مقدمة:
هل كان صانع القرار المصري مجرد متغير تابع لعملية التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبان حرب أكتوبر 1973؟ أم أن طبيعة التفاعلات الدولية قد سمحت للأول بممارسة تأثيرات على مآلات الأزمة؟ وإذ كانت الإجابة على السؤال الأخير بالإيجاب، فإلى أي حد نجحت مصر في التأثير على نتائج الأزمة ومجرياتها؟
يحاول هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة بشكل مبدئي عبر التعرُّض السريع لأبرز مقولات بعض مدارس العلاقات الدولية التي التفتت إلى وزن هيكل النظام الدولي لعملية صنع القرار، ومن ثم محاولة استعراض ملامح العلاقة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قبيل حرب أكتوبر، على الأصعدة الدولية والإقليمية، سيما موقفهما من الصراع العربي-الإسرائيلي، وبعد الوقوف على هذه الملامح ينتقل المقال لتحليل توجهات السياسة الخارجية وأفضلياتها قبيل وأثناء الحرب، ما يسمح باستنتاج بعض الإجابات الأولية على الأسئلة سالفة الذكر.
أولاً-مقولات نظرية عن تأثير هيكلية النظام الدولي على السياسة الخارجية للدول الصغيرة ومتوسطة القوة
تذهب بعض مدارس العلاقات الدولية إلى افتراض أن للسياق الدولي أثرًا كبيرًا في صنع قرار السياسة الخارجية، وربما كان عالم العلاقات الدولية الأميركي الراحل كينيث والتز من أكثر المتخصصين الذين روَّجوا إلى أهمية بنية النظام الدولي في صناعة القرار؛ وإنْ كان هناك العديد من الدارسين الآخرين الذين اعتبروا والتز متطرف في تقدير وزن بنية النظام الدولي في صناعة القرار، حيث ذهب والتز إلى أن الدول الصغيرة والمتوسطة القوة تكاد تكون واقعة كلياً تحت تأثير رغبات ومصالح القوى الدولية العُظمى وفقاً لتراتبية هيكل القوى الدولية.
ووقعت حرب أكتوبر 1973 في إطار هيكل ثنائي القطبية للنظام الدولي، وهما دولتا الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وتعد الثنائية القطبية من أكثر أشكال النظام الدولي استقراراً بحسب والتز، لأن عملية التفاوض المباشرة بين القطبين الدوليين عادة ما تكون أيسر من الاتصال بين أقطاب متعددة، ما يقود إلى تحقيق حلول سلمية بشكل أسرع وأكثر فعالية، وشهدت بالفعل الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة حالات أثبتت صحة هذا الافتراض، ولعل من أبرز هذه الحالات هي توصُّل القُطبين إلى تسوية سلمية لأزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962. ويرى والتز أن هذه العلاقة الثنائية بين القوتين المُهيمنتين تفرض بالضرورة قيوداً على صانع القرار في أي دولة أخرى، ففي حال اتفاق القطبين على تسوية أي نزاع بطريقة معينة، سيكون من الصعب على صانع القرار مقاومة هذه التسوية، وهو ما يعزز من استقرار النظام الدولي وفقاً لوالتز.
وعلى النقيض، يرى العالِم الأمريكي أن بنية دولية متعددة القطبية قد تقودنا إلى نظام دولي غير مستقر، بسبب صعوبة التنسيق بين القوى الدولية، ما يقود إلى زيادة مساحة اللايقين الخاصة بعمليات صناعة القرار، وتتيح هذه البنية في الوقت نفسه للدول الأصغر هامش من المرونة والتحرُّك لتحقيق مصالحها، وتقود هذه الوضعية إلى حالة من عدم الاستقرار في النظام الدولي، لإنها في الأغلب ستقود إلى صدام في مصالح عدة أطراف متناقضة. كما يجادل والتز بأن الأحادية القطبية تقود أيضاً إلى حالة من عدم الاستقرار، وُيعيد هذا إلى صعوبة سيطرة أي قوى دولية على كافة الدول الأخرى، وهو ما يتيح بشكل ما للأخيرة حرية التحرُّك بعيداً عن نفوذ القوى المُهيمنة على النظام الدولي.
ونرى من هذه الأفكار مدى دفاع والتز عن وزن هيكلية النظام الدولي في عملية صناعة القرار، ويجد الكثير من الدارسين أن مقولات والتز تشبه المثل الأفريقي: “عندما تتصارع الأفيال لا تسأل عن العشب والأشجار الصغيرة”، أي أن القوى الصغيرة والمتوسطة القوى لا تملك أي تأثيراً في النظام الدولي، وأمنها ومصالحها مرهونة بمآلات المنافسة بين القوى الكبرى، فهي مجرد متغير تابع بحسب أفكار المدرسة الواقعية الهيكلية التي ينتمي إليها والتز، ويعد من أبرز مؤسسيها[1].
غير أن افتراض عدم وجود تأثير للقوى الصغيرة والمتوسطة يواجه العديد من الانتقادات، سيما من المُنتمين لمدارس أخري في العلاقات الدولية، ويجادل العالِم الأمريكي الآخر مايكل بريتشر على سبيل المثال إلى القول بأن “من الخطأ أن نعتقد ان الأفيال أعضاء وحيدة في النظام، وأن نتجاهل السناجب التي تنخدع في هذه الفرضية المضللة، والتي تقول إن جميع أفعال السناجب مرتبطة بأفعال الأفيال“[2]. بل ويذهب العالِم الأميركي إلكسندر فندت-مؤسس المدرسة البنائية-إلى التقليل الكبير من أهمية هيكل النظام الدولي في التأثير على صانع القرار، ويري فندت أن المعارف المشتركة أو تاريخ العلاقات بين الدول تحظى بأهمية أكبر عند محاولة تفسير السلوك الدولي[3]، وهو ما يتلاقى مع نظرية الدور الاجتماعي لتفسير السياسة الخارجية، والتي تعود إلى نفس المدرسة، وتفترض أن إدراك صانع القرار لقوة ونفوذ بلاده هو عامل حسم في صناعة السياسة الخارجية[4]، فليس لهيكل النظام الدولي دورٌ كبير في تفسير السلوك الدولي، وإنما مفتاح فهم السياسة الخارجية لإحدى الأطراف هو تحليل إدراك صانع القرار لهذه الهيكلية.
ولا شك أن واقع السياسات العالمية اليوم قد تخطى بالفعل مقولات والتز، سيما تلك المتعلقة بتبعية القوى الأدنى في هرم القوى الدولية للدول الأعلى، فمن ناحية، نرى اليوم تأثيرات حتى لفاعلين من غير الدولة تؤثر على صناعة القرار في القوى الدولية الأبرز مثل الولايات المتحدة، على غرار أحداث 11 سبتمبر، ناهيك عن أدوار الشركات المتعددة الجنسيات وصندوق النقد الدولي والمنظمات الحقوقية وجماعات الضغط والمصالح المتنوعة، وهي كلها لا تمثل قيمة في نظر تحليلات والتز.
ورغم هذا التعدد في مصادر التأثير الدولي في عالم اليوم؛ يمكن القول إن مقولات والتز قد تكون لازالت صالحة لتفسير عالم الحرب الباردة، خاصة وأن هذه الفترة قد سبقت اتساع تأثير الفاعلين من غير الدول في النظام الدولي، وهو التأثير الذي تزايد بشكل كبير مع انتشار تقنيات الاتصال المُعاصرة، وقاد إلى نوع من “انتشار القوة” بحسب جوزيف ناي، والذي يعود إليه الفضل في تأسس مفاهيم باتت رئيسية في حقل العلاقات الدولية مثل “القوة الناعمة” و”القوة الذكية”[5]، لذا ونحاول في الأجزاء التالية من هذا المقال، تحليل مدى صلاحية مقولات والتز لتحليل السياسة الخارجية المصرية خلال فترة الحرب، وذلك عبر التعرُّف على مكانة هذه الحرب في إطار التنافس الدولي بين القطبين الرئيسيين، ومحاولة تتبع طبيعة التعاطي المصري مع هذا السياق.
ثانياً-ملامح العلاقة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قبيل حرب أكتوبر
اندلعت حرب أكتوبر في خضم “سياسة الوفاق” بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ونتجت هذه السياسة بعد اتفاق البلدين على تدشين خط اتصال مباشر بين قادتهما، لتجنُّب تصعيد الأزمات الدولية إلى مرحلة الصدام النووي، وجاء هذا بعد اقترابهم من الصدام المباشر خلال أزمة الصواريخ الكوبية التي وقعت، وشهدت فترة “الوفاق” توقيع البلدين على معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية في عام 1963، ثم معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية في 1967.وهي السياسة التي تكللت في عهد الرئيس الأمريكي نيكسون بتوقيع الطرفين على اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية في عام 1972، والمسماة “سالت 1”.
في هذه الفترة، سَعَت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استثمار سياسة الحد من التوترات العسكرية في زيادة الاعتماد على الأدوات السياسية صمن سياق تنافسها مع الاتحاد السوفيتي، وعملت على تقويض نفوذ الأخير ببعض المناطق، وعلى رأسها محيطه الإقليمي، حيث نجح نيكسون في استغلال الخلافات الحدودية بين الاتحاد السوفيتي والصين في استمالة الأخيرة، بعد وقوع اشتباكات عسكرية بين الأخيرين في عام 1969، وهو الاتجاه الذي تكلل بزيارة نيكسون نفسه إلى الصين في عام 1972، كأول رئيس أمريكي يقوم بهذه الخطوة في التاريخ، وذلك بعد أشهر من إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 275، والذي اعترف بالجمهورية الشعبية الصينية بأنها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين. بالإضافة إلى ذلك نجحت الولايات المتحدة في دعم انقلاب الجنرال بينوشيه في تشيلي قبيل شهر واحد من حرب أكتوبر، وأطاحت بحكم سلفادور الليندي المُنتخب ديمقراطيًا، والمحسوب على الاتحاد السوفيتي؛ وكانت هذه الخطوة بمثابة مؤشر على أن ثمة تراجُع بنفوذ الاتحاد السوفيتي في مسارح إقليمية مختلفة.
وعلى عكس مُجمل الأوضاع الدولية؛ كانت التطورات الإقليمية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تسير في صالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في الناتو، وذلك في ظل حالة عدم الاستقرار بدول الشام ومصر بسبب الحروب العربية-الإسرائيلية، والتي قادت إلى إغلاق حركة الملاحة في قناة السويس بعد حرب 1967، وكان لذلك تداعيات تمثَّلت في تراجُع حركة التجارة الدولية، ومرور دول الاتحاد الأوروبي بأزمة في امدادات النفط. وبالإضافة إلى ذلك، شهد عام 1969 سيطرة الرئيس الليبي الراحل مُعمر القذافي على الحُكم، وانحيازه بعدها للاتحاد السوفيتي، لتصبح دول مصر وليبيا والجزائر بمثابة نقاط نفوذ سوفيتية خلف السواحل الأوروبية. في وقت تتمتع فيه الولايات المتحدة بتواجُد عسكري في المتوسط، عبر اسطولها السادس. وهو ما دعاها إلى محاولة لعب دور مؤثر باستخدام الصراع الأكبر في الإقليم، فعرضت في يونيو 1970 مبادرة “روجرز” والتي قضت بإيقاف النيران لمدة 90 يومًا بين مصر وإسرائيل، ودخول الأطراف المتنازعة في مفاوضات جديدة لتنفيذ القرار رقم 242 الخاص بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي تم احتلالها في عام 1967، غير أن هذه المبادرة قد فشلت بعد رفض الجانب الإسرائيلي الدخول في المفاوضات، ما دفع مصر إلى إعلان رفضها تمديد إطلاق النار في أغسطس 1970، وهنا أدركت الولايات المتحدة أن نفوذها على الجانب الإسرائيلي ليس بالقدر الكافي لدفع الأخيرة نحو الجلوس إلى مائدة المفاوضات.
واتساقًا مع سياسة الحد من التوترات العسكرية، كان الاتحاد السوفيتي متضامنًا مع المبادرة الأمريكية للتسوية السلمية للصراع، حتى أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد أعلن موافقته على المبادرة الأمريكية خلال اجتماع جَمعه برئيس الاتحاد السوفيتي بريجنيف في موسكو، وكان لفشل مبادرة روجرز أثر سلبـي على حسابات الاتحاد السوفيتي في المنطقة؛ فانهيار الحل السياسي كان يعني عودة الخيار العسكري إلى واجهة النزاع، ما يقود إلى تزايد المطالب العسكرية لحلفاء الاتحاد السوفيتي بغية تعزيز قوتهم أمام إسرائيل. وهي خطوة كان من شأنها توتير العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبالطبع، كان هذا خيارًا لا يحبذه السوفييت، كما لا يحبذ تعرُّض حلفائه لهزيمة عسكرية جديدة، خاصة في وقت أُطيح ببعض حلفاء الاتحاد في أقاليم أخرى.
لذلك يمكن القول بأن الوضعية في إقليم الشرق الأوسط قبيل حرب أكتوبر كانت حرجة بالنسبة للاتحاد السوفيتي وللولايات المتحدة الأمريكية. ولكن الأخيرة كانت تسعى إلى تسوية النزاع بشكل يلبي مصالح حلفائها الأوروبيين، بينما كان الاتحاد السوفيتي يستهدف تهدئة النزاع حفاظًا على مصالحه مع الولايات المتحدة وحلفائه العرب.
ثالثاً-السياسة الخارجية المصرية تجاه القطبين قبيل الحرب
تولى الرئيس المصري محمد أنور السادات رئاسة مصر بعد أسابيع قليلة من فشل مبادرة روجرز، ويُلاحظ الباحث عمرو يوسف في دراسة تم نشرها في أبريل 2014 أن السادات كان على دراية بانعكاس صراعات القوى الدولية على تطورات الأوضاع المحلية، ويشير يوسف في هذا السياق إلى قيام السادات بالتواصًل مع عناصر ألمانية في عام 1942 اقتناعاً منه بأن انتصار القوات النازية على بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية كان سيقود إلى إنهاء الاحتلال الإنجليزي لمصر. كما اعتقد السادات بأن نجاح مصر في إدارة أزمة السويس 1956 كان نتيجة مباشر لتدخل الولايات المتحدة في الصراع لصالح مصر، وإجبارها دول بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المصرية، حتى أن السادات قد انتقد عدم استغلال الرئيس المصري إبان الأزمة هذه التطورات في التقارب مع الولايات المتحدة بدلاً من الاتحاد السوفيتي، وأكَّد في وقت لاحق أن جمال عبد الناصر قد أبلغه في أبريل 1970 بأن “كافة الأوراق في يد الولايات المتحدة، شاءت الحكومة المصرية أو آبت”، وأكَّد عبد الناصر-بحسب السادات-أن الوقت قد حان لفتح حوار مع الولايات المتحدة بغرض حسم النزاع، بغض النظر عن كمية السلاح التي يُمكن لمصر أن تحصل عليها من الاتحاد السوفيتي[6].
وبالتالي؛ يمكن القول إن السادات قد وصل إلى سدة الحُكم وهو مقتنع بضرورة استمالة الولايات المتحدة إلى الموقف المصري من النزاع، حتى إنه قام بعد أشهر قليلة من وصوله للحُكم بإرسال رسالة لنظيره الأمريكي نيكسون تحوى مبادرة سلام جديدة تقترحها مصر، ونصت المبادرة التي تم اقتراحها في فبراير 1971 على أن تنسحب إسرائيل مرحلة أولى ضمن الحل الشامل داخل سيناء، وتقوم القوات المصرية بعبور قناة السويس، ومن ثم تبدأ محادثات الحل النهائي برعاية الأمم المتحدة، واعلن السادات في وقت لاحق أن الولايات المتحدة قد رحَّبت بالمبادرة بينما رفضتها إسرائيل، مؤكداً أن مصر ستستجيب للتقارب مع الولايات المتحدة إذ رغبت الأخيرة بذلك. غير أن الرد الأمريكي تمثَّل في مقولة وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر إلى رئيس الوزراء المصري حافظ إسماعيل، إذ أبلغه بأن على مصر ألا تبحث عن غنائم المنتصر عسكريًّا وهي في وضع الهزيمة. ودعت الولايات المتحدة في مايو 1972 إلى تفعيل حل جزئي للصراع بإعادة فتح قناة السويس دون أي تغيير بالوضع العسكري، وهو الحل الذي رفضته مصر[7].
إلا أن القاهرة قد التفتت إلى رغبة الولايات المتحدة في حلحلة النزاع بهدف دعم حلفائها الأوروبيين الذين يعانون من مشكلة بالنفط نتيجة لغلق القناة؛ والتقط الرئيس المصري طرف الخيط، مُدركاً أن هذا هو الطرح الحالي على الطاولة، ولا يمكن تغييره سوى بتغيير الوضع العسكري، وكان الجيش المصري قد أعد بالفعل-بناء على طلب السادات-خطة عسكرية لعبور ضفة القناة الشرقية والسيطرة حتى على بضعة سنتيمترات شرق القناة، وذلك بغرض فرض السيطرة المصرية على الضفتين؛ في خطوة قد تدفع الجانب الأميركي إلى الضغط على دولة إسرائيل بغرض تسوية النزاع وإعادة فتح القناة الواقعة تحت السيطرة المصرية
في المُقابل، اعتقد أنور السادات أن الاتحاد السوفيتي لا يُحبِّذ وقوع اشتباك عسكري بين حلفائه وإسرائيل، ويتعمد حجب الأسلحة الهجومية عن مصر. وقام السادات في عام 1972 باتهام الاتحاد السوفيتي علناً بالتواطؤ مع الولايات المتحدة وإسرائيل في دعم سياسة اللاسلم واللاحرب. وفي ظل حاجة مصر إلى السلاح السوفيتي لشن الحرب، حاول السادات التلويح بأن استمرار تحالف مصر مع السوفييت مرهونًا بطبيعة الدعم العسكري، وفي هذا السياق اتخذ خطوة لفتت انتباه الجانب الأميركي بطلبه من الاتحاد السوفيتي إبعاد خبراء الأخير العسكريين من مصر، وكان عددهم في ذلك الحين يتخطى الـ 15 ألف عنصرًا، وهي الخطوة التي دفعت الاتحاد السوفيتي إلى مد مصر ببعض الأسلحة المطلوبة في وقت لاحق، وأعلن السادات في أبريل 1972 رضائه عن الدعم العسكري السوفيتي[8].
إقليميًا؛ انتهجت القاهرة سياسة خارجية بُنيت على جذب الحشد العربي لموقفها من النزاع، فعمدت إلى التنسيق مع دمشق في شن عملية عسكرية متزامنة على الجانب الإسرائيلي، وكانت هذه الخطوة ترمي إلى زيادة فرص انخراط الاتحاد السوفيتي في دعم موقف حلفائه، بغرض موازنة الدور الأميركي، كما عمدت مصر إلى التنسيق مع دولتي الأردن والسعودية بغرض بناء موقف عربي موحَّد قاد إلى تعزيز الضغوط على حلف الناتو باستخدام ورقة النفط، وهكذا هيأت القاهرة المسرح الإقليمي للحرب.
رابعًا: السياسة الخارجية المصرية أثناء الحرب
تناقضت أهداف مصر والاتحاد السوفيتي وقت اندلاع الحرب، فبينما كان الأخير يسعى إلى عملية عسكرية قصيرة المدى الزمني بهدف تجنُّب الصدام مع الولايات المتحدة حال تصاعُد الأزمة، كان الطرف المصري يُفضِّل العكس تمامًا، عبر عملية عسكرية طويلة المدى الزمني، بهدف توريط الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في النزاع، وأرسل الاتحاد السوفيتي سفيره بالقاهرة إلى السادات عقب ستة ساعات فقط من بدء الحرب لإخباره بأن الاتحاد السوفيتي يتوقع إيقاف سريع للنيران على الجبهة السورية. ويُذكر أن الجيش السوري كان قد حقق بالفعل انتصارات عسكرية كبيرة خلال الساعات الأولى من الحرب، واستعاد أجزاءً كبيرة من أراضي هضبة الجولان التي تم احتلالها من جانب إسرائيل في عام 1967. وحرص الاتحاد السوفيتي في الأيام الأولى من الحرب على البقاء بعيدًا عن الاشتباكات العسكرية.
بينما شهد يوم 9 أكتوبر مقتل عُنصر سوفيتي على الأقل خلال قصف إسرائيل لمناطق هامة في سوريا، ومنها وزارة الدفاع السورية، وهو ما دفع ممثل الاتحاد السوفيتي بالأمم المتحدة إلى إدانة القصف الإسرائيلي، وأعقب هذه الخطوة قيام الاتحاد السوفيتي بتقديم دعم لوجستي للجيش السوري، بعد تراجُع الأخير عن بعد المناطق التي نجح في السيطرة عليها في بداية الحرب. وبالتوازي مع هذه التحركات، اتفقت موسكو مع واشنطن على قيام لندن بتقديم مقترح لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن بناء على الوضع الحالي، غير أن الرئيس المصري أنور السادات أبلغ الجانب البريطاني في يوم 13 أكتوبر بعدم اتجاه مصر نحو الالتزام بأي إيقاف للنيران، طالما لم ينص على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي تم احتلالها في عام 1967. وأشار وزير الخارجية الأمريكي حينذاك هنري كيسنجر إلى أن الطرف المصري قد أرسل إليه شروطاً لإيقاف إطلاق النار، تضمنت نفس المضمون، وفَسَّر كيسنجر هذه الخطوة بانها إبداء حُسن نوايا تجاه الإدارة الأمريكية من جانب مصر[9]. وبالتوازي مع هذه التطورات، استمر الاتحاد السوفيتي في دعم الجيشين المصري لوجستيًا بعد هذه الخطوة، كما أعلن في يوم 17 أكتوبر عن تأييده لقيام دول الأوبك بتخفيض صادرات النفط وقطعه عن الولايات المتحدة الأمريكية.
بيد أن الموقف الجانب المصري من إطلاق النيران قد تغير عقب حدوث ثغرة الدفرسوار، والتي ترتب عليها قيام الجيش الإسرائيلي بفرض حصار على الجيش المصري الثالث غرب القناة؛ إذ أبلغت مصر الاتحاد السوفيتي في يوم 18 أكتوبر بقبولها لإيقاف النار، وكانت الموازين العسكرية قد بدأت في التغيير مع تحسُّن الموقف الإسرائيلي نسبياً نتيجة قيام الولايات المتحدة بتدشين جسر جوي لتقديم الدعم العسكري المباشر إلى إسرائيل.
قادت هذه التطورات إلى اتفاق الجانبين السوفيتي والأمريكي على دعوة أطراف الحرب لإيقاف إطلاق النار مع التزامهما بالدخول في مباحثات لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242، وأسفر اتفاق القطبين الدوليين عن صدور القرار رقم 338 من مجلس الأمن الدولي بنفس المضمون، والذي دعا إلى إيقاف إطلاق النار في يوم 23 أكتوبر.
لم يكن تطبيق هذا القرار بالأمر اليسير، فحدث خرق لإطلاق النيران أسفر عن قيام قوات الجيش الإسرائيلي بتعميق حصاره للجيش المصري الثالث وقطع أخِر خط إمداد تمويني له، ما دفع الأخير نحو المقاومة ومحاولة فك الحصار، فيما رفضت الولايات المتحدة طلَب الرئيس المصري والاتحاد السوفيتي بعودة الجيش الإسرائيلي إلى الحدود التي تزامنت مع القرار 338.
وهنا اقترب الصراع العسكري إلى الوصول لنقطة الصدام بين القُطبين الدوليين، فقام الاتحاد السوفيتي بتخيير الإدارة الأمريكية بين إرسال قوات مشتركة مع الاتحاد بغرض تنفيذ القرار الأممي، أو قيام السوفييت بإرسال قوات من طرف واحد لتحقيق نفس الهدف، وجاءت هذه الخطوة حرصاً من الاتحاد السوفيتي على ردع الجانب الإسرائيلي، وعدم السماح له بإلحاق الضرر بالجيش المصري الثالث. غير أن الولايات المتحدة قد رفضت اللهجة السوفيتية، في وقت كانت القطع البحرية السوفيتية قد بدأت تتحرك بالفعل في مياه البحر المتوسط، ما دفع الجانب الأمريكي إلى إعلان حالة التأهب العسكري من المستوى الثالث، وتعني هذه الحالة أن جميع القوات، بما فيها النووية، في حالة استعداد عالية، في وقت قدمت إسرائيل عرضاً إلى الولايات المتحدة بانسحاب الجيشين المصري والإسرائيلي 10 كيلو متر شرق وغرب القناة، على أن تكون هذه المنطقة منزوعة السلاح.
وقامت الإدارة الأمريكية بتحريك حاملة الطائلة روزفلت من الشواطئ الإيطالية إلى جنوب جزيرة كريت استعدادًا لأي تدخل سوفيتي في الحرب، وقامت واشنطن بإبلاغ القاهرة أن الجيش الأمريكي قد يضطر إلى مجابهة التدخل السوفيتي في الأراضي المصرية. كما قامت بإبلاغ موسكو استعدادها للمساهمة في قوة أممية بدلاً من قوات القطبين لتطبيق قرار وقف إطلاق النار، مُشددة على رفضها أي إجراء سوفيتي أحادي الجانب، وقامت القاهرة بإبلاغ واشنطن موافقتها على مقترح القوة الأممية؛ في خطوة اعتبرها وزير الخارجية الأمريكي في مذكراته أنها قد عضدت قدرة الولايات المتحدة على فرض رؤيتها للتسوية، لأنها قللت من فُرص تدخل القوات السوفيتية أحادي الجانب[10].
وقادت هذه التطورات إلى حدوث تغيير إيجابي نسبي في التوجهات الأمريكية حيال مصر، إذ أشار كيسنجر في مذكراته إلى أن بلاده قد أبلغت الجانب الإسرائيلي برفضها إلحاق أي ضرر بالجيش المصري الثالث، وإنها ستقوم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن المعنية بوقف إطلاق النار، وجاء الرد الإسرائيلي بطلب مقترح أمريكي مُتكامل لوقف إطلاق النار.
ثم اتخذت القاهرة الخطوة التالية والحاسمة نحو وقف إطلاق النيران، واقترحت على واشنطن وليس موسكو الموافقة على بدء محادثات عسكرية مباشرة بين مصر وإسرائيل حول تطبيق القرار 338، في مقابل إرسال قافلة دعم غير عسكري من الأمم المتحدة والصليب الأحمر إلى قوات الجيش الثالث المُحاصَرة، وهو المقترح الذي قاد فيما بعد إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النيران وفقاً للورقة المصرية، وبتدخُّل من وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، وانحسر دور الاتحاد السوفيتي في هذا السياق على الاطلاع على بنود الاتفاق، وانطلقت فيما بعد مباحثات السلام بين مصر وإسرائيل برعاية أمريكية. كما ساهَم رفض سوريا لاحقاً الدخول في مباحثات السلام مع إسرائيل في إنهاء دور الاتحاد السوفيتي على صعيد مباحثات السلام بين مصر وإسرائيل، وقادت هذه التطورات إلى انتقال مصر إلى المعسكر الأميركي في الحرب الباردة، في خطوة كان لها تأثير كبير على تقويض نفوذ الاتحاد السوفيتي بالإقليم.
خاتمة
بغرض تحديد العلاقة بين صناعة القرار المصري والتنافس بين القُطبين الدوليين إبان حرب أكتوبر 1973؛ استعرضنا في هذا المقال بعض المقولات الأكثر انتشاراً بين دارسي العلاقات الدولية حول العلاقة بين هيكل القوى الدولية وصناعة القرار لدى دولة صغيرة أو متوسطة القوة، وهي المقولات التي تراوحت بين الإعلاء من تأثير هيكل القوى الدولية على صناعة القرار أو نفي أهميته بشكل شبه كامل، وحاولنا اختبار صحة هذه المقولات على السياسة الخارجية المصرية تجاه القطبين الدوليين إبان الحرب الباردة.
ونجد أن صانع القرار المصري قد نجح إلى حد كبير في لعب دور مستقل في هذا السياق، واستطاع التأثير في موقف كلا القطبين خلال هذه الحرب، إلى الحد الذي تم فيه إيقاف إطلاق النيران بناء على ورقة مصرية تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية، في وقت لم ينجح القطبان في فرض تسوية سلمية وفقاً للقرارات الأممية بسبب خلافهما على آلية تنفيذ القرار.
فعلى عكس مقولات والتز، أدى التنافس الثنائي بين القطبين إلى تعطيل إنهاء حرب أكتوبر بدلاً من تسوية الأزمة، في وقت نجحت القاهرة في فرض أفضلياتها على حساب الأفضلية السوفيتية، ونجحت القاهرة في الوصول بالحرب إلى نقطة الذروة التي كادت أن تقود إلى صدام مباشر بين القُطبين على غير رغبتهما.
ونَتَج هذا النجاح المصري بالأساس من فهم صانع القرار العميق إلى حسابات القُطبين الدوليين حيال الإقليم، ونجاحه في صياغة موقف يُلبي المصالح المصرية والأمريكية في آن واحد، وهي المصالح التي تلاقت عند نقطتي فتح قناة السويس للملاحة البحرية وإبعاد الاتحاد السوفيتي عن مسار تسوية الأزمة، واللافت في هذا الإطار هو إنه جاء في ظل اعتماد القاهرة على الدعم السوفيتي عسكرياً.
لذلك يمكن القول إن للتنافس بين أقطاب النظام الدولي أثرًا في صناعة السياسة الخارجية للدول الأقل قوة، لكن ليس بالضرورة أن تكون الأخيرة هي المتغير التابع في هذا السياق، بل يمكن أن تكون هي المتغير المستقل حال استطاعت توظيف هذا التنافس في تحقيق مصالحها، ولعل السياسة الخارجية المصرية تجاه القطبين في حرب أكتوبر تعد إثباتاً لصحة هذه المقولة. وعلى طريقة بريتشر: قد تستطيع السناجب قيادة الأفيال حال معرفتها الجيدة برغباتهم.
مراجع
[1] لوالتز كتابان في هذا الإطار؛
Kenneth N. Waltz, “Man, the state, and war: A theoretical analysis” (New York: Columbia University Press, 1959).
Kenneth N. Waltz, “Theory of International Politics” (Boston: AddisonWesley Publishing Company, 1979).
[2] جوزيف هينروتين وآخرون، “حرب واستراتيجية: نموذج ومفاهيم (الجزء الأول)”، ترجمة: أيمن منير، سلسلة عالم المعرفة 472 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، إصدارات عالم المعرفة، 2019) ص 92.
[3] Alexander wendt, “Anarchy is what States make of it: The Social Construction of Power Politics.” International Organization. vol. 46, no. 2 (Spring 1992).
[4] Kalevi Holsti, “National Role Conceptions in the Study of Foreign Policy,” International Studies Quarterly, vol. 14, no. 3 (1970), pp. 233-309.
[5] جوزيف إس.ناي، “مستقبل القوة”، ترجمة: أحمد عبد الحميد نافع، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2015).
[6] Amr Yossef,” Sadat as Supreme Commander”, Journal of Strategic Studies, (2014), Vol 37, No. 4, pp, 532-555.
[7] خطاب عيد العمال، الرئيس المصري محمد أنور السادات، مايو 1972، مُتاح على الرابط:
http://www.moqatel.com/openshare/Wthaek/Khotob/Khotub8/AKhotub45_3-1.htm_cvt.htm
[8] William B.Quandt, Soviet Policy in the October 1973 War, A report prepared for office of the assistant secretary of defense/international security affairs, May 1976, Rand Corporation. Available At:
https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/reports/2006/R1864.pdf
[9] هنري كيسنجر، “مُذكرات-الجزء الثاني”، ترجمة: عاطف أحمد عمران، (عَمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2005)، ص ص 484-485.
[10] المرجع السابق، ص ص 695-660.