مقدمة
تثير تجارب إدارة وحل الصراعات اليوم دروسًا مفيدة يمكن البناء عليها لإدارة الصراعات القائمة في مناطق عديدة. وفيما مثلت أفريقيا أكثر أقاليم معاناة من الصراعات وكانت الإقليم الوحيد الذي تزداد فيه الصراعات المسلحة بشكل مضطرد منذ مطلع الألفية الحالية؛ فإن الأوضاع المتردية في العديد من الدول العربية تؤشر على تحول المنطقة إلى بؤرة لصراعات مختلفة حيث وجود حروب أهلية في بلدان مثل ليبيا وسوريا واليمن والصومال، إلى جانب أزمات سياسية واقتصادية ملفتة في دول أخرى، وتهديدات “وجودية” تحيط بعدد لا بأس به منها. وهو ما يعنـي أن المنطقة تعيد تجربة ما شهدته أفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي حيث مرت بنحو تسعة حروب، كانت كبراها في السودان وإثيوبيا وأنجولا وموزمبيق وأوغندا بخسائر بشرية تتراوح بين نحو 100 ألف في أنجولا، إلى نحو ثلاثة ملايين نسمة في السودان تضرروا بشكل مباشر من الحرب الأهلية به([1]).
ويأتي استقراء هذه التجارب والدروس المستفادة منها، سواء إيجابية أم سلبية، في سياق مقاربة الاستشراف وحل الصراعات؛ بما تضيفه من زخم معرفي كبير لأطراف عملية الاستشراف وتعزيز نجاعة “تخطيط السيناريوهات التحولية” Transformative Scenario Planning([2]) التي يعملون على وضعها بشكل تعاوني لتفادي مزيد من تداعيات الصراعات، عوضًا عن حلها بشكل مستدام عبر معالجة الأسباب الجذرية لها، وتقديم حلول جماعية “لتغيير المستقبل”.
كيف تساعد أدوات الاستشراف في حل الصراع
يؤكد رائد تطبيق السيناريوهات التحولية، آدم كاهان أن تخطيط السيناريوهات التحولية، والذي يختلف عن السيناريوهات التكيفية، يمثل محاولة لاستخدام الاستشراف في حل القضايا والصراعات الاجتماعية من خلال قلب منطق الصراع على المستقبل٫ حيث يسعى كل طرف إلى تأمين موقعه على حساب الآخرين٫ إلى مساحة من التعاون؛ وذلك بناء إيجاد تصورات مشتركة حول هذا المستقبل. ويرى كاهان الذي انتقل من استخدام السيناريوهات في عالم الأعمال حيث كان من مخططي شركة شل الرائدة في تطوير التخطيط بالسيناريوهات أن هذه الأداة الاستشرافية ممكن أن تكون مفيدة في حالات ثلاثة: أن يعد الوضع غير مقبول أو غير مستقر أو غير مستدام، وغلبة الشعور بعدم القدرة على مزيد من التكيف مع الوضع القائم أو الهروب مما يحدث؛ وحالة عدم قدرة المواطنين على تحويل الوضع بأنفسهم أو عبر العمل مع “أصدقاء وزملاء” فحسب، ويكون النظام الاجتماعي- السياسي- الاقتصادي الأكبر (سواء القطاع أو الجماعة أو الدولة) الذي يوجدون فيه معقدًا للغاية –يكون فيه لاعبون كثر للغاية، واعتماد متبادل أكثر من اللازم، وعدم قدرة على التنبؤ- يصعب تغييره من قبل أي فرد أو تنظيم أو قطاع، ومن ثم تكون هناك حاجة للعمل المشترك مع لاعبين من كافة مكونات النظام؛ حالة عدم قدرة المواطنين على تغيير وضعهم مباشرة. ويكون اللاعبون –الذين يحتاجون إلى العمل معًا لصنع التحول- مستقطبون بشكل يعوق تقدم هذه المقاربة التشاركية، وفي أفضل الأحوال يتفقون على مواجهتهم لوضع مشكلاتي، وإن بتصورات وأسباب مختلفة، ويؤكد “كاهان” أن أية محاولة لتطبيق حل مباشر يمكن أن يؤدي إلى زيادة مقاومة الحل. ومن ثم فإن التحول يجب أن يتم بشكل غير مباشر وأن يسبقه بناء تفاهمات وعلاقات ونوايا مشتركة([3]).
وعلى خلفية هذه المقاربة التشاركية، التي تقوم على استشراف حلول بأدوات تحقق النفع المتبادل، تأتي أهمية تفكيك الصراع الذي يقع جراء مواجهة جهود إحداث التغييرات في الوضع القائم من قبل جهود مضادة تستهدف الحفاظ على “هذا الوضع”. وهكذا فإنه لا يمكن تحليل أو تفسير أي صراع معين، ومن ثم تقديم تصورات لحله، إلا في السياق الذي يقع فيه.
وفي نموذج بارز لمراجعة عناصر وآثار الصراع قدم إدجار كيلي E. Kelley (1970) عدة فرضيات منها: أن الصراع أمر حتمي؛ وأن القمع الدائم للصراع أمر مستحيل؛ وان الصراع قد يكون تخريبيًا أو بناءً؛ وأن الناس يبادرون بالصراع لإحداث تغير بنيوي، بينما يستجيب آخرون للصراع الذي يبدأه غيرهم للحفاظ على الوضع القائم؛ وأن إمكانات تحقق الصراع تزداد عندما تكون هناك زيادة في عوامل أخرى مثل تزايد الاعتماد المتبادل بين الأفراد او الهيئات، والاهتمام المتزايد بسلوكيات وافعال فرد أو هيئة من قبل أفراد او هيئات خارجة عن الوضع الذي يتم فيه الصراع، والتنوع المتزايد في عدد أو نوع الأفراد والهيئات([4])، وهو الأمر الذي تبناه كاهان بصياغة قريبة في شرح السيناريوهات التحولية.
كانت جنوب أفريقيا من أول التجارب التـي شهدت تطبيق السيناريوهات التحولية في مرحلة الانتقال من نظام الأبارتهايد إلى “الحكم الديمقراطي” (١٩٩٣-١٩٩٤) عرفت هذه التجربة بسيناريوهات مون فلور Mont Fleur Scenario Exercise. أعلن في البداية أن الهدف من المشروع لم يكن مناقشة حقائق الأمور في جنوب أفريقيا، وهي محل تنازع، بل استكشاف المسارات المستقبلية الممكنة للبلاد خلال عشر سنوات (١٩٩٢- ٢٠٠٢). وشارك في هذه العملية الاستشرافية حوالي ٢٢ باحث وناشط من مختلف الطيف الاجتماعي والسياسي والعرقي والأيديولوجي. وخرجوا بعد مناقشات بأربعة سيناريوهات حول مسار الأزمة وحلها. وهي:
- النعامة[5]: وفي هذا السيناريو تفشل العملية التفاوضية وتستمر الأزمة
- البطة العرجاء: وفيه، يتم التوصل إلي تسوية مؤقتة وغير مرضية٫ وتستمر الأزمة بلا حل
- إيكاروس: وفيه يحدث انتقال ديمقراطي سريع تتخذ الحكومة الجديدة فيه سياسات اقتصادية شعبوية تؤدي إلى الانهيار، وبالتالي تحول الأزمة إلى شكل آخر.
- طيران الفلامنجو: وفيه يحدث انتقال سياسـي مصاحب بسياسات تنموية مستدامة تتضمن مختلف قطاعات المجتمع.
تمت مناقشة نتائج هذه السيناريوهات بشكل أكثر تفصيلاً مع دوائر سياسية واجتماعية وحزبية خارج مجموعة بناء السيناريوهات، وهو ما كان بمثابة توسيع لعملية الاستشراف لتكتسب طابعًا اجتماعيًّا ولكي يتم ربطها بعملية التحول السياسـي الجاري ككل. وهو ما ضمن نجاح عملية بناء السيناريوهات التحولية. ولاحقًا تم إجراء هذه التجربة في صراعات أخرى في أفريقيا؛ زيمبابوي وجنوب السودان، وفي مناطق أخرى مثل كولومبيا بدرجات نجاح متفاوتة.
ولا تسعى السيناريوهات التحولية إلى حل الصراعات بل إلى خلق عملية تحاورية وتشاركية أو خلق لغة مشتركة بين الأطراف المتصارعة أو صاحبة وجهات النظر، والمصالح المتعارضة. وهو ما يساهم في دفع عجلة حل الصراعات.
يمكن تعزيز أدوات الاستشراف والسيناريوهات التحولية في حل الصراعات من خلال أدوات تحليل أخرى مثل تقييم “دفيد” الصراع الاستراتيجي DFID’s Strategic Conflict Assessment، وتحليل سيدا للقوة SIDA’s Power Analysis، وتقييم الأمم المتحدة/ البنك الدولي لاحتياجات ما بعد الصراع UN/World Bank’s post conflict needs assessment (PCNA). ويمكن القول باطمئنان كبير إن المجتمع الدولي لا يعاني من نقص الأدوات والمنهجيات للقيام بتحليل للصراع وتقييمات الاحتياجات، بل هناك تزايد في عرض فرص التدريب على استخدام هذه الأدوات([6]).
وفي المقابل تشير دراسات الحالة والشواهد الميدانية الأخرى إلى مجموعة مختلفة من التحديات منها:
- أن العديد من هذه الأدوات تعاني توترًا موروثًا بين الشمولية والانتقائية، حيث ثمة رغبة في تضمين المدخلات من أعداد كبيرة من الفاعلين ووجهات النظر؛ تسفر في النهاية عن قوائم مطولة وغير عملية من العوامل والاحتياجات، مع وضوح أقل بخصوص الصلة/ الارتباط والأولوية.
- استمرار وجود صعوبات أو التحفظ في جمع تصورات متنوعة (أمنية، وسوسيو-اقتصادية، وسياسية وغيرها)، على الأغلب بسبب عقبات بنيوية ومؤسساتية داخل المنظمات وغياب القدرات عبر الأبعاد cross-dimensional capacities. على سبيل المثال فإن خطط التنمية التي يضعها اللاعبون الدوليون (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) لا تزال تعاني من نقص معرفي بالتحليل السياسي لمصالح اللاعبين (أو على الأقل أولويات هؤلاء اللاعبون كما الحال في كثير من النماذج الأفريقية)، بينما يجب دمج التخطيط السياسي أو الأمني (كما في حالة بعثات حفظ السلام) في مجموعة قضايا أوسع (مثل القضايا السوسيو-اقتصادية)، والمثال الأوضح على ذلك جهود حفظ السلام الإقليمية في إقليم الساحل الأفريقي.
- في ظل وضع هش أو صراعي، فإن تحديد “عوامل الانقسام” dividers يجب أن يتجاوز مواقعها الآنية ويسعى لفهم مصالحهم الضمنية، وربما تبنيها في وقت لاحق.
- يتطلب هذا التحليل السياقي قدرة كبيرة ومكرسة لا تكون متاحة بشكل دائم في عمليات التخطيط([7]).
غير أن ما يميز السيناريوهات التحولية، أنها تتجاوز وظائف التنبؤ الاستراتيجي والنقد الاجتماعي بتأكيدها على الانتقال إلى الفعل، أكثر من اهتمامها بمجرد كشف علاقات السلطة وتفكيكها (وربما التأكيد على أوجه التناقض والصراع)، وهو ما تقوم به فعليًّا شركات كبرى مثل شل والدول الكبرى والغنية التي تشكل توجهاتها مستقبل العالم([8])؛ كما ترى السيناريوهات التحولية إمكانية للتأثير في هذا المستقبل من خلال الفاعلين الاجتماعيين سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات، وعلى اختلاف موقعهم من هيكل القوة في المجتمع أو النظام. وتعيد تعريف مفهوم التخطيط الذي تقوم عليه العملية؛ فالتخطيط لا يعني مجرد بناء خطط للتكيف مع مستجدات المستقبل بل يصبح عملية تفكير جماعي منظمة في هذا المستقبل، وهو ما يستتبع تغيير أفكار ورؤى وممارسات المشاركين([9])، وخفض استقطاباتها قدر الإمكان.
سبل حل الصراعات عربيًا
يمكن استخلاص عدة دروس عربية من هذه التجارب الأفريقية المهمة وغيرها، أبرزها:
- مواجهة الأسباب الحقيقية للصراعات واستشراف حلول تشاركية بقدر الإمكان تعزز في النهاية استدامة تسوية الصراعات وتؤدي إلى نجاعة بناء القدرات والمصالحة، كما يتجلى لنا في الأزمة الليبية الدائرة حاليًا والتي تفتقر إلى قيادات محلية قادرة على توجيه الأزمة نحو المسار السياسي والقفز فوق إملاءات الأطراف الخارجية الداعمة لاستمرار الأزمة وعدم التفريط في حصصها الحالية والمحتملة في الموارد الليبية.
- إمكان اللجوء مرحليًا إلى خيارات سياسية تعزز الاستقرار الاقتصادي والتنموي، كما في النموذج الرواندي.
- هناك دول عربية كبيرة تملك قواعد مجتمعات مدنية قوية، وربما تكون هناك حاجة ملحة في الظروف الراهنة لتعزيز أدوار المجتمع المدني ضمن اهداف مشتركة مع الدولة لتعزيز النجاعة المجتمعية، وتفادي حالات الاختناق وانسداد الأفق السياسي قدر الإمكان.
- أرجع بعض المراقبين جذور قيام الاتحاد الأفريقي للتجربة المريرة التي شهدها إقليم البحيرات العظمى في العام 1994. ففي قمة منظمة الوحدة الأفريقية في يوليو 1994 بتونس عبر الرئيس الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا عن سخط الشعب الأفريقي إزاء المجتمع الدولي ودعا الدول الأعضاء “لبناء وسيلة أفريقية للاستجابة للتحديات الأمنية للقارة الأفريقية([10]).” ومن هنا يمكن استخلاص فكرة تفعيل العمل الجماعي العربي لصالح “الدولة الوطنية” كما في النموذجين الليبي والسوري، وإن بقي هذا الدرس رهنا بتعارض مصالح الدول العربية المختلفة.
- العمل الجماعي علي وضع سيناريوهات تحولية، كما تمثل في التجربة الإثيوبية الحالية بقيادة رئيس وزرائها آبي أحمد، تسهم في النهاية في تفادي تداعيات خطيرة متوقعة بشكل حتمي جراء مسارات الصراعات العربية الحالية، وتنتج تصورات بديلة قد تصل إلى تقديم حلول سياسية لهذه الصراعات.
المراجع
[1] Charles Dokubo, Nigeria’s Role in Conflict Resolution: A New Paradigm, Journal of Alternative Perspectives in the Social Sciences (2011) Vol 3, No 3, p. 559
[2] انظر مراجعة دقيقة للمفهوم وسرد مضمونه وكيفية تطويره من قبل آدم كاهان A. Kahane، وما يمكن اعتباره ملخصًا وافيًا لعمله الشهير (Tranformative Scenario Planning: Working Together to Change the Future- 2012)
- Adam Kahane, Transformative Scenario Planning: Working Together to Change the Future, Stanford Social Innovation Review, November 20, 2013 https://ssir.org/books/excerpts/entry/transformative_scenario_planning_working_together_to_change_the_future
[3] Adam Kahane, Transformative Scenario Planning: Working Together to Change the Future, Op. Cit.
[4] Kelley, Edgar, Principles of Conflict Resolution, NASSP Bulletin/ April 1979, p. 12.
[5] تتخذ السيناريوهات بكافة أشكالها أسماء مجازية تعبر عن مضمون كل سيناريو وتمثل الجانب الإبداعي والروائي في العملية.
[6] Center on International Cooperation, Strategic Planning in Fragile and conflict Contexts, New York University, July 2011, p. 20.
[7] Ibid.
[8] محمد العربي: بناء السيناريوهات المستقبلية: دليل نقدي، الإسكندرية، مصر: مكتبة الإسكندرية، مركز الدراسات الاستراتيجية، 2018 ، ص 33.
[9] محمد العربي: بناء السيناريوهات المستقبلية، مرجع سابق. ص 33.
[10] Solomon Dersso, The African Union’s Role in Maintaining Peace and Security in the Great Lakes Region (in: Gilbert M. Khadiagala Editor, War and Peace in Africa’s Great Lakes Region), Palgrave Macmillan, New York, 2017, p. 86.