برزت تركيا منذ نهاية العام الفائت كلاعب عسكري مباشر وبارز في الأزمة الليبية، وعززت هذا الدور في مطلع يناير 2020 عندما قرر البرلمان التركي (2 يناير) الموافقة على مشروع قانون يخول للحكومة- لمدة عام كامل- الحق في إرسال جنود إلى ليبيا، فيما وصفه “بولنت توران”، البرلماني التركي ونائب رئيس حزب “العدالة والتنمية” الحاكم خطوة تركية ضرورية “لتكون تركيا قوة عظمى”، وليست مغامرة في ليبيا. ويأتي هذا التطور على خلفية حقيقة أن تركيا ثاني دول العالم – منذ العام 2014 وبعد الولايات المتحدة- في نسبة قواتها المنتشرة خارج أراضيها (تحديدًا في 13 دولة آخرهم ليبيا، ومنهم سبعة دول تنسق تركيا عملياتها فيها مع الناتو)، التي ارتفعت من 8.6% إلى 13.2% في العام 2017، يوجد أغلبهم في قبرص التركية (أكثر من 40 ألف جندي)([1]). وبعد القرار بوقت قصير أكد الرئيس التركي رجب أردوجان وجود وحدات عسكرية تركية في ليبيا بالفعل.
ودخلت القوات التركية في اشتباكات عسكرية مباشرة مع الجيش الوطني الليبي ؛ وتطورت هذه الاشتباكات في الأسابيع التالية وصولًا إلى تورط قطع بحرية تركية راسية قبالة طرابلس مع قوات الجيش الوطني الليبي حول العاصمة مطلع أبريل الجاري في صدام مباشر ربما يوسع لاحقًا من حجم العمليات العسكرية المتبادلة، أو على الأقل يؤشر على بقاء خطوط المواجهات مفتوحة على كافة الاحتمالات دون تفادي أية نقطة حرجة في الصراع.
ما هي المسارات التي تتبعها شحنات الأسلحة التركية إلى ليبيا؟
شهد الدعم العسكري التركي في ليبيا تطورًا ملفتًا منذ أوائل العام 2019 شمل عدة مسارات منها نقل مسيرات drones، وعربات مسلحة، وأسلحة ليزرية، وأسلحة وذخيرة لحكومة الوفاق الوطني، وتأتي الطائرات المسيرة تركية الصنع من طراز Bayraktar TB2 التي تنتجها شركة السلاح التركية Baykar المملوكة لصهر أردوجان: سلجوق بيرقدار لصالح القوات الجوية التركية منذ العام 2009على رأس التعزيزات العسكرية التي تقدمها تركيا لحكومة الوفاق على أمل أن تساهم في تعزيز مواجهة الجيش الوطني الليبي. إضافة إلى مسار أمني شمل تدريب نحو مائتي شرطي من الأجهزة الأمنية بحكومة الوفاق([2]).
وعملت القوات التي أرسلتها تركيا (وشملت جنود وفنيين أتراك وآلاف المرتزقة السوريون وصلت بعض التقديرات لهم إلى حوالي خمسة آلاف فرد) على تشغيل نظام “كورال” KORAL، وهو نظام تركي للحرب الإلكترونية متنقل أرضيًا صممته شركة Aselsan التركية، ويستهدف إفقاد المسيرات بلا طيار والأسلحة المتطورة التي يستخدمها الجيش الوطني الليبي .
وفيما يرتبط بالتهديدات المباشرة للأمن المصري، كشفت حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديجول في نهاية يناير 2020 عن توجه ناقلة تحمل العلم اللبناني تنقل عربات مسلحة لليبيا بحراسة فرقاطة تركية؛ تم احتجازها لاحقًا من قبل السلطات الإيطالية ومنعها من مغادرة ميناء جنوا في 3 فبراير. وأقر قائد الناقلة حملها أسلحة من ميناء مرسين التركي بهدف نقلها لطرابلس وشملت الشحنة دبابات وبنادق آلية ونظم دفاع جوي([3])؛ وهي معدات تشبه كثيرًا الأسلحة التي استخدمها تنظيم الولاية الإسلامية في سيناء وجاءت من ليبيا، ومثلت تهديدًا غير مسبوق منذ عقود للأمن القومي المصري، حيث دمر جنود الجيش المصري في الفترة 2015-2017 أكثر من 1200 شاحنة كانت متوجهة من ليبيا إلى مصر بالأسلحة والذخيرة([4]).
وهكذا يمكن القول أن مسارات الدعم اللوجيستي التركي في ليبيا تشمل تقديم معدات عسكرية برية وجوية وبحرية؛ كما أنها توجه لعناصر تركية وأجنبية، وقوات تابعة لحكومة الوفاق الوطني، وميليشيات أخرى، وربما تمثل تهديدًا مستقبليًا لدول الجوار، لاسيما مصر.
ما هي أنواع الأسلحة التي ترسلها تركيا لليبيا؟
تباينت الأسلحة التركية المرسلة لليبيا منذ نهاية العام 2019 وحتى الربع الثاني من العام الجاري من جهة الكيف والكم بشكل تصاعدي. فقد ذكر تقرير للجنة خبراء الأمم المتحدة حول ليبيا (ديسمبر 2019) نقل تركيا بشكل منتظم لمعدات إلى طرابلس شملت شحنات من مسيرات وعربات مسلحة وأسلحة ليزرية وأسلحة وذخيرة أخرى، وأن الدولة التركية وشركات وأفراد أتراك تورطوا بشكل مباشر في هذه الأنشطة انتهاكًا لقرار مجلس الأمن. وركز التقرير على كميات كبيرة من عربات الدفع الرباعي “كيربي” المقاومة للألغام Kirpi 4×4 Mine Resistant Ambush Protected (MRAP) التي تصنعها شركة BMC التركية، وتم نقلها عبر ناقلة مولدوفية MV Amazon([5]).
كما أرسلت تركيا خلال شهري يناير وفبراير 2020 ما لا يقل عن ثلاثة شحنات لا تقل أيًا منهم عن 3500 طن من المعدات، كما تساهم القوات التركية حاليًا في تدريب جنود ليبين على حرب شوارع لاسيما تكتيكات صد العربات المسلحة. ويما يشكل تصعيدًا نوعيًا تعتمد قوات أنقرة في ليبيا على تكنولوجيا الحرب الإلكترونية والجمع بين نظام الدفاع الجوي الأمريكية والتي تم تطويرها محليًا في تركيا. كما أقامت تركيا مرافق عسكرية حمائية في قاعدة مصراتة الجوية، وتسابق الزمن لتطوير أسطولها من المسيرات القتالية المنتشرة شمالي غرب ليبيا([6]).
وبعد أسابيع من إعلان الحكومة التركية خطط إرسال قوات لليبيا ظهرت في نهاية يناير الفائت مؤشرات على جدية هذه الخطط حيث ظهرت فرقاطتين من البحرية التركية من طراز جابيا Gabya وهما TCG Goksu، و TCG Gokova قبالة سواحل طرابلس بالتزامن مع وصول معدات ثقيلة، مع ملاحظة إعلان القيادة البحرية بالناتو قبلها بأسابيع مشاركة الفرقاطتان في تقديم دعم مشترك لعملية حارس البحار Operation Sea Guardian التي يقوم بها الحلف بالتعاون مع سفينة وليام ماكلين W. McLean التابعة للبحرية الأمريكية “في وسط البحر المتوسط”. وكانت الفرقاطتان التركيتان عاملة بالبحرية الأمريكية وتسميان بفئة Oliver Hazard Perry، قبل أن تشتريهما انقره، ومن ثم فإنه بمقدورهما تقديم دفاعات جوية مهمة للغاية ضد هجمات الجيش الوطني الليبي الجوية. وبمقدور الفرقاطتين، اللتان وضعتهما تركيا قيد برنامج تجديد جذري وبهما نظام إطلاق رأسي Mk41 ثماني الخلايا قادر على إطلاق صواريخ بحرية من طراز (RIM-162 ) RIM-162 Evolved Sea Sparrow Missiles (ESSM) التي يمكنها الاشتباك مع مسيرات أكبر حجمًا حتى من تلك التي يجيد الجيش الوطني الليبي تشغيلها([7]).
وفي مقابل هذا التصاعد الكمي والنوعي يتفوق الجيش الوطني الليبي على منافسيه في “حرب المسيرات” –دون حدوث اشتباكات متواصلة أو مفتوحة تتجاوز الضربات والردود الخاطفة من الجانبين- إذ يملك مسيرات يونج لونج 2 (Wing Long II) صينية الصنع التي تعزز عمليات في نطاق 2000كم عبر وصلها بالأقمار الصناعية، كما تؤكد بعض التقارير توفر صواريخ جو- أرض من طراز بلو آرو 7 Blue Arrow 7 صينية الصنع ذات القدرة الكبيرة على توجيه ضربات دقيقة، إضافة إلى ميزة نسبية مهمة وهي قدرة “الجيش الوطني الليبي” على التحرك “في منطقة الاشتباك المسلح” والاستجابة اللحظية للضرورة العملياتية([8]).
هل تصل الأسلحة التركية إلى تنظيمات إرهابية؟
يمكن القول أن دعم أنقره لحكومة الوفاق الوطني يعني بطريقة تلقائية أو غير مباشرة دعم بعض الميليشيات المسلحة، وأحيانًا بعض الجماعات المصنفة إرهابية ومنها أعداء الولايات المتحدة مثل جماعة محمد بن دردف الذي لقي مصرعه في هجوم للجيش الوطني الليبي في 26 مايو 2019، وكان مطلوبًا من واشنطن على خلفية الهجوم على البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي (سبتمبر 2012). كما تأكدت هذه الصلة منذ بدء تركيا في تصدير السلاح لحكومة طرابلس منذ فبراير 2015، حسب رئيس الوزراء الليبي حينذاك عبد الله الثني، وأعلن في ديسمبر 2018 عن الاستيلاء على شحنة 2.5 مليون رصاصة تركية الصنع في إحدى السفن بميناء الخمس شرقي طرابلس، وتم بعدها بيوم واحد مصادرة شحنة شملت 3000 طبنجة آلية تركية الصنع ضمن قطع أخرى، وبنادق صيد، وذخيرة في نفس الميناء([9]) كان من المتوقع أن يقع أغلبها في يد الميليشيات الداعمة لحكومة الوفاق لاسيما في مصراتة التي يقع ميناء الخمس في منتصف المسافة بينها وبين طرابلس.
وأكدت وحدات مراقبة واستخبارات تابعة “للجيش الوطني الليبي” أواخر فبراير الفائت وصول أسلحة ومعدات عسكرية من تركيا إلى ميناء مصراتة (الواقع على بعد 200 كم شرقي العاصمة طرابلس) لدعم التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة في الإقليم الغربي([10])“. وبالفعل فقد أظهرت صور فضائية مأخوذة من قبل “ماكسار” Maxar أن الحاويات التي تم ضربها كانت مصفوفة في جزء من الميناء في جهد واضح لإخفاء تفريغ الحمولة من سفينة راسية بجوارها([11]).
وتصاعد نشاط العمليات في مطلع أبريل الجاري مع تبادل الهجمات بين القوات التركية وعناصر الجيش الوطني الليبي في منطقة العجيلات غرب العاصمة طرابلس، حيث ردت بارجة حربية تركية على هجمات سابقة من عناصر موالية للجيش الوطني الليبي بصواريخ من البحر.
النقل البحري التركي إلى ليبيا وعملية “إيريني”
دخلت تركيا، فيما تواصل تعزيز سياسات الأمر الواقع في شرق المتوسط بالتماس مع المنطقة الاقتصادية الخالصة مع ليبيا- بالفعل في محادثات مكثفة مع حكومة الوفاق لإقامة قاعدة عسكرية تركية في طرابلس، وعزز صحة هذه المساعي إقدام حكومة الوفاق على شراء معدات عسكرية متقدمة نوعيًا من تركيا شملت دبابات وعربات مسلحة ونظم دفاع جوي متقدمة لدعم القوات التابعة لحكومة الوفاق والميليشيات الداعمة في مواجهتها للجيش الوطني الليبي. ويتوقع أن تتولى القاعدة العسكرية التركية في طرابلس العمليات العسكرية في ليبيا، وتعزيز عمليات القوات الخاصة التركية والقوات البحرية وأن تضم مهبطًا للطائرات ومكتب اتصال لعقد اتصالات مباشرة مع قادة حكومة الوفاق الوطني، إضافة إلى استقدام طيارين أتراك لتدريب قوة جوية تابعة لحكومة الوفاق على “طائرات تم التعاقد على شرائها من انقرة بالفعل”([12]).
وفي نهاية مارس توصل الاتحاد الأوروبي لاتفاق لتدشين بعثة بحرية وجوية جديدة في أبريل الجاري لمراقبة حظر تصدير السلاح لليبيا بموجب قرار مجلس الأمن بالأممي المتحدة رقم 1970 (2011). ومن المتوقع أن ترفع البعثة، التي تحمل اسم إيريني Irini، القدرة العملياتية لجهود الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا لوقف شحنات الأسلحة لليبيا من قبل تركيا. وبمقتضى العملية ستسمح اليونان بإيواء المهاجرين الذين يتم إنقاذهم في موانئها مقابل أن يغطي الاتحاد تكاليف العملية وإيواء المهاجرين الذين تم إنقاذهم([13]).
خلاصة
يتواصل الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق الوطنية والأطراف المسلحة الداعمة لها، فيما يتواصل غلق مرافق إنتاج البترول الليبي، الذي تكلف منذ مطلع العام الجاري خسائر قدرتها شركة النفط الوطنية بأكثر من 3.5 بليون دولار، جزءًا من جهود خليفة حفتر لفرض السيطرة على طرابلس ومعاقبة حكومة الوفاق بها لتوصلها لاتفاقات أمنية وبحرية مع تركيا، وفتح الباب أمام الدعم العسكري من أنقره. ويتهم حفتر حكومة الوفاق باستخدام عائدات البترول لتمويل الميليشيات والمرتزقة السوريون الذين ارسلتهم تركيا للمساعدة في محاربة الجيش الوطني الليبي([14]). ويبدو أن فاتورة الدعم العسكري التركي سترتفع في الفترة المقبلة مع توطيد انقره أقدامها في ليبيا عبر القاعدة البحرية المزمعة في طرابلس رغم عملية “إيريني” وترقبًا لنجاح اليونان في امتصاص الآثار الجانبية لحركة الهجرة من ليبيا إلى أوروبا، وتعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة.
مراجع
[1] Turkish Parliament Approves Sending Of Troops To Libya, AKP Official Celebrates: ‘Libya Will Be The 13th Country’ To Which Turkey Has Sent Troops, MEMRI, January 2, 2020 https://www.memri.org/reports/turkish-parliament-approves-sending-troops-libya-akp-official-celebrates-libya-will-be-13th
[2] Violating UN Arms Embargo, Turkey’s AKP Government Ships Armed Drones, Armored Vehicles, ‘Laser Weapons,’ Other Arms And Ammunition To Pro-Islamist Government In Libya, Trains Libyan Military And Police Personnel, MEMRI, December 6, 2020 https://www.memri.org/reports/violating-un-arms-embargo-turkeys-akp-government-ships-armed-drones-armored-vehicles-laser
[3]European Union to monitor Turkey’s arms shipments to Libya, Nordic Monitor, March 31, 2020 https://www.nordicmonitor.com/2020/03/turkeys-arms-shipments-to-libya-will-be-monitored-by-the-eu/
[4] Ivan Bocharov, Turkey’s Role in the Libyan Conflict, Modern Diplomacy, January 22, 2020 https://moderndiplomacy.eu/2020/01/22/turkeys-role-in-the-libyan-conflict/
[5] European Union to monitor Turkey’s arms shipments to Libya, Op. Cit.
[6] Jalel Harchaoui, The Libyan Civil War Is About to Get Worse, Foreign Policy, March 19, 2020 https://foreignpolicy.com/2020/03/18/libyan-civil-war-about-get-worse/
[7] Joseph Trevithick, Two Turkish Frigates Appear Off Libya Amid Reports Of Troops And Armor Landing Ashore, The Drive, January 28, 2020 https://www.thedrive.com/the-war-zone/32002/two-turkish-frigates-appear-of-libya-amid-reports-of-troops-and-armor-landing-ashore
[8] Shawn Snow, The Marines want to get rid of their tanks. Here’s why, Marine Times, March 26, 2020 https://www.marinecorpstimes.com/flashpoints/2020/03/26/the-marines-want-to-get-rid-of-their-tanks-heres-why/
[9] Violating UN Arms Embargo, Op. Cit.
[10] Turkey is transferring weapons to Libya via Misrata Port: LNA, Al-Masdar News, February 24, 2020 https://www.almasdarnews.com/article/turkey-is-transferring-weapons-to-libya-via-misrata-port-lna/
[11] Jeremy Binnie, Libyan National Army says it attacked Turkish arms ship in Tripoli port, Jane’s, February 21, 2020 https://www.janes.com/article/94447/libyan-national-army-says-it-attacked-turkish-arms-ship-in-tripoli-port
[12] Turkish Military Base in Tripoli Soon, See News, January 31, 2020 https://see.news/turkish-military-base-in-tripoli-soon-sources/
[13] European Union to monitor Turkey’s arms shipments to Libya, Nordic Monitor, March 31, 2020 https://www.nordicmonitor.com/2020/03/turkeys-arms-shipments-to-libya-will-be-monitored-by-the-eu/
[14] Libya Says Oil Shutdown Losses Exceed $3.5 Billion, The New York Times, March 24, 2020https://www.nytimes.com/aponline/2020/03/24/business/ap-ml-libya-oil-1st-ld-writethru.html