هذه الدول مثل المشروطية السياسية للعلاقات الاقتصادية (كما يتمثل أحيانًا في إجراءات عقابية بوقف استيراد سلع حيوية من دول القرن الأفريقي جراء مواقف سياسية “سلبية” أو غير متخذة)؛ مما سيقود لاحتواء قدر كبير من النفوذ المنافس داخل أضعف دول المنطقة لاسيما الصومال.
- تمثل استجابة بعض دول القرن الأفريقي، خاصة إريتريا والصومال وبدرجة أقل جيبوتي، فرصة حقيقية لتعزيز مقاربة مشتركة لإدارة أزمة الموانئ في القرن الأفريقي وضمان صيانة الأمن الإقليمي لدول المنطقة والمطلة على البحر الأحمر وخليج عدن. فإريتريا تعول بقوة على تفهم الرؤية المصرية ومخاوف القاهرة الحقيقية في المنطقة، أما الصومال فإنه –على المستوى الشعبي بشكل أوضح- يتطلع لدور سعودي- مصري حقيقي غير مشروط بأجندات سياسية أحادية، رغم التقارب الحالي مع تركيا وقطر، بما يعزز وحدة أراضيه وجهوده لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتجاوز الاستقطاب الإثيوبي الحالي لقيادته.
- تهدد فرص أية إدارة حقيقية للأزمة عوامل التدخل الخارجي غير المعني بمصالح دول المنطقة، ويبرز هنا ما تردد منذ مطلع العام الجاري عن سعي روسيا لإقامة قاعدة عسكرية وبحرية في جمهورية أرض الصومال مقابل اعتراف روسي باستقلال “الجمهورية” وانفصالها عن الصومال، وهي تقارير لم تخل من دقة ودلالات وواجهتها وزارة الدفاع الأمريكية في حينه بالرفض. وسيقود الوجود الروسي في “أرض الصومال” إلى تغيير كبير في طبيعة أزمة الموانئ، لاسيما مع توقع امتداده من أرض الصومال إلى مناطق وجود عسكري روسي فعلي حاليًا مثل موزمبيق.
- وتمثل استجابات إثيوبيا، إن استمرت في زخمها حتى بعد انتخابات أغسطس 2020 واتضاح عدم ارتهان مواقفها الراديكالية بالحشد الشعبي في هذه الانتخابات، تهديدًا حقيقيًا لأية جهود لإدارة الأزمة. إذ تسعى إثيوبيا لإيجاد موطئ قدم لها في ميناء بحري في السودان “وامتلاكه” وفق الاستراتيجية الرسمية الإثيوبية، إلى جانب نفوذها التقليدي في جيبوتي (التي لا تزال الميناء الرئيس لحركة التجارة الإثيوبية)، وتدشين عمليات للبحرية الإثيوبية في البحر الأحمر، مما سيقود إلى خلل في الترتيبات الحالية وتجدد التنافس الإقليمي في البحر الأحمر مع دعم كبير ومتوقع لدول مثل فرنسا وإسرائيل للبحرية الإثيوبية.
- كما تمثل السياسات التركية والقطرية اختراقات حقيقية لسياسات إدارة الأزمة من جهة تجاوز تلمس مواطئ الأقدام إلى البدء في تعقيد الأزمات عبر دعم اتخاذ مواقف متطرفة لبعض دول المنطقة في ملفات بالغة الحساسية، مرورًا بدعم الوساطة الإثيوبية في قضايا داخلية بدول القرن الأفريقي. ويعزز كل ذلك فرص التقاء مصالح إثيوبيا بالمصالح القطرية- التركية في مقاربة إدارة أزمة الموانئ من منظور مغاير تمامًا. وفي مقابل ذلك فإن محدودية التأثير والنشاط السياسي “العربي” بقيادة السعودية ومصر في القرن الأفريقي، أو ربما التفهم الجاد لمشكلات هذه الدول التنموية والأمنية وأولوياتها، يضيف زخمًا كبيرًا للسياسات التركية والقطرية.
- ماذا بعد؟
تتعدد مقاربات إدارة أزمة الموانئ في القرن الأفريقي حسب المصالح الوطنية؛ مما يجعل الأزمة نفسها ذات أوجه متعددة في واقع الأمر. وفيما تتسارع التغيرات الإقليمية في دول القرن الأفريقي، لاسيما في إثيوبيا الدولة الحبيسة ذات التطلعات غير المحدودة في امتلاك قوة وحضور بحريين في المنطقة، فإن احتمالات تفاقم الأزمة لا تزال هي الأرجح، وربما في مستويات جديدة بتشابكات إقليمية أكثر تعقيدًا.