بالتزامُن مع حلول الذكرى الـ 47 لنشوب حرب أكتوبر، وبداية الاحتفالات المصرية بذكرى الانتصار على الجيش الإسرائيلي، والعبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس، والتمهيد لتحرير أراضي سيناء بالكامل؛ أطلق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تصريحاً اعتبر فيه أن بلاده قد استطاعت “قلب الموازين وتحقيق النصر رغم البداية الضعيفة”، مُشيراً إلى وصول عناصر الجيش الإسرائيلي إلى أبواب القاهرة ودمشق قبيل إعلان وقف إطلاق النيران.
على رغم أن نتيجة الاستراتيجية النهائية للحرب هي استعادة مصر لسيطرتها على كامل أراضي سيناء بعد خسارتها في حرب 1967، وتوقيع اتفاق سلام بين البلدين؛ في نتائج تعكس تحقيق مصر أهدافها من المعركة العسكرية التي بدأت في عام 1973. وفي ضوء النتائج السياسية والعملية النهائية للحرب. نحاول في هذا المقال الوقوف على الأسانيد الإسرائيلية التي تدعم روايتها الرسمية، وتحديد دلالات استمرار الجدل حول ماهية المنتصر في حرب أكتوبر حتى وقتنا الراهن.
على ماذا تستند الرواية الإسرائيلية؟
تُقِر الرواية الإسرائيلية بتلقيها هزيمة كبيرة ومُفاجئة في بداية المعارك العسكرية في 6 أكتوبر 1973، وذلك بحسب مذكرات القادة السياسيين والعسكريين في الحكومة الإسرائيلية وقت الحرب، وأخيرًا تصريحات نتنياهو. غير أن الرواية الإسرائيلية تعود لتروج لقدرتها على استعادة القوات الإسرائيلية لتوازنها، وتحقيق انتصار عسكري قبيل وقف إطلاق النار. ومن الجائز القول إن الجيش الإسرائيلي حقق انتصارًا عسكريًّا بالفعل على الجبهة السورية؛ فقد استطاع صد الهجوم السوري، وكَبَّد الأخير خسائر عدة، ومنعه من استعادة سيطرته على هضبة الجولان، وتجاوز ذلك باختراق خط وقف إطلاق النار للداخل السوري. وذلك رغم الاختراق السوري الناجح للهضبة في بدايات الحرب.
بينما يظل الادعاء بتحقيق انتصار عسكري على الجانب المصري يعوزه الكثير من الموضوعية؛ سيما بعد نجاح الجيش المصري خلال الساعات الأولى من الحرب في العبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية آنذاك، ونجاحه في الحفاظ على مواقعه الجديدة التي تصل إلى 14 كم شرق القناة، بل وحاول تطوير هجومه لأبعد من ذلك. في دلالة على النجاح المصري الكامل في فرض السيطرة على ضفتي قناة السويس الاستراتيجية والمحورية للتجارة الدولية.
في المقابل، تستند اسرائيل في روايتها على نجاح قواتها في عبور ضفة قناة السويس غرباً داخل العُمق المصري، بعد مرور عشرة أيام من الحرب، استغلالاً لنقطة الدفرسوار الضعيفة دفاعيًّا بين صفوف الجيش المصري المُصطفة شرق القناة، وذلك بعد رصد هذه النقطة من قِبل طائرة استطلاع أمريكية، وتقديم المعلومات بخصوصها للجانب الإسرائيلي، وهي نقطة غير مأهولة سُكانياً أو عسكرياً، وتبعد عن القاهرة بحوالي 101 كم شرقًا. ويحد الدفرسوار شمالاً مدينة الإسماعيلية، وجنوباً مدينة السويس. وقد مَثَّل هذا الاختراق في الصفوف الخلفية للجيش المصرية تهديداً لقوات الجيش الثالث الميداني المتواجد على الضفة الشرقية للقناة، فضلاً عن تهديد محافظتي السويس والاسماعيلية، فيما لم تنجح المحاولات المصرية الأولى للتصدي للهجوم الإسرائيلي.
(خريطة عسكرية توضح كيفية قيام القوات الإسرائيلية بقيادة شارون وأدان وماجن في اختراق العمق المصري)
وبعد نجاحه في السيطرة على منطقة الدفرسوار عسكريًّا، حاول الجيش الإسرائيلي اقتحام مدينتي الإسماعيلية والسويس خلال أيام 20 و21 و22 أكتوبر. وباءت هذه المحاولات بالفشل بعد مقاومة القوات المصرية وقوات المقاومة الشعبية. واتخذت محافظة السويس من يوم 24 أكتوبر عيدًا رسمياً لها تخليداً لذكرى تصدي أبنائها للهجوم.
وهو ما دَفع الجانب الإسرائيلي نحو التراجُع عن تطوير الهجوم غرب القناة، واكتفى بإعادة التموضع في الدفرسوار، وقام بعزل الجيش الثالث المتواجِد شرق القناة عن مركز القيادة المصرية في يوم 24 أكتوبر. وفرض الحصار على مدينة السويس؛ وهي الوضعية الأخيرة قبيل وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية في يوم 28 أكتوبر، بينما كان القادة المصريون يخططون لتطويق القوات الإسرائيلية وتصفيتها عوضاً عن سحب بعض مقاتلي الجيش الثالث للخلف نحو غرب قناة السويس بغرض الهجوم على القوات الإسرائيلية.
ويحاول الجانب الإسرائيلي اقتطاع هذه التطورات، وتوظيفها في البرهنة على تحقيقها انتصاراً في أكتوبر، وذلك رداً على دعاية الجانب المصري بنجاحه في “سحق الجيش الإسرائيلي-الذي لا يُقهر-في سِت ساعات” بحسب تصريحات الرئيس أنور السادات. إلا أن المُحصلة النهائية تُشير إلى أن اختراق “الدفرسوار” كان تكتيكيًّا محدودًا، ولم يدفع الجانب المصري نحو التراجُع للخلف، كما لم ينعكس هذا الانتصار في اتفاقيات فض الاشتباك اللاحقة. وهو ما نتناوله في النقطة الأتية.
هل انتصرت إسرائيل حقاً؟!
استمرت وضعية الدفرسوار لثلاثة أشهر تقريبًا رغم وقف إطلاق النار، ومن الناحية العسكرية الخالصة، كان هذا الوضع شديد التعقيد بالنسبة لإسرائيل بعد الفشل في تطوير الهجوم غرب القناة، وصعوبة تطبيق خطة انسحاب اسرائيلية دونما الاتفاق مع الجيش المصري على عدم إطلاق النيران، فضلاً عن صعوبة تقديم الدعم اللوجيستي للقوات الإسرائيلية في ظل تواجد الأخيرة داخل الأراضي المصرية.
ولجأ الجانب المصري إلى تسريب بعض الأنباء في ديسمبر 1973 عن موافقة السادات على خطة كاملة لتصفية التواجد الإسرائيلي غرب القناة بعنوان الخطة “شامل”، في الوقت الذي قام فيه المصريون بتنفيذ عمليات عسكرية نوعية على المنطقة الواقعة تحت سيطرة الإسرائيليين في شرق وغرب القناة بدءًا من يوم 31 أكتوبر، وذَّكر الرئيس المصري في مذكراته أن الإدارة الأمريكية قامت بتهديد مصر (حليفة الاتحاد السوفيتي آنذاك) بالتدخل العسكري لصالح إسرائيل حال الإقدام على تنفيذ الخطة “شامل”، وعرضت في المقابل أن تقوم هي بإجبار الإسرائيليين بالانسحاب، وإطلاق عملية السلام.
(خريطة توضح الخطة العسكرية المصرية لتصفية الثغرة “شامل”)
قاد هذا في نهاية المطاف إلى تحقيق مصر نصر استراتيجي بدأ بانسحاب القوات الإسرائيلية من الدفرسوار في يناير 1974 بعد وساطة أمريكية، بينما احتفظت القوات المصرية بالمناطق التي سيطرت عليها في سيناء، مع تخفيض عدد القوات المصرية المتواجدة بشرق القناة وفقاً لاتفاقية فض الاشتباك الأولى. وعَكَس هذا الوضع عدم نجاح الثغرة في دَفع الجانب المصري نحو التراجُع عن الأرض التي سيطر عليها في الساعات الأولى من الحرب، فيما منحت اتفاقية فض الاشتباك الثانية في يونيو 75 للجيش المصري الحق في التغول بعمق 35 كم في سيناء، وانسحاب القوات الإسرائيلية بعيداً عن قناة السويس بمسافة تصل إلى 55 كم، ووجود قوات من الأمم المتحدة في المنطقة العازلة
واستمرت الجولات التفاوضية حتى توقيع معاهدة السلام في عام 1979 بين مصر وإسرائيل، وقَضت المعاهدة بانسحاب كامل لإسرائيل من سيناء، وفَرض السيادة المصرية الكاملة على المنطقة، بما في ذلك خليجي العقبة والسويس والمضائق وقناة السويس، وتَعهَّد الطرفان بتطبيع العلاقات بينهما، والامتناع عن تهديد بعضهما البعض، وحل كافة المنازعات بوسائل سلمية، ولجأ الجانبان لاحقاً إلى آلية التحكيم الدولي لحسم تبعية منطقة طابا الحدودية بينهما. وصَدر الحُكم في 15 مارس 1989 بتبعيتها لمصر. أي بعد عشر سنوات تقريباً من توقيع معاهدة السلام، وستة عشر عاماً من حرب أكتوبر. لتعود بذلك أراضي سيناء بالكامل للسيطرة المصرية بعد فقدانها في حرب 1967.
في النهاية، انتهت الحرب في وضعية تميل للجبهة المصرية عسكرياً، وكان الوصول إلى نقطة اللاعودة مرفوضًا من جانب الإدارة الأمريكية، وذلك لإدراك الأخيرة أن الانتصار الإسرائيلي الكاسح في عام 1967 قاد إلى تعميق النفوذ الروسي في الشرق الأوسط بتعميق تحالفاته مع الجيوش العربية، ما صَنع حالة من عدم الاستقرار في الإقليم.
فكان المكسب الأمريكي يتمثل في تقويض النفوذ السوفيتي عبر إبعاد مصر عن منظومة التحالفات السوفيتية بالمنطقة، وكانت مصر أبرز المنتصرين إقليمياً بعد إجبار الطرف الإسرائيلي على التفاوض معها نتيجة للحرب، ودفعه لاحقاً إلى الانسحاب الكامل من الأراضي المصرية عبر عدة جولات من الأدوات السلمية، بينما نجحت إسرائيل في صد الهجوم السوري، وخسرت في المقابل السيطرة على سيناء، وخرج السوريون من هذه المعركة خاليين الوفاض، وان حققوا في بداية الحرب اختراقاً في هضبة الجولان، ونجحوا لاحقاً بمساعدة عربية في صد هجوم إسرائيلي على العاصمة دمشق.
ملاحظات على ادعا ء الانتصار الإسرائيلي
رغم الانتصار المصري البيَّن في حرب أكتوبر، سواء عسكرياً أو سياسياً، نجحت دولة إسرائيل في الترويج لانتصارها في موقع إلكتروني يعد من أهم مصادر المعلومات الأولية للجمهور العادي، كما تحافظ على إحياء ذكرى “الانتصار” سنويًّا، وتُخصِّص مساحات في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية لتحقيق هذا الغرض. في دلالة على نجاح الجانب الإسرائيلي في الجانب الدعائي والإعلامي، وهو جانب يبرع فيه الإسرائيليون عادةً. ويُشير في المقابل إلى قصور مصري.
وثمة دوافع قادت إسرائيل إلى الترويج لانتصارها في أكتوبر رغم هزيمتها على الجبهة المصرية. أولها هو الحفاظ على صورة الجيش الإسرائيلي “الذي لا يُقهر” أمام نظرائه الإقليميين، سيما بعد حرب 1967 التي سيطر فيها الجانب الإسرائيلي على مساحة شاسعة من الأراضي. وتستفيد إسرائيل من هذه الصورة الذهنية محليًّا وإقليميًّا حتى الأن من عدة أوجه؛ فهي تدعم جبهتها الداخلية وتتجنب خسارة ثقة مواطنيها في جيشها، بينما تدفع خصومها إلى التفكير مليًّا قبيل مهاجمتها عسكريًّا؛ خاصةً في ظل واقع سياسي بات متعدد الأدوات، وقدرات عسكرية قد تصل بالجميع نحو الهاوية.
كما يدل هذا الزعم على تعدد الأدوات التي يمكن من خلالها حسم نتيجة الحروب في عالم اليوم، وكذا تعدد المعايير التي يمكن استخدامها في تحديد الفائز في أي معركة عسكرية خلال فترة زمنية، مع الاعتبار إلى أن الانتصار في إحدى المعارك السياسية أو الإعلامية أو العسكرية لا يعني بالضرورة الانتصار في الصراع. كما بُنى الانتصار العسكري التكتيكي الإسرائيلي المحدود في الدفرسوار على معلومة رصدتها طائرة أمريكية متفوقة على تقنيات الدفاع الجوي المصرية، فكان هذا الانتصار نتيجة لمزيج من التفوق المعلوماتي والتكنولوجي وإدارة إسرائيل لتحالفاتها الخارجية.
وهو ما يقودنا إلى القول بأن الانتصار اليوم هو عملية استراتيجية ممتدة، ولا يمكن اختزاله في حدث بعينه، وقصة انتصار مصر في أكتوبر تُعد مثالاً علمياً على صياغة وتنفيذ استراتيجية كبرى ناجحة Grand Strategy، ويتم تعريف الاستراتيجية الكبرى عادة على إنها مزيج من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والسياسية التي يستخدمها القادة للدفاع عن دولهم القومية، في سياق السياسات المحلية والدولية شديدة الترابط. ويرى الخبير الاستراتيجي البريطاني ليدل هارت إلى ان الاستراتيجية الكبرى تستهدف أكثر من الانتصار في الحرب، وتسعى إلى تحقيق حالة من السلام للدولة وللأفراد أفضل من الوضع الذي سَبق اندلاع الحرب. وبهذا المعنى، فإن مصر قد نجحت تمامًا في تحقيق انتصار استراتيجي كبير خلال وبعد حرب أكتوبر، سيما إذا ما تم مقارنتها بأطراف الحرب الأخرى، وعلى رأسهم دولة إسرائيل.
وهو ما فَطن إليه الجانب الإسرائيلي، وسعى في المقابل إلى التقليل من حجم الانتصار المصري. وغني عن الذكر أن الجانبين المصري والإسرائيلي ما زالا يظهران من حينٍ لأخر بعض الإشارات الإعلامية غير الرسمية على استمرار حالة العداء المُستتر بينهما، وان كان من المُستبعد أن يتم ترجمة هذه الإشارات في الواقع السياسي أو العسكري.
وأخيرًا تحاول الرواية الإسرائيلية الإشارة إلى تفضيلها إقامة السلام رغم “تفوقها العسكري” في أكتوبر، وهو ما يعزز من سردية استهداف إسرائيل من قِبل جيرانها رغم كونها دولة “مُسالمة”، وتحرص إسرائيل دومًا إلى تصدير هذه الصورة دائماً للرأي العام المحلي والدولي، وتُبرهن من خلالها على تفضيلها دائماً دور “صانع السلام” على عكس الرواية الفلسطينية.