أدت الصدمة التي تعرض لها نمط الحياة التقليدي خلال أزمة انتشار عدوى فيروس كورونا إلى انصراف الكثير من المهتمين لمحاولة استشراف مستقبل العولمة، وذهبت مجموعة كبيرة منهم إلى إعلان أن الفيروس قد أصاب العولمة والرأسمالية، كثنائية ارتبط بها ما يُعرف بالنظام العالمي الجديد منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. بالشكل الذي دفع البعض إلى إعلان انهيار عصر العولمة، يحاول هذا المقال التحقيق في مدى صحة هذه المقولة.
دور فيروس كورونا في كشف نقاط ضعف العولمة
منذ وقت طويل، تتعرض مبادئ العولمة لعدة انتقادات لما تفرزه من ثغرات تُصيب بنية المجتمعات والدولة القومية، حيث ينظر العديد من الجماعات المحلية إلى العولمة كمشروع غربي يسعى إلى تعميم القيم الأوروبية-الأمريكية على بقية دول العالم، فيعدوها تطور مُصاحب للحداثة في اتجاه غربنة العالم؛ غير أن المخاوف من العولمة قد تمددت ووصلت إلى القارة الأوروبية والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، وانعكست هذه المخاوف في ظهور تيارات اليمين القومي الشعبوية، والتي تتبنى أجندات مناهضة للعولمة ومؤسساتها، وحظيت هذه التيارات بأغلبية انتخابية. ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة، لكن تركت العولمة بالفعل نقاط ضعف أصابت مصالح قطاعات عريضة.
ويُستحسن التوقف هنا قليلاً لتعريف العولمة، والتي نعني بها بشكل مبدئي تسارع حركة تبادل الأفكار والسلع والخدمات والأفراد عبر العالم الإنساني، فهي مشروع طموح يرى البعض إنها تسعى لجمع الأفراد عبر ثقافة عالمية على نمط المبادئ الكوزموبوليتانية المحسوبة على أفكار إيمانويل كانط وحتى جماعات المُدافعين عن البيئة، وأنصار المواطنة العالمية. وهناك أيضاً من يحسبها على نظام ريجان-تاتشر الذي أعلن عن تدشينه جورج بوش الأب عبر نشر الديمقراطية ونمط السوق الحر في مختلف أنحاء العالم.
لكن بمرور الوقت ودعم الدول والشركات والمؤسسات الدولية الكبرى للعولمة، ظهر أن هناك عدة نقاط ضعف في هذه المنظومة، ولم يكن كورونا سوى الضربة القاضية التي جعلت الجميع يتوقف أمام نجاعة هذه الأفكار، وتجدر الإشارة هنا أن مسلسل تداعي العولمة قد بدأ منذ وقت أطول قليلاً.
ربما كانت التحديات الأمنية التقليدية من أكثر مواطن العولمة ضعفاً رغم محاولات الحوكمة والتنسيق الأمني بين مختلف الدول، إلا أن تكنولوجيا الاتصالات وتخفيف القيود على حركة السفر قادا إلى ظهور جماعات عنيفة تفكيكية ذات بُعد ديني، وأصبحت ظاهرة الشبكة الإرهابية شائعة في عصر العولمة، فبات من المألوف الحديث عن عمليات لتنظيم داعش في مختلف دول العالم، وفي أكثر بلاد العالم انفتاحاً على حركة الحدود، كان الإرهابي يُنفذ العملية في فرنسا ثم يتم ضبطه في بلجيكا، وربما تلقى تدريبه عبر منصات الاتصال الالكترونية لتنفيذ مخطط أعدَّهُ أحد قيادات الشبكة بالشرق الأوسط، في عرض لن تتسامح معه المؤسسات الأمنية في مختلف الدول. وحتى من الناحية العسكرية، يزخر العالم اليوم بمواجهات بين الجيوش النظامية التقليدية والميليشيات متعددة الجنسيات، ومَثَّلت العولمة تحدياً أمام هذه الجهات التي اعتادت احتكار القوة المُسلَّحة، فانتشار السلع والأفكار يُصاحبه أيضاً انتشار الأسلحة والمُقاتلين المُحترفين.
اقتصادياً؛ دفعت الدولة القومية أيضاً ثمناً باهظاً أمام نشاط الشركات المتعددة الجنسيات، ونجحت الأخيرة في تحقيق تراكم للثروات يفوق عدد كبير من الدول، بل أن بعض شركات التكنولوجيا الفائقة أصبحت ذات قدرات فائقة على جمع معلومات لا تفصح عنها للأجهزة الأمنية، في ظل نمط اقتصادي يحظى بدعم ورعاية أبرز المؤسسات الدولية المالية والاقتصادية كصندوق النقد الدولي.
وغير خفي أن هذا النمط قد أصاب الكثير من الاقتصاديات الوطنية، إلى أن وجدنا الولايات المتحدة نفسها تتجه إلى اتباع سياسات اقتصادية ميركنتيلية -أي تراكم الثروات والإبقاء عليها داخل الحدود الوطنية-، تجبر شركاتها على تخفيض أعمالها بالصين، تهدد بفرض رسوم حمائية على المنتجات الأوروبية، في سلوك يسير عكس اتجاه التجارة الحرة التي طالما بَشَّرت بها أمريكا، إلا أن هذه السياسات ظهر أخيراً انها أدت إلى تضرر قطاعات محلية مختلفة، وساهمت في حركة انتقال الثروة إلى الشرق.
في المقابل، تستفيد الصين من العولمة عبر نمط سياسي فريد يجمع بين السلطوية والرأسمالية، بين الانغلاق في الداخل والانفتاح على الخارج، فالصين التي لا تسمح بمنصات إلكترونية مثل الـ FaceBook و الـ Youtube، لا تتوانى عن تصدير الـ TikTok للعالم، تناهض العولمة السياسية، لكنها تعتمد علي العولمة الاقتصادية في استيراد مصادر الطاقة، وتصدير مُنتجات متنوعة وفق معايير التجارة الحرة في عصر العولمة، وأخيراً تطرح مشروع جاد للسيطرة على حركة التجارة العالمية تحت مُسمى “طريق الحرير”. تسحب البُساط الاقتصادي من الولايات المتحدة ومنتجاتها. وتحاول أيضاً أن تفعل ذلك ثقافياً وسياسياً.
كان هذا المشهد قبيل كورونا بالفعل؛ تواجه الدولة القومية منافسة شرسة من الفاعلين الأخرين، يتناقص أنصار العولمة في الديمقراطيات، يفقد داعموها في السلطويات أي مساحة من التأثير، تظهر أجندة يمينية تناوئ التسارع في انتشار الأفكار والبشر والسلع في ظل الصعود الصيني، وجاء فيروس كورونا لتُسارع أغلب الدول إلى غلق حدودها والاحتماء بسيادتها القومية كأول إجراء يرمي إلى حماية أرواح مواطنيها، ويتصادف ذلك مع ظهور حالة من التداعي في أنظمة الرعاية الصحية، والتي أعادها مناوئو الرأسمالية إلى نمط السوق الحُر، كما تصادفت حالة غلق الحدود مع خفوت نشاط الجماعات الإرهابية، لتصدح كتابات تُبشِّر بنهاية العولمة لصالح عصر جديد من القومية، سيما وأن “العولمة تَنشُر الوباء”.
العولمة أكبر من السقوط
يُعيد الكثير من الكتابات زمن العولمة إلى قبيل الحرب العالمية الأولى، ويذهب البعض للقول بأن العولمة فكرة قديمة قِدم الأديان، إذ سعت الأخيرة إلى إعتاق البشر من قيود القبلية والجهوية وكافة أشكال العنصرية لصالح مواطن عالمي، فمنذ وقت طويل يداعب البشر أفكار العالمية. ونرى دين كالإسلام يتبنى توجه طموح نحو المساواة بين كافة البشر دون النظر إلى أعراقهم. ورأى كانط منذ قرنين تقريباً أن العالم في اتجاهه إلى حكومة عالمية، كما ذهب ماركس إلى الأممية، وهاجم جون ستيوارت ميل القومية مُنادياً بالتحرر.
فيما يذهب الكثيرون إلى التأريخ للعولمة بتأسيس الاتحادات العالمية كاتحاد البريد في عام 1874؛ فللعولمة جذور فكرية وتنظيمية تعود إلى وقت أبعد عن سيطرة القُطب الأمريكي على العالم حتى. ويتبادل البشر منذ وقت طويل الأفكار والقيم والسلع والخدمات، العولمة المُعاصرة اتسمت فقط بتسارع هذه العملية نتيجة لتطور وسائل الاتصال والشحن، وظهور منافسين جدد للدولة في السياق الخارجي والمحلي، سواء الشركات أو التنظيمات أو الجماعات العنيفة.
ورغم أن الدول سارعت لإغلاق الحدود كمقدمة لفرض القيود على حركة الأفراد، إلا إنها في المقابل لم تلجأ إلى إيقاف حركة السلع والتجارة الدولية، فلا يمكن للصين أن تحيا دون الاعتماد على مصادر الطاقة القادمة من الخارج، ولا يمكن للأطباء داخل دولة واحدة التعاطي مع فيروس كورونا بشكل سريع بمعزل عن المعلومات التي تأتيهم خارج الحدود؛ كل هذه الأمور لم تعد متصورة، أو على الأقل يلزمها الكثير من الوقت لكي تكون قابلة للحدوث.
ورغم توقعات منظمة التجارة العالمية أن حركة التجارة ستتراجع في العالم الحالي بين 13 و32%، على أن يكون التراجع الأكبر من نصيب القطاعات الخدمية خاصة السياحة والسفر، توقعت المنظمة أيضاً أن عام 2021 سيشهد انتعاشاً قد يصل إلى 24%، وسارعت دول مجموعة العشرين إلى رصد خمسة تريليون “دولار” لمواجهة حالة الركود الاقتصادي التي سيذهب إليها العالم. فيما دعا صندوق النقد الدولي في أبريل 2020 إلى “تعاون قوي متعدد الأطراف” كضرورة لتجاوز تداعيات الأزمة، متوقعاً أن يعود الاقتصاد العالمي للانتعاش بنسبة 5.8% في 2021 في حال احتواء الفيروس.
وعلى صعيد الأفكار، أدى فيروس كورونا إلى تعزيز الشعور الإنساني بوحدة المصير، خاصة مع الدور الذي لعبته وسائل الإعلام في تسليط الضوء على تطوراته في مختلف الدول، وتصدرت النقاشات حول الفيروس اهتمامات “الرأي العام العالمي”. ورغم الحجر الصحي، لم يعجز الأفراد عن التواصل مع أحبائهم عبر استخدام وسائل الاتصال الحديثة. وعلى العكس، ساهمت ظروف انتشار الفيروس في تطور وسائل وخدمات الاتصال والشحن، والتي بدورها سُتعيد نشر العولمة وأفكارها. ورغم تداول الأنباء عن قيام بعض الدول بالقرصنة على شُحن مُستلزمات طبية لدول أخرى، كان في المقابل هناك أنباء مؤكدة عن شحنات من المساعدات وإظهار نوع من التعاون والتضامن.
إذن، مَثلَّت اللحظات الأولى في زمن انتشار فيروس كورونا لحظة الصدمة، وقادت للقيام بأفعال استثنائية ذات طابع “أناني” يُمكن إرجاعها لغريزة البقاء، لكن لا يمكن التأسيس على هذه الممارسات الاستثنائية في استشراف مستقبل العالم، سيما أنه بمرور الوقت توارت هذه النزعة الانغلاقية لصالح نزعة تضامنية ذات صوت أعلى، ويمكن ضرب مثال هنا بالحالة الإيطالية، والتي بدت بمثابة إعلان لانهيار التضامن الأوروبي، لكننا سرعان ما وجدنا رئيس الوزراء الإيطالي يعتبر أن أزمة كورونا هي فرصة حقيقية لتعميق الشراكة الأوروبية. وشاهدنا الجيش الألماني وهو ينقل المصابين في إيطاليا وفرنسا بسبب عدم توفر أمكانية لعلاجهم داخل بلادهم.
هل نحن في الطريق نحو طبعة جديدة من العولمة؟
أظهرت أزمة فيروس كورونا أن الدولة القومية لاتزال صاحبة النفوذ الأعلى في التأثير على حياة الأفراد من الناحية المادية الملموسة، بينما تعرضت المنظمات الدولية كمنظمة الصحة العالمية إلى انتقادات تتعلق بمدى حياديتها، كما عجزت المنظمة عن تعميم بروتوكول علاجي على مستوى العالم، وكذلك عجزت عن النُصح باتخاذ إجراءات استباقية تُساهم في منع انتشار الجائحة، فبعض الدول قد أغلقت حدودها بالفعل قبيل إعلان المنظمة أننا بصدد جائحة وبائية، ووجدنا مختلف الحكومات تصيغ طريقة مختلفة للتعامل مع أزمة الفيروس، الخطر كان جماعيا لكن طريقة المواجهة تُركت للحكومات الوطنية؛ يقرر الرئيس الأمريكي تعليق تمويل بلاده لمنظمة الصحة العالمية، لكنها في المقابل تدعو المنظمة لتنظيم حفل موسيقي لجمع تبرعات تحت عنوان “عالم واحد_إبقى في منزلك”، ومن هنا يمكن الاستدلال على ملامح الطبعة الجديدة من العولمة.
ستتراجع مبادئ التجارة الحرة نوعاً ما لصالح سياسات ذات بعُد وطني تعمل على توفير الاحتياجات الأساسية قدر الإمكان دون الاعتماد على الخارج، وفرض قيود أمام حركة التجارة بهدف صياغة ميزان تجاري يحمي مصالح الدولة، سيما وأن مساحة الجدل حول تقليص دور الدولة في الاقتصاد المحلي قد تراجعت بعد ظهور عدم جاهزية أنظمة الرعاية الصحية رغم توقعات الخبراء بوقوع جائحة وبائية تحتاج إلى تعزيز جاهزية القطاع.
وبناء على ذلك، ستتجه دول العالم إلى الانتقال بشكل أكبر إلى النمط الاقتصادي الصيني نوعاً ما، عبر زيادة أدوار الدولة في عملية توزيع الثروات، وصياغة أهداف التجارة الخارجية بشكل يُلبي مصالح جماعات الضغط المحلية ويُحقق الأمن الغذائي والدوائي والطاقوي قدر الإمًكان. ففي الديمقراطيات هيأت الأزمة لأفكار تيار اليمين القومي الشعبوي بيئة مناسبة قد تجعله يحوز أصوات انتخابية أكبر، أو تبني ممثلي التيارات الأخرى بعض أفكاره على أدنى تقدير، خاصة مع زوال القيود التي واجهت مساعي الابتعاد عن سياسات حرية السوق بعض الخطوات، ما سيسمح للنخب الأمريكية مقارعة الصين بنفس الأدوات، وتفويت الفرصة عليها للاستفادة من العولمة الحرة على حساب الهيمنة الأمريكية. كما من المرجح أن يعمد الاتحاد الأوروبي إلى تقديم سياسات تحفيزية للدول الأعضاء لتعميق الاعتمادية المتبادلة بين أعضائه وتقليص اعتماديتهم على الدول الواقعة خارج الاتحاد.
بينما أضعف الفيروس صورة المنظمات الدولية، بالشكل الذي يأتي في صالح نُخب الحُكم في الدول السلطوية التي لن تتوانى عن تطبيق المزيد من السياسات التحكمية، ليُفتح بذلك الباب أمام إطلاق طبعة جديدة من “العولمة المُخطَّطة”، تقوم على انتفاضة الدولة القومية في وجه منافسيها من الفاعلين الأخرين، سواء الشركات متعددة الجنسيات أو المنظمات الدولية أو جماعات العنف الديني وغيرهم من الفاعلين.
فمن الناحية الأمنية، رأينا كيف أن الرعاية الصحية قد قادت لقيام صناع القرار بتوظيف أدوار أجهزة العنف في مواجهة أزمة انتشار الفيروس سواء لوجيستياً أو أمنياً، سينتج عن الأزمة أيضاً اكتساب النُخب الأمنية والعسكرية أدوار أكبر في صنع وتنفيذ السياسات المحلية، ما سينعكس على تشديد مراقبة الحدود وفرض القيود على حركة الأفراد بغية منع انتشار الأمراض من ناحية، وتقليص نشاط جماعات الجريمة عبر الحدود أيضاً.
لكن هذه التوجهات لن يمكن صياغتها بشكل منفرد من جانب كل دولة على حدة، ستضطر هذه الدول إلى التعاون فيما بينها لفرض سطوتها على الفاعلين الأخرين، سواء الشركات أو المنظمات الدولية أو الجماعات عابرة الحدود أو حتى الأفراد؛ ستتعاون الدول فيما بينهما في صياغة طبعة جديدة من العولمة تعيد الاعتبار لمبدأ السيادة القومية، وهو ما سيلقى قبول وتأييد عناصر نُخب الحُكم، لكن في المقابل ستتعزز أفكار المصير المشترك في ظل تقدم ثورة الاتصالات، وبروز مخاطر عالمية الطابع كالأوبئة وقضايا المناخ، وهي العوامل التي ستعزز من اتجاه المنظمات الدولية لتأكيد أهمية وجودها باستخدام أدوات الاتصال الحديثة، وبالبناء على التصورات القديمة المتعلقة بحيادية هذه المنظمات وتقدمها الفني، ودورها الحاسم في عملية التشبيك والمشاركة بين الدول.
ستجد المؤسسات الأمنية نفسها مُضطرة لعدم التخلي عن التعاون مع نظرائها في الدول الأخرى لضبط الحدود، وربما الاتفاق على تعميم “قيود صحية” جديدة على حركة تنقل الأفراد، في الوقت الذي ستجد فيه نُخب الأعمال طريقها نحو الموازنة بين مصالحهم ومصالح نُخب الحُكم؛ لن تنهار العولمة في هذه الطبعة الجديدة، لكن سُيسمح للدولة القومية بلعب مساحة أكبر مما سبق بجوار الفاعلين الأخرين، ويظل تطور هذا التوجه مرهوناً بقدرات نُخب الحُكم على صياغة توازن بين المحلية والعالمية، ومستقبل الصراع الأميركي-الصيني؛ لكن بأي حال قد مضى الوقت الذي كان من الممكن أن نحيا فيه بعالم غير معولم.