تتعقد مجالات وتعريفات الأمن القومي في عالم متشابك العلاقات ومتعدد الفاعلين. وتتسم مستويات الأمن القومي، للدول والأقاليم على السواء، بالتداخُل؛ بحيث تتضح درجات متفاوتة من الاعتمادية والتداخل بين أمن النظم الإقليمية المختلفة. يُعد إقليم الشرق الأوسط مثالاً على مستويات التشابك؛ لكون المنطقة تشهد انخراطًا عسكرياً واقتصادياً لدول أخرى من خارجها؛ سيما القوى الدولية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين.
نسعى في هذا الإطار إلى الوقوف على ملامح العلاقة بين التوترات في شرق أوروبا وقضايا الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، وذلك عبر تحليل حدود التوترات الراهنة في شرق أوروبا، والوقوف على مدى تداخلها مع أمن الشرق الأوسط، وكذلك الوقوف على التوجهات العامة لبعض دول الشرق الأوسط حيال النزاع بين دولة روسيا وحِلف الناتو.
حدود التوترات في شرق أوروبا
تصاعدت الأزمة في شرق أوروبا بالقُرب من الحدود الروسية الأوكرانية منذ شهر أكتوبر 2021؛ نتيجةً لتزايد الشكوك الروسية حول نية حلف الناتو ضم دولة أوكرانيا إليه، بعد أن رَصَدت موسكو قيام بعض دول الحِلف بتعميق تعاونها العسكري مع أوكرانيا. اعتبرت موسكو هذه التحركات تمهيداً لقيام أوكرانيا بمحاولة إعادة السيطرة على منطقة “دونباس،” التي يسيطر عليها منذ عام 2014 انفصاليون أوكرانيون على علاقة وطيدة بروسيا. وقد تعززت مخاوف الأخيرة من احتمال قيام أوكرانيا بشن عملية عسكرية في الإقليم بدعم من الناتو، لاسيما بعد مُشاركة طائرة مسيرة تُركية الصنع في العمليات العسكرية التي تشنها الحكومة الأوكرانية على الانفصاليين.
سعت روسيا إلى إثناء حلف الناتو عن القيام بضم أوكرانيا، وردع الأخيرة عن أي محاولة لغزو “دونباس.” وقامت موسكو بإرسال حشود عسكرية إلى حدودها مع أوكرانيا، بأعداد قدَّرتها كييف بحوالي 100 ألف جندي، وأكدت أن هذا الانتشار الروسي يعد دليلًا على اتجاه موسكو لضم منطقة “دونباس،” على غرار عملية ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. بينما أكد الجيش الروسي في مطلع ديسمبر أن انتشاره على الحدود مع أوكرانيا يعتبر “روتينيًّا” ويصل قوامه إلى 10 آلاف جندي فقط.
ورغم نفي موسكو من جانبها التخطيط لغزو أوكرانيا، أكدت أيضًا أنها لن تقبل بضم كييف إلى حلف الناتو، وطَلَب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من حلف الناتو عقد اتفاق يقضي باستبعاد أي توسع جديد للحلف باتجاه حدود روسيا؛ نظرًا لما تمثله هذه الخطوة من تهديد شديد الخطورة لموسكو.
ولم تقف تحركات موسكو وحلفائها عند الحدود العسكرية، وامتدت إلى التلويح بقدرتها على تصدير أزمات أخرى إلى دول الناتو. ونفى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤوليته عن أزمة المهاجرين المتواجدين على الحدود البيلاروسية-البولندية؛ بعدما اتهم رئيس وزراء بولندا، عضوة الحلف، “أتيوش مورافيتسكي” الرئيس بوتين بتدبير هذه الأزمة.
وقد لجأت الشُرطة البولندية إلى صد المهاجرين في أكتوبر 2021، فيما قامت الحكومة البولندية بتعزيز التواجُد العسكري بالمنطقة الحدودية، وحَذَّرت من احتمال حدوث تصعيد عسكري مع بيلاروسيا. واعتبر مورافيتسكي أن هذه التطورات تُشير إلى قيام روسيا بشن “حرب من نوع جديد” ضد دول الاتحاد الأوروبي.
يُذكر أن عدد هؤلاء المُهاجرين وصل إلى أربعة آلاف شخص، وأغلبهم قادمين من دول العراق وسوريا واليمن، وأعلنت الحكومة العراقية من جانبها عن تسيير رحلات للعالقين الراغبين في العودة لبغداد. كما قررت سحب قنصلها بدولة بيلاروسيا.
نفى الرئيس الروسي كذلك اتفاقه مع الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” على التهديد بقطع إمدادات الغاز عن دول أوروبا، وأكد بوتين أن بإمكان بيلاروسيا القيام بهذه الخطوة؛ لأن خط الغاز يُمر عبر أراضيها. غير أن الرئيس الروسي شدد على أن هذه الخطوة ستكون مُخالفة للعقود القانونية المُنظِّمة لخط الغاز. وتزامنت هذه التطورات مع معاناة بعض الدول الأوروبية عضوة حلف الناتو بأزمة في إمدادات الغاز بالفعل قبيل فصل الشتاء؛ نتيجة لارتفاع أسعاره بنسبة وصلت إلى 400%، بسبب تزايُد الطلب عقب التعافي من جائحة كوفيد- 19.
رغم هذه التوترات؛ لا يعد خيار المواجهة العسكرية المباشرة والمفتوحة مُفضَلًا لدى الإدارة الأمريكية أو لأغلب دول الاتحاد الأوروبي؛ بسبب شِدة المخاطر التي قد تنتج عن وقوع مثل هذه المواجهة، وأكَّد الرئيس الأمريكي جو بايدن في 4 ديسمبر 2021 اتجاهه لطرح بعض المبادرات التي ستحول دون تدخُّل روسيا عسكريًّا في أوكرانيا، وذلك وسط أنباء عن التخطيط لعقد قمة ثنائية افتراضية بين بايدن وبوتين. كما انخرطت دول أوروبية في محاولة تهدئة الأوضاع بين الجانبين، وسَعَت ألمانيا إلى التوسًّط لاحتواء أزمة المُهاجرين سابقة الإشارة.
بدورِه، تَجَنَّب حِلف الناتو تهديد روسيا عسكرياً؛ واكتفى سكرتير عام الحِلف “جينس ستولتينبرج” بالقول بأن الناتو سيفرض على موسكو حِزمة من العقوبات المالية والاقتصادية والقيود السياسية حال قيامها بغزو أوكرانيا، منوهًا بأن موسكو ليس من حقها مُطالبة أوكرانيا بالتوقُف عن مساعيها الرامية للانضمام إلى الناتو.
لا يعني حِرص الدول الغربية على تجنُّب المواجهة العسكرية مع روسيا اتجاه النزاع بالضرورة إلى الهدوء، فما زال مستقبل التوترات بين الناتو وروسيا مرتبطا بقدرة الأدوات الدبلوماسية على التوصل لصيغة توافقية بين الجانبين، ولا يُمكن الدفع باحتمال هدوء التنافس قريباً، خاصة وأن الحلف قد اعتبر روسيا أحد المهددات الرئيسية له في البيان الختامي الذي أعقب قمة قادة الناتو التي عُقدت في يونيو 2021، وذلك إلى جانب تهديدات أخرى، ذُكِر منها التهديد الصيني. فضلاً عن تهديدات مثل الإرهاب والهجمات السيبرانية وغيرها. وتمتد ساحات التنافُس الروسي-الغربي إلى إقليم الشرق الأوسط، بسبب امتلاك كلا منهما مصالح متعارضة في الإقليم، وهو ما سنتناول ملامحه في المحور التالي.
ملامح التداخُل بين أزمة شرق أوروبا وأمن الشرق الأوسط
يظهر من المحور السابق أن ثمة ارتباطات مباشرة بين الأوضاع في الشرق الأوسط والتوترات الروسية مع حلف الناتو. ولاحظنا أن الحكومة العراقية على سبيل المثال كانت طرفًا رئيسيًّا في أزمة المُهاجرين على الحدود البيلاروسية-البولندية، وفضلاً عن الزوايا التقليدية لمصادر التهديدات العابرة للحدود كالإرهاب والتجارة غير المشروعة والأمن السيبراني؛ يتعمق التداخل بين الأمن الإقليمي للمنطقتين (الشرق الأوسط وشرق أوروبا) حال نظرنا لعاملين أساسين:
- التداخُل العسكري: يعد البحر المتوسط مسرحًا رئيسًا للتنافُس الروسي الغربي في ظل تَمَتُع الجانبين بتواجُد عسكري على سواحله، سيما بعد نجاح موسكو في امتلاك قاعدة عسكرية في الشمال السوري بالقرب من حدود دولة تركيا عضوة حِلف الناتو.
كما تتمتع روسيا بعلاقات جيدة بالجيش الجزائري، وتُعتبر الجزائر أكبر مستورد للسلاح الروسي في قارة أفريقيا والثالث على مستوى العالم بعد الصين والهند. وبالفعل، استضاف المجال البحري الجزائري في نوفمبر 2021 بعض القطع البحرية الروسية في إطار مناورات عسكرية بحرية، بالتزامُن مع التوترات في شرق أوروبا، وذلك تطبيقًا لبرنامج التعاون الثنائي العسكري الموقَّع بين الجزائر وموسكو في عام 2021. كما تتواجد عناصر عسكرية روسية في شرق دولة ليبيا ضمن قوات شركة ” مجموعة فاغنر” الروسية للأمن، وهي قريبة أيضًا من الناحية الجغرافية من قوات تُركية متواجدة في الغرب الليبي.
أثناء عقد المناورات الجزائرية-الروسية، نظم حلف الناتو مناورات بحرية ضخمة في مياه المتوسط الفرنسية والإيطالية والإسبانية، بغرض اختبار قدرة الحلف على التعامُل مع التوترات في مناطق السواحل السورية شرق المتوسط أو شمال شرق أوروبا، وذلك حسب تصريحات أحد القادة العسكريين الفرنسين المُشاركين في المناورات. ويُلاحظ بطبيعة الحال أن المناطق المذكورة هي التي تشهد تواجدًا عسكريًّا روسيًّا.
فضلًا عن احتمال وقوع مواجهات عسكرية في مياه المتوسط الجنوبية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حال اتساع التوترات الروسية الغربية، يخشى الجانب الغربي من أن تنتقل روسيا إلى البحث فرض موطئ قدم لها في مياه البحر الأحمر عبر الأراضي السودانية. وذلك في تكرار للسيناريو السوري الذي أعقب ضم شبه جزيرة القرم. وهو ما يجعل من مياه البحر الأحمر بؤرة أخرى بحرية مرشحة للتوتر.
وتسعى الدول الغربية في هذا السياق إلى قطع الطريق أمام أي تقارب عسكري بين دولة روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي، ومؤخرًا قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة دول الإمارات والسعودية وقطر، واتفق مع الجانب الإماراتي على إمداده بثمانين طائرة “رافال” مُقاتلة.
- مصادر الطاقة كمجال للتنافُس: من المحتمل أن يتأثر قطاع الطاقة في الشرق الأوسط نتيجة لتصاعُد النزاع الروسي-الغربي؛ خاصة في حال اتجاه روسيا إلى عرقلة محاولة دول أوروبا الاعتماد على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط كبديل للغاز الروسي.
ويُمكن أن نربط بين تعزيز التعاون العسكري الروسي مع الجزائر وقيام الأخيرة بتصدير 8% من إجمالي واردات الغاز لأوروبا في عام 2019، وكذلك قيام موسكو بتعزيز نفوذها العسكري بدولتي سوريا وليبيا بغرض تعظيم فُرص تأثيرها على عمليات استكشاف وتجارة الغاز في جنوب البحر المتوسط، والتي ترغب بعض دول جنوب المتوسط في تصديره لأوروبا. كما سعت موسكو إلى تعظيم نفوذها في مجال الطاقة بالإقليم بصفة عامة، وعقدت اتفاقات لإنشاء محطات لتوليد الطاقة النووية السلمية مع بعض دول الشرق الأوسط، ومنها مصر والسعودية، واتفقت موسكو مع الرياض ضمن إطار منظمة أرامكو على عدم زيادة عرض النفط.
تتعارض هذه التوجهات بطبيعة الحال مع المصالح الأمريكية والأوروبية، وانتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن عدم قيام دول الأوبك بزيادة المعروض من النفط، وعزز اتفاق دول الأوبك من دوافع الإدارة الأمريكية الخاصة بالعمل على تقويض النفوذ الروسي في مجال الطاقة، في وقت تُعارض واشنطن بشدة مشروع خط أنابيب نورد ستريم2 لتصدير الغاز من روسيا إلى ألمانيا، وقامت واشنطن في وقت سابق بفرض عقوبات على بعض الأطراف المُشاركة به بسبب استشعارها خطورة تزايد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، بينما أعلن الرئيس الروسي عن إمكانية زيادة بلاده لإمدادات الغاز لأوروبا بمجرد الموافقة على الخط.
التوجهات المبدئية لدول الشرق الأوسط حيال التوتر في شرق أوروبا
يُمكن القول إن التحركات المبدئية لدول الشرق الأوسط حيال النزاع الغربي-الروسي تكشف عن وجود شبه إجماع على الرغبة في تجنُّب تضرر الأمن الإقليمي جراء هذا النزاع، حتى أن بعض دول الإقليم قد سَعَت إلى التوسُّط لإنهاء الأزمة. مؤخرًا، كَشَف المُتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن” في ديسمبر 2021 عن استعداد رئيس بلاده “رجب أردوغان” لعقد لقاء مشترك بين الرئيسين الروسي والأوكراني لبحث سُبل إنهاء التوترات بين الجانبين، كما كشف قالن عن تقديم بلاده عرض سابق لبوتين من شأنه خفض حِدة الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، غير أن الجانب الروسي لم يُعلق على هذه التصريحات.
عسكريًّا، سعت بعض حكومات الشرق الأوسط إلى تجنب الانحياز العلني لأي من طرفي النزاع الروسي-الغربي. وعلى سبيل المثال شارَكت القوات البحرية المصرية في مناورات عسكرية بحرية هي الأولى من نوعها مع نظيره الروسي بمياه الإسكندرية في ديسمبر 2021، بعد أن قامت القاهرة بالمشاركة في مناورات بحرية أجراها حلف الناتو في يوليو من نفس العام بمنطقة البحر الأسود، بمشاركة دول الإمارات وأوكرانيا وإسرائيل.
كما نجد أن أقرب دول الإقليم سياسيًّا للناتو قد سعت إلى تأكيد تمسُّكها بمستوى عالي من التعاون الأمني مع موسكو، حيث قام رئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت” بزيارة روسيا ولقاء بوتين في أكتوبر 2021 للتأكيد على استمرار التفاهُمات الأمنية بين البلدين بشأن الوضع السوري بعد فترة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، ووصف وزير الإسكان الإسرائيلي “زئيف إلكين” هذه الزيارة بأنها كانت “دافئة بشكل استثنائي.”
وتجيء هذه التحركات في ظل إدراك أغلب دول الإقليم لصعوبة تجنُّب التوريط العسكري للإقليم في النزاع الروسي-الغربي حال تصاعُده؛ خاصة مع تواجُد بعض القواعد العسكرية التابعة لدول الناتو وروسيا داخل عدد من دول الإقليم. من الممكن أيضًا أن يكون الشرق الأوسط مسرحًا مُفضلاً لاستعراض التوترات بين روسيا وحلفائها والناتو وحلفائه، وربما يجمعهما الرغبة في نقل ساحة النزاع العسكري بعيدًا عن نطاقهم الجغرافي.
أخيرًا، سَعت أغلب الدول الرئيسية بالشرق الأوسط إلى عزل التوترات الروسية-الغربية عن الإقليم، ويُمكن في هذا الإطار فهم التقارب بين بعض دول الإقليم كتركيا والإمارات ومصر وقطر، وهي خطوات من شأنها تيسير الوصول لصياغة واحدة للأمن الإقليمي. وحتى على مستوى الملف النووي الإيراني، سعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى إضفاء نوع من المُعالجة الإقليمية للملف بموازاة المُعالجة الدولية، ودعا “نايف الحجرف” الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي إلى إشراك دول الخليج افي مفاوضات مجموعة 5+1 مع إيران، مؤكدًا استحالة التوصل لحل للأزمة دون إشراك دول الخليج، وقام مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد عقب هذه التصريحات بزيارة طهران خلال ديسمبر 2021 في هذا السياق.