تشكل الأزمة الليبية هاجسًا مستمرًا للقاهرة في ظل ما تفرضه من تهديدات على الأمن القومي المصري، فاقم منها إقدام تركيا على تقديم دعم عسكري صريح لأطراف في الأزمة، وعدم قدرة “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر على حسم الوضع برمته لصالحه، عوضًا عن اضطراب خريطة الطريق الأممية بعد طلب المبعوث الأممي غسان سلامة إعفائه من مهمته مطلع مارس الجاري، وتراجع نسبي في الدور المصري في الأزمة وفعاليته مقارنة بتصاعد أدوار أخرى لاسيما الجزائر. ويمكن القول أن منحى إدارة مصر للملف الليبي قد شهد تحولًا منذ أكتوبر 2018 بعد اختتام آخر محادثات لتوحيد الجيش الليبي في القاهرة (التي امتدت منذ سبتمبر 2016) دون التوصل لتفاهمات ملزمة بين أطراف المحادثات. وأصبحت القاهرة تؤكد بشكل مباشر، لاسيما منذ بدء حفتر عملية “طوفان الكرامة” في أبريل 2019، على دعمها للأخير ومساعيه لتوحيد ليبيا وتخليص غربي ليبيا من التهديدات الإرهابية.
ويمكن تلمس أهم محاور إدارة مصر للملف الليبي فيما يلي:
مواجهة التهديدات الإرهابية والأمنية:
تمثل التهديدات الإرهابية والأمنية الهاجس الأبرز في مقاربة القاهرة للملف الليبي. خاصة أن الفترة 2014-2018 شهدت تصاعد هذه التهديدات في مصر جراء تدفق العناصر الإرهابية من الحدود الغربية([1]). وتضاعفت هذه المخاوف في الشهور الأخيرة مع تصاعد النفوذ التركي الذي تراه القاهرة مؤديًا لتحويل ليبيا إلى مركز للجماعات الإرهابية والمقاتلين الأجانب. إضافة إلى ذلك فإن القاهرة رأت أن المبعوث الأممي غسان سلامة، الذي ظلت على خلاف مبطن معه، لم يكن على مستوى ثقة المجتمع الدولي به في مهمة تحقيق المصالحة الليبية وإعادة بناء المؤسسات الليبية والقضاء على الإرهاب والحفاظ على وحدة الأراضي الليبية. وأوضحت القاهرة رؤيتها بضرورة بذل جهود هائلة للوصول إلى “حل مناسب” والحفاظ على الأمن القومي الليبي وأمن دول الجوار، في ضوء تقاعس دول الناتو عن صيانة الأمن وترك الفوضى الأمنية تضرب أرجاء ليبيا التي تمتد حدودها مع مصر لأكثر من 1100 كيلومتر؛ وضرورة اختيار مبعوث أممي جديد يلتزم بضمان هذه الأهداف؛ ما يعني تأكيد القاهرة على البعد الأمني في قلب مقاربتها الملف الليبي.
وبالتأكيد فإن تخوفات القاهرة حقيقية، بل وتتطلب ضربات استباقية تفاديًا لأية تراجعات في حالة الاستقرار التي تشهدها حدود مصر الغربية؛ لكن يتصور أن القاهرة بحاجة إلى مقاربة أكثر واقعية وأقل “صفرية” – إن أمكن- تجاه المكون العسكري بالجيش الليبي خارج مظلة “الجيش الوطني الليبي” تقوم على تطمينات –بالتنسيق مع أطراف أوروبية مثل ألمانيا وربما إيطاليا- لإعادة محادثات توحيد الجيش الليبي بمقتضى مخرجات اجتماع برلين (منتصف يناير 2020) التي أعادت تفويض القاهرة بإدارة هذا الملف، بالتوازي مع العملية السياسية وثيقة الصلة بهذا المسار من جهة تحديد سلطة الجيش الليبي مستقبلًا. ويمكن لمثل هذه المقاربة أن تقلص حالة التشدد في غرب ليبيا تجاه أي دور للقاهرة على مختلف الأصعدة.
ضمان وحدة الأراضي الليبية:
يأتي هذا المحور في قلب مقاربة القاهرة للملف الليبي، فقد رأت القاهرة في خليفة حفتر عامل قوي تمكن من فرض سيطرة كبيرة، بغض النظر عن طبيعة هذه السيطرة ومواءماتها، على أجزاء شاسعة من الأراضي الليبية، وعزز خيارها له كضمانة لتحقيق عدة أهداف من بينها ضبط الحدود الليبية- المصرية، ما فسره محللون ليبيون بالضرورة المصرية بالرغم من دعوة مصر المستمرة لحل سياسي دون بذل جهود كافية في هذا المسار منفردًا([2]).
ويمكن للقاهرة الاستفادة من تصورها التقليدي –والتاريخي بشكل لا لبس فيه-لضرورة وحدة الأراضي الليبية في مواجهة التدخل التركي الذي لا يأخذ هذا البعد بعين الاعتبار، رغم التأكيدات الرسمية عكس ذلك، ويركز على الروابط التاريخية بين الأتراك وسكان غرب ليبيا. وبشكل أكثر تحديدًا فإن رؤية القاهرة قد تحظى بدعم أكبر من داخل الاتحاد الأفريقي حال تنشيط دوره في الأزمة الليبية حسبما يتوقع من الترتيبات الحالية لاجتماع القادة الأفارقة بشأن تحقيق المصالحة في ليبيا في يوليو المقبل بأديس أبابا. لذا فإنه من المتوقع أن تطور القاهرة هذه الرؤية بشكل محدد وطرحها في سياق تفادي التأثيرات الإقليمية السلبية على وحدة الأرضي الليبية وتفعيل دور الاتحاد الأفريقي، مع الأخذ في الاعتبار دور جنوب أفريقيا، رئيسة الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية، الذي سيضع الأزمة الليبية في قمة أولوياته، إضافة إلى ما سبق من محاولات اختراقها ملفات أخرى تعني مصر مثل الأمن في البحر الأحمر وسد النهضة ودورها الكبير في تسوية الأزمات في السودان وجنوب السودان من بوابة الاتحاد الأفريقي.
دعم “الجيش الوطني الليبي” وخليفة حفتر:
تتطابق وجهة نظر القاهرة بشكل ملفت مع المشير خليفة حفتر في تبني خطاب مواجهة الإرهاب والعمل على وحدة ليبيا، رغم بعض التصورات المبدئية التي رأت في حفتر “مجرد” أداة “تكتيكية” مناسبة للقاهرة للحفاظ على مصالحها في المقام الأول، وليس شريكًا في مستقبل ليبيا، على الأقل لاعتبارات السن (76 عامًا) والحالة الصحية، فقد استمر دعم القاهرة لحفتر على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية واللوجيستية، وعبر قنوات مصر المختلفة مع مكونات الشعب الليبي ليناقض ذلك تلك التصورات المبدئية. لكن يبدو أن القاهرة جازفت بتقديم دعم مطلق وصريح لحفتر، تعرضت معه لانتقادات بين حين وآخر من أطراف الأزمة الليبية (خاصة في الفترة التي سبقت التدخل التركي السافر بتقديم الدعم العسكري لهذه الأطراف في العام الجاري) وبعض الدول المعنية أو الأمم المتحدة بسبب اختراق حظر صادرات السلاح لليبيا، الذي وصفه مسئولون أمميون مؤخرًا “بالمزحة”([3])، إضافة إلى تآكل مصداقية وساطة القاهرة –تحديدًا في ملف توحيد الجيش الليبي- مع وصول علاقتها بمنافسي حفتر في ليبيا إلى نقطة الصراع المفتوح. ويمكن للقاهرة جسر هذه الفجوة عبر البناء الحقيقي على الرغبة المتزايدة بين أهالي غرب ليبيا وطرابلس على وجه الخصوص (التي تضم وحدها ربع سكان ليبيا، وتؤكد مقابلات متنوعة مع سكانها قناعتهم بأن الفساد الحكومي المسئول الأول عن تدهور الأوضاع بها، يليه فساد الجماعات المسلحة) في الانتقال من سيطرة الميليشيات إلى تكوين جهاز أمني أكثر رسمية، عبر جيش وشرطة موحدين([4]).
وواقعيًا، بغض النظر عن فعالية توظيف حفتر لحماية المصالح المصرية، فإن خيار دعمه دعمًا مطلقًا في المرحلة المقبلة يهدد نجاعة دور مصر في ليبيا حال التوصل لتسوية. ويمكن للقاهرة تدارك هذا المأزق بإعادة التأكيد العملي على دعم مسار توحيد الجيش الليبي، وفي القلب منه الجيش الوطني الليبي الذي اكتسب خبرة ميدانية كبيرة نسبيًا، كهدف وحيد للقاهرة.
مواجهة النفوذ الإقليمي المعادي لمصالح القاهرة:
مع اقتراب حملة حفتر للاستيلاء على طرابلس (أبريل 2019) من بلوغ العام، واجهت القاهرة نموًا متزايدًا للنفوذ التركي المدعوم من قطر في الشأن الليبي. وتصاعد هذا التهديد منذ نوفمبر 2019 بتوقيع تركيا وحكومة الوفاق الوطني بطرابلس مذكرتا تفاهم لترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني بينهما وتفعيل الاخير في ديسمبر 2019؛ كما استفادت تركيا في اختراقها ذلك من الفتور الشعبي الليبي تجاه حفتر –الذي تعهد “بفتح” طرابلس في غضون أيام قليلة- وتآكل الفكرة المسبقة عنه باعتباره “الحل الوحيد” للأزمة الليبية، وعدم تحمس قطاعات كبيرة من الشعب الليبي لحكمه البلاد بعد سنوات من الصراع الداخلي الدموي.
إضافة إلى ذلك، يهدد العامل التركي مصالح القاهرة من جهة تكامله مع الدور القطري، كما لاحظ مراقبون تدشين العمل في “ثكنات خالد بن وليد” بالدوحة في ديسمبر 2019، بعد أسابيع قليلة من توقيع مذكرتا التفاهم التركية- الليبية، لتكون مقرًا مشتركًا لقوات الدولتين (تركيا وقطر)؛ وكذلك الدعم الأمريكي للدور التركي في ليبيا لدعم طرابلس ضد “محاولات روسيا لاستغلال الصراع”([5]).
تتمتع القاهرة –مقابل هذا النفوذ العسكري المتصاعد- بميزة تواصل حقيقي مع أغلب مكونات المجتمع الليبي، لاسيما القبائل الليبية، يمكن أن يضاعف منه العودة إلى خطاب معتدل لاحتواء مكونات أخرى ترى في علاقات حكومة الوفاق مع تركيا افتئاتًا على السيادة الوطنية الليبية، وأن نشر تركيا مقاتلين سوريين في طرابلس يؤكد الاتهامات الموجهة لحكومة الوفاق بأنها تأوي مقاتلين إسلامويين متطرفين في ليبيا وأنها استسلمت بالكامل لأطماع العثمانية الجديدة([6]).
وربما تدرك القاهرة –عبر التواصل الدائم مع القوى الدلية الفاعلة- أن رهانات سياساتها الواقعية في ليبيا ستظل محكومة في نهاية المطاف بالمسار الذي تواضعت عليه القوى الغربية –ذات المصالح الاقتصادية الصريحة في موارد الطاقة الليبية وتخوفات انفلات حركة الهجرة منها إلى جنوبي أوروبا- في اجتماع برلين من وقف لإطلاق النار، وإطلاق عملية سياسية عززها مجلس الأمن الدولي بوضع خريطة طريق من 55 نقطة لإنهاء الحرب؛ ما تجسد في لقائي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع خليفة حفتر (9-10 مارس الجاري) من عدم إمكانية حل الأزمة الليبية عسكريًا، ومناقشة ربط تخفيف حفتر الحصار على مرافق إنتاج النفط (الذي تهاوت أسعاره مما سيهدد بتآكل دخل ليبيا من سلعتها الأساسية في العام الجاري) باستمرار قبوله في العملية السياسية المقبلة؛ وما نتج عن ذلك من قبول وقف إطلاق النار “لأغراض إنسانية” (حكومة الوفاق يوم 18 مارس ثم حفتر يوم 21 مارس) قد تتحول إلى وقف فوري وغير مشروط للأعمال العدائية، حسب الأمين العام للأمم المتحدة.
تأمين المصالح الاقتصادية:
إلى جانب التهديدات السياسية والعسكرية التي يفرضها النفوذ المناوئ للمصالح المصرية في ليبيا، فإن تضارب المصالح الاقتصادية (الآنية والمتوقعة) التركية- القطرية مع نظيرتها المصرية يشكل هاجس آخر لمقاربة القاهرة في الملف الليبي. لاسيما في ضوء سعي تركيا لحصة معتبرة في عقود إعادة البناء وصناعة البترول الليبي، وقناعتها أن الوضع برمته سيتغير تمامًا عقب أية تسوية سياسية بتوقيعها اتفاقات رسمية مع حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا وضمان حصة مهمة في البترول الليبي([7])، فيما تقدر مصادر إعلامية تركية استهداف بلادهم (التي لم تتجاوز استثماراتها في ليبيا حاجز 15 بليون دولار) استثمارات متوقعة في ليبيا بقيمة 120 بليون دولار([8])، لاسيما في قطاع البناء والتشييد الذي تبرز فيه مصر بقوة (سواء من حيث الاستثمارات أم المساهمة بقوة العمل الأساسية في القطاع عبر عمالتها الضخمة في ليبيا والتي تصل حسب بعض التقديرات إلى 2-3 مليون عامل([9])) وتتوقع بدورها حصة معتبرة فيه بعد أية تسوية سياسية.
وفي مقابل تمكن القاهرة من تعزيز تعاونها مع الإمارات والسعودية اقتصاديًا في الملف الليبي (ضمن ترتيبات أخرى آخذة في التبلور مع قوى أوروبية مثل اليونان التي توصلت لعقد لإعادة تعمير بنغازي بقيمة بلايين الدولارات في أكتوبر 2019)، وظفت تركيا مصالحها الاقتصادية مع روسيا في الانخراط في الملف الليبي كما اتضح في الدعوة المشتركة للأطراف الليبية لوقف لإطلاق النار خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأسطنبول لتدشين خط انابيب لنقل الغاز الطبيعي “تركستريم” TurkStream من تركيا إلى روسيا، مما يعزز استمرار “الشراكة” الروسية التركية في مقاربة ملف الطاقة الليبي في الفترة المقبلة.
خيارات القاهرة؟
تظل للقاهرة مصالحها الاستراتيجية الحقيقية مع ليبيا، لاعتبارات التاريخ والجوار والأمن القومي ومحددات الدور المصري بشكل عام تجاه، ويمثل سيناريو استمرار الأزمة الليبية هاجسًا مكلفًا للقاهرة مقارنة ببقية حلفائها في هذه الأزمة (لاسيما الإمارات والسعودية). وفي ظل الاستقطاب الإقليمي والدولي لأطراف الأزمة الليبية وصولًا لمرحلة “الحرب بالوكالة” تبدو خيارات القاهرة محدودة في واقع الأمر، وتحتاج إلى تفعيل قوي –قدر الإمكان- لروابط القاهرة بأطراف الأزمة خارج مظلة الجيش الوطني الليبي والقيام بخطوات بناء الثقة لإعادة الاعتبار لدور القاهرة كوسيط يعول عليه في ملف إعادة توحيد الجيش الليبي، وتفعيل مخرجات اجتماع برلين وقرار مجلس الأمن رقم 2510 (بتاريخ 12 فبراير 2020) المعزز لها، تغليبًا لمصالح الأمن القومي المصري ولتحجيم أدوار القوى الإقليمية المنافسة، وإلى حد ما تفاديًا لتباين المصالح المصرية بعيدة المدى مع الشعب الليبي مع مصالح بعض الأطراف الحليفة لمصر في هذه الأزمة.
المراجع
[1] Mustafa Fetouri, Why Egypt’s meddling in Libya’s affairs is worrying, Middle East Monitor, March 19, 2020 https://www.middleeastmonitor.com/20200319-why-egypts-meddling-in-libyas-affairs-is-worrying/
[2] Mustafa Fetouri, Why Egypt’s meddling in Libya’s affairs is worrying, Op. Cit.,
[3] Jason Burke and Patrick Wintour, Suspected military supplies pour into Libya as UN flounders, the Guardian, March 11, 2020 https://www.theguardian.com/world/2020/mar/11/suspected-military-supplies-libya-un-cargo
[4] Tim Eaton et al, the Development of Libyan Armed Groups Since 2014, Op. Cit. p. 15.
[5]Aneela Shahzad, Turkey’s neo-Ottomanisation, The Express Tribune, March 20, 2020https://tribune.com.pk/story/2179711/6-turkeys-neo-ottomanisation//
[6] Tim Eaton et al, the Development of Libyan Armed Groups Since 2014, Op. Cit. , p.51.
[7] Ibid.
[8] Turkey sets eyes on $120 billion investment volume in Libya, Libyan Express, March 7, 2020 https://www.libyanexpress.com/tuekey-sets-eyes-on-120-billion-investment-volume-in-libya/
[9] https://www.arabfinance.com/en/news/details/egypt-economy/470892