مدخل
ترجع العلاقة بين التقنية والردع إلى فترة تسبق إيجاد مسمى ومصطلح وتعريف لكل منهما. فقد كان البحث دائمًا مستمرًا لابتكار تقنيات جديدة لتحقيق الردع عبر التاريخ. ويعني الردع باختصار مُخل امتلاك القوة التي تحد أو تعطل قدرة وقوة العدو الأكثر تأثيرًا على ساحة المعركة، والذي يعني في السياق العسكري الحد من قدرته على المبادرة والمبادأة، التي باستعادتها يصبح لدينا ما عُرف تاليًا بتوازن الردع.
تحقيق هذا في الماضي، وما تلاه من إدارة توازن ردع متبادل على مقياس كوكب الأرض في الوقت الحاضر، وعبر ترسانة أسلحة لها القدرة على تدمير الحضارة البشرية ككل، يعني أن التقنية كانت عاملاً حاسمًا في خلق وإدارة التوازن الرادع؛ وأنها كانت الرقم الذي يقلب معادلة الردع منذ ابتكار العجلة الحربية وصولاً للصواريخ الباليستية الحاملة لرؤوس نووية، وغيرها من تكنولوجيا وتكتيكات. الدافع الرئيسي من الوصول لهذه الابتكارات هو الوصول لفرض إرادات متبادل بين دول وكيانات، يمتلك كل منهم من السابق ما يُمكنه من ردع الأخر.
النموذج الأبرز لهذه الآلية كان وما يزال في الشرق الأوسط، الذي يتشكل تاريخها المعاصر حول توازنات ردع إقليمية ودولية تالية للحرب العالمية الثانية. لقد تأسست وتأطرت هذه التوازنات وشهدت طفرتها الأبرز في سياق الحرب الباردة، وما شكلته التقنية كعامل يتغلب على ما اعتُبر ثوابت في معادلات الردع الجيوستراتيجية والعسكرية، المستندة لوقائع الجغرافيا والديموغرافيا، وذلك عبر امتلاك أدوات تؤثر في الشق النفسي والمعنوي وتحد من إرادة الخصم.
يشكل الردع جوهر الكيان الإسرائيلي؛ حيث يعادل نجاح إسرائيل في الردع بقاءها واستمرارها. وهو ما يحوي معضلة فريدة من نوعها من حيث الامتداد التاريخي والمتغيرات التي طرأت على الردع منذ 1948، وشمولها لمستويات ومجالات غير عسكرية. لقد توسع مفهوم الردع وضمان عدم الإخلال بتوازنه بكافة أوجهه لصالح خصوم تل أبيب، ليصبح أولوية ضمن محددات مصالح واشنطن الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وتحديدًا بعد حرب أكتوبر1973، التي أعادت تشكيل العقلية الحاكمة للاستراتيجية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بشكل جذري. ولم يعد هذا الردع يستند فقط على الدعم اللامحدود في التكنولوجيا العسكرية والاستخباراتية الأميركية والتي كانت في سياق الصراع مع موسكو، ولكن أيضًا على المحافظة على سردية التفوق والهيمنة واليد العليا وغيرها من مصطلحات شكلت جوهر استراتيجية الردع النفسي الإسرائيلية المستندة للتفوق العسكري.
السطور التالية محاولة لفهم دور التقنية في خلق وإدارة توازن الردع في الصراع العسكري بين مصر وإسرائيل قبيل السادس من أكتوبر، وكيفية تفاعل الطرفين في اطار التحدي والاستجابة مع متغيرات الحرب الباردة والصراع بين واشنطن وموسكو وخاصة مسألة التنافس التقني العسكري، وانعكاساته على التطورات الميدانية في الفترة ما بين يونيو 1967 وأكتوبر 1973، والتي شكلت فيما بعد نقطة تحول فارقة في إعادة هيكلة وتشكيل مفهوم الردع ومعادلات توازنه في العسكرية الإسرائيلية، وعلاقة ذلك بمعضلة الردع التي تواجهها تل أبيب في السنوات الأخيرة، واستجابة الأطراف المعنية بها فيما يتجاوز الشق العسكري.
التقنية والردع نفسيًّا.. المفهوم والاستراتيجية
ما بين تجنب نشوب حرب جديدة وإنهاء حرب جارية، استقر مفهوم الردع قبيل الحرب العالمية الأولى، وسرعان ما أصبح هذا التعريف يقع في حيز المتغير على نحو مُركب طيلة سنوات الحرب وما تلاها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وذلك حسب طبيعة كل صراع وأطرافه ومقياس القوة وتطور التقنية، التي بات لها منذ الحروب النابليونية أصداء نفسية ومعنوية تبلورت أكثر على مدار القرن التالي، لتصل ذروتها في إلقاء القنبلة النووية على اليابان 1945. وتدخل العلاقة بين الردع والتقنية وانعكاساتها النفسية والمعنوية وتأثيرها على صنع واتخاذ القرار، العصر النووي وما شكلته ستينيات القرن الماضي من ذروة اللعب على حافة الهلاك النووي للحضارة البشرية.
وغني عن القول أن هذه القفزة المهولة في القوة التدميرية والتقنية كأدوات مستحدثة في إدارة الصراعات واستراتيجية الردع، قد أنعكس في الأبعاد النفسية/المعنوية المؤثرة على صناعة واتخاذ قرار سياسي؛ فتطور الردع كمفهوم يدور حول إكراه وإجبار صانعي القرار في دولة ما على التجاوب والإذعان لسياسات ومطالب ومصالح دولة أخرى، وذلك طبقاً لمعايير المكاسب والأضرار والتكلفة الناتجة عن اتخاذ سياسة معينة أو العكس، إلى هندسة حزمة من السياسات الاقتصادية والعسكرية والدعائية تستهدف خلق واستثمار تأثير نفسي ومعنوي يحد من قدرة الخصم والعكس، ومن ثم تغليب هذا العامل على عملية صنع القرار.
يعني هذا أن مسألة الردع عشية الحرب العالمية الثانية وفي خضم الحرب الباردة، باتت على درجة من التعقيد والتقلب لا ترتهن فقط لحسابات القوة العسكرية المباشرة كأساس لمعادلة ردع، بل توسعت لتشمل عوامل نفسية ومعنوية يمكن لأطراف الصراع إدارتها والتعاطي معها وفق متغيرات مركبة تتجاوز بديهية امتلاك طرف لقوة عسكرية أكبر دون الأخر؛ فعلى سبيل المثل لم يجعل امتلاك إسرائيل للسلاح النووي قبيل حرب أكتوبر رادع لاندلاعها، وكذلك الأمر بالنسبة لطائرة فانتوم وغارات العمق المصري التي كانت تشنها إسرائيل كرادع لوقف عمليات الاستنزاف على الضفة الشرقية لقناة السويس، والتي بدورها كانت كابوس معنوي في كل من الجبهة الداخلية والخارجية. بخلاف تضفير هذه المراوحة بالتنافسية بين موسكو وواشنطن وقتها فيما يتعلق بكفاءة وتطور تقنيات وأسلحة كل منهم -الفانتوم وصواريخ سام كمثال- وخلق مسارات سياسية وعسكرية تنطلق وتدور في فُلك توازن ردع، هو في حالة إسرائيل بمثابة ركيزة وجودها واستمرارها كدولة.
وعلى الرغم من أن الجانب العسكري له الغلبة في تأسيس الردع كمفهوم واستراتيجية، وخاصة إذا ما تم النظر إلى الردع كاستراتيجية سياسية تدار بأدوات عسكرية، تربط ما بين السياسة الخارجية للدولة وعلاقاتها بالعالم بالتخطيط والعقيدة العسكرية والأمنية لنخبتها الحاكمة، فإن حصره في سياق صراعات الشرق الأوسط وتحديداً ما بين مصر وإسرائيل على أنه انعكاس لسباق تسلح بينهم، يأتي بدوره كحلقة من حلقات الحرب الباردة وظلالها على المنطقة، لا يفسر معضلة إسرائيل الوجودية منذ نشأتها وحتى، والتي تتلخص في أنه لو امتلكت إسرائيل أقوى الأسلحة والعتاد والتكنولوجيا بما في ذلك النووي، فإنها لا تستطيع الانتصار من منظور ضمان ميّل معادلة ردع طويلة الأمد لصالحها، والتي تعني باختصار القدرة على فرض الإرادة على الخصم.
في سياقنا هنا، نجد أن مفهوم الردع بشكله الكلاسيكي القائم على امتلاك القوة العسكرية للحد الذي يمكن من تعجيز الخصم عن استخدام قوته العسكرية المقابلة، لا يفسر بالقدر الكافي ما حدث عشية حرب الستة أيام وحتى حرب يوم الغفران؛ فبجوار حرب فيتنام أتت الحرب بين مصر وإسرائيل الشرق كمرحلة انتقالية في تطور مفهوم الردع ومعادلاته وأنواعه، الذي لم يعد يقتصر على الردع العسكري المباشر مدعوم بهالة دعائية من نوعية “الجيش الذي لا يقهر”، وتحول التقنية العسكرية لأداة ضمن أدوات إدارة معادلة ردع نسبية تتغير مكوناتها باستمرار من حيث القدرة على اختبار حدود التهديد المتبادل، ولا تشترط أن من يمتلك التكنولوجيا الأكثر تقدماً والسلاح الأكثر تطوراً يكون ميزان الردع لصالحه، بل أن الغالب وفي حالة إسرائيل ككيان وكجيش، تصبح “أبسط” التقنيات والتكتيكات القتالية ذات فاعلية ميدانية ودعائية، حيث تحقق هدف الترويع كمكون رئيسي في ردع الخصم ودفعه نحو نوع من الرشادة لتعديل مسلكه السياسي.
الردع كضرورة لوجود إسرائيل
“بالنسبة لجيراننا، يجب أن تكون إسرائيل ككلب شرس جداً من الخطر عليهم إزعاجه”.
تلخص هذه المقولة المنسوبة لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشى ديان، الجوهر الذي قامت عليه استراتيجية إسرائيل الأمنية وموقع الردع فيها منذ 1948 لما بعد 1967 وعلاقته بالجغرافيا؛ حيث الترويع والترهيب كمعوض لغياب مقومات القوى الشاملة الاستراتيجية لوجود وبقاء الدول كالكتلة الحيوية المتماسكة على جغرافيا مستقرة، وذلك بالطبع مقارنة بمحيط فلسطين المحتلة الجغرافي والديموغرافي، حيث كان تفوق إسرائيل في وقتها قاصراً على تفوق نوعي في التسليح وتكتيكات الحرب الحديثة، وهو على أهميته وتأثيره في معارك ما بين التاريخين، إلا أنه لم يكن سوى مقوم واحد من مقومات القوى الشاملة التي تستند لها الدول في فرض سيادتها وإرادتها على أراضيها.
ومع استثنائية إسرائيل ككيان استيطاني إحلالي يحتل الأرض من أجل التفاوض لاحقاً على الإقرار باحتلالها، فإن حتى هذا المقوم العسكري لم يكن من الصعب اللحاق به، عكس المقوم الجغرافي، الذي تعاطت إسرائيل معه كعقبه حلها عبر استراتيجية نقل المعارك لأرض الخصم، والتي تشكل مكونًا رئيسيًّا في نظرية الأمن الإسرائيلية، وهو ما تحلل وثبت عدم صلاحيته مع ذروة التناقضات التي لم تستطع إدارتها بعد حرب 1967؛ كون أن منهجية الأخيرة في تحقيق الأمن عبر الترهيب والترويع المستمر والتوسع في احتلال أراضي الغير لم يأتي إلا بنتائج عكسية منذ 73 وحتى الأن.
لهذا، فإن ملء هذه الفجوة في العشرين سنة الأولى لإسرائيل كان يقوم على التوسع المفرط في العنف -مذابح العصابات الصهيونية عشية النكبة وحتى النكسة كمثال- واستخدام تأثير هذا العنف الدعائي والمعنوي ضمن استراتيجية ردع قائمة على حشد مزيد من القوة العسكرية، بهدف موازنة هذه الفجوة الخاصة بمقومات القوى الشاملة بين تل أبيب والعواصم العربية وعلى رأسها القاهرة، بتوسيع فجوة التفوق العسكري النوعي والكمي لصالح الأولى. وهو ما كانت ذروته في مطلع الستينيات، والتأسيس لاستراتيجية وخصوصية العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، في سياق الحرب الباردة، وتالياً عبر ضمان الأخيرة التفوق العسكري والتكنولوجي للأولى، وصولاً لمشارف الردع النووي.
هنا يمكن تتبع العلاقة الطردية بين التقنية والردع بصورته العسكرية المباشرة، وبين تشكل وتطور مفهوم الردع في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية حتى 1973، والتي أتت كاستجابة لتحدي الفجوة ذات الحدين سابقة الذكر؛ فمن ناحية أمكن لمصر اللحاق بالتفوق النوعي والكمي العسكري الإسرائيلي وفق أنماط متعددة تحقق بالحد الأدنى توازن عملي بين التكنولوجيا والعنصر البشري وكفاءته في أرض المعركة، بينما ظلت الفجوة الخاصة بباقي مقومات القوى الشاملة، وخاصة الجيوسياسية، معضلة في تثبيت إسرائيل لمعادلة ردع تحكم علاقاتها بمحيطها.
ومن ثم، كانت الحاجة الإسرائيلية المستمرة حتى الأن للحفاظ على معايير تفوق وهيمنة عسكرية/تكنولوجية لا تكتفي فقط ببديهيات الردع الكلاسيكي، إنما تتجاوز ذلك لتكون حلقة من مشهدية توازن الردع العالمي بين واشنطن وموسكو، والذي تمثل مادياً-بخلاف السلاح النووي- وقتها وعلى سبيل المثال في العلاقة بين الفانتوم الأميركية وصواريخ الدفاع الجوي سام السوفيتية، وعلاقة ذلك بمعادلة الردع الناشئة وقتها بين تل أبيب والقاهرة، والتي كانت تدور وقتها في مدى غارات العمق الإسرائيلية الجوية كرد على استراتيجية الاستنزاف المصرية عبر تكتيكات العمليات الفدائية وغيرها، والتي دفعت الإسرائيليين إلى التسريع في بناء خط بارليف كمقابل لجدار الصواريخ المصرية، حيث شكل كل منهم المعامل المادي المباشر لتوازن الردع العسكري بين الطرفين في الفترة ما بين أغسطس 1970 وأكتوبر1973.
استيعاب الصدمة وإعادة توجيهها
من نافلة القول إن إسرائيل استثمرت في حرب الستة أيام بكامل قدراتها لتكريسها كهزيمة معنوية بالدرجة الأولى لخصومها تخرجها من نفسية الحصار وهشاشة الوجود، وهو استثمار لازالت أثاره مستمرة حتى الوقت الحاضر في مجالات كثيرة تتخطى حتى الجانب العسكري. فمثلاً، لم تتبلور العلاقات الاستراتيجية الوطيدة والاستثنائية بين واشنطن وتل أبيب إلا عقب هذه الحرب، وليس حربي 1948 و1956؛ وهو ما جاء كانعكاس لتضخيم المنجز العسكري وتصويره كمعجزه تتخطى الوقائع المادية، ونسجها بأساطير دينية وشعبوية تردد صداها على مستوى العالم ككل، للدرجة التي جعلت اقتراح الاستعانة بوحدات من “الجيش الذي لا يقهر” لانتشال القوات الأميركية في فيتنام من مستنقع اخفاقاتها يساق لسنوات كنوع من التندر والانبهار في آن.
أما عن الجانب الأخر، فمشهدية ما بعد الانسحاب وانكشاف الصورة الحقيقية لما جرى في الخامس من يونيو 1967 بعيدًا عن وسائل الإعلام المحلية ومعاركها وانتصاراتها المتخيلة، كان باختصار كارثة متحققة إطلاق مسمى النكسة عليها جاء للتخفيف من واقع مفاد انكشاف سماء العمق المصري أمام الطيران الإسرائيلي، واحتلال شبه جزيرة سيناء والشاطئ الشرقي لقناة السويس، والأخطر هو ضعف احتمالات استعادة المبادرة والمبادأة وتوازن الردع الذي بات في صالح إسرائيل، التي باتت بدورها جبهة أمامية بتفوق نوعي وكمي كاسح تضمنه أميركا، يقابله شُح سوفيتي اقتصر على أسلحة دفاعية بالأساس، ما يزال التفاوض عليها مع موسكو عملية في طي تقلبات مستقبلية صعب التكهن بها، سواء لارتباطها بسياقات الحرب الباردة، أو الأهم الاعتماد عليها في استعادة سريعة لزمام المبادرة ميدانيًّا.
وبالنظر من زاوية معادلة الردع المفقودة مصريًّا، فيفسر التناقض في موقف القيادة السياسية المصرية قبل وبعد 5 يونيو1967 تغير مفهوم النصر والهزيمة، والتي يمكن اختصارها هنا في انقلاب معادلة الردع لغير صالح القاهرة بعد أن أخذتها إسرائيل لمستوى أخر من فرض الأمر الواقع وبشكل جغرافي. بعد أن كانت أدوات الردع المصرية تلعب على تخوفات الحصار والاجتياح لدى الإسرائيليين، وذلك عبر حشد القوات وغلق الممرات الملاحية أمام السفن الإسرائيلية كخطوة تسبق -نظريًّا- شن عمليات عسكرية في العمق الإسرائيلي من مختلف الجبهات العربية بخلاف سيناء، عبر قوات الجيوش النظامية أو الفدائيين الفلسطينيين مثلما حدث في سنوات ما بعد 1948 وحتى 1957، أصبحت هذه الأدوات بعد أن نقلت إسرائيل جغرافية المعركة لحدود الشاطئ الشرقي لقناة السويس، قاصرة حتى عن إمكانية خلق تصور مُقنع ماديًّا ومعنويًّا عن كيفية استعادة الردع في المستقبل القريب على ما كان عليه قبل الرابع من يونيو1967.
وبناءً على أن هدف تل أبيب الإستراتيجي من حرب 1967 هو احتلال الأراضي العربية من أجل فرض أمر واقع يتم الإقرار به عبر التفاوض، فإن القاهرة عقب النكسة تعاطت مع الأمر الواقع هذا بأنه مؤقت ويمكن مقاومته وتغييره، وأتى هذا عبر “لاءات الخرطوم الثلاثة” في القمة العربية من نفس العام.
هنا برزت الحاجة المصرية إلى اجتراح استراتيجية شاملة جديدة إزاء هذا المشهد الناتج عن (هزيمة/صدمة/نكسة) 5 يونيو 1967، والتي عنت في شقها النفسي/المعنوي المتعلق بمسألة الردع احباط يصل إلى حد اليأس مقابل فائض قوة يصل إلى حد جنون العظمة. وبالتالي، جاء تفعيل هذه الاستراتيجية المتمثلة ببساطة في اكتساب نقاط قوة جديدة ترفع الروح المعنوية وتزيل آثار الهزيمة، وافتقاد العدو لنقاط قوته ومكتسباته والاستثمار في نقاط ضعفه واخطاءه الناتجة عن تصورات العظمة والهيمنة التي دُفعت بشعور فائض القوة لدى كل من الجيش والمجتمع الإسرائيلي. على أن يتم السابق وفق حزمة تقنيات وتكتيكات ميدانية تجمع ما بين الجندي والآلة، وتوظيفهم في إطار عملي حسب الإمكانيات المتاحة وتعظيمها لأقصى قدر ممكن، وتضفير ذلك كله في إطار مشهدية الحرب الباردة، ليس التحاقاً بها، ولكن لاقتناص فرص سياسية وعسكرية تخدم استراتيجية التحرير بأقصى قدر ممكن.
هذه الاستراتيجية التي أقر عبد الناصر خطوطها العريضة في اجتماع له مع قادة الجيش مساء يوم 11 يونيو 1967، والتي عُرف شقها العسكري فيما بعد بـ”حرب الاستنزاف”، اقتبست كثيراً من خبرة المدرسة الشرقية العسكرية في توظيف الجغرافيا ضد العدو؛ والتي عنت باختصار في كل من الحروب النابليونية وحتى عملية “بارباروسا” الألمانية في الحرب العالمية الثانية، تحويل الجغرافيا المفتوحة التي احتلها العدو إلى عبء عليه تنهكه وتستنزف قوته باستمرار، وهو ما لم يكن يحتاج في مراحل الصمود والمقاومة وإعادة التوازن إلا إلى جندي صاعقة مدرب بشكل جيد على القتال بأقل إمكانيات لإحداث أكبر خسائر، وهو ما حدث في الأسابيع التالية عبر معركة رأس العش 1 يوليو 1967، التي أثبتت مدى حداثة عهد الإسرائيليين ونقطة ضعفهم الكبرى في إدارة استراتيجية سيطرة وتمكين على مساحات شاسعة من الأرض عقب انسحاب القوات المصرية/العربية.
سرعان ما تطور هذا التوجه ليشمل كافة تفرعات ومستويات الجيش المصري، وتطوير أفرع الأسلحة وفق بنية تفكير تستهدف السابق من حيث اعتماد تقنيات وتكتيكات بسيطة ولكن فعالة مثل التضليل والخداع والسرية والتمويه، لمجابهة تفوق السلاح الإسرائيلي من حيث الوفرة والتكنولوجيا الأحدث عالمياً، وذلك في إطار تحويل المساحات الجغرافية التي احتلها العدو شرق القناة – التي قلبت معادلة الردع بين مصر وإسرائيل- لعبء يصعب إدارته بموازاة معارك استنزاف مستمرة على مدار الساعة. وهو ما تجلى في تحقيق أهداف الصمود والتوازن إلى الحد الذي عجزت فيه إسرائيل عن بناء ما عُرف وقتها بخط بارليف الأول، وتعطل استكمال تحصيناته حتى أواخر عام 1971، والذي كان جاء بالأساس كحل لمجابهة عمليات القصف والإنزال خلف خطوط العدو، والتي كانت إحدى ركائز القاهرة في إدارتها لحرب الاستنزاف.
حرب الاستنزاف والتحضير لاستعادة المبادرة والردع
على الرغم من استئناف مصر للقتال في اعقاب الانسحاب عبر اعمال فدائية ونوعية ( معركة راس العش، إغراق المدمرة إيلات إلخ) بخلاف القصف المدفعي شبه اليومي، إلا أنهُ في الصورة العامة لم يكن ذلك يكفي لاستعادة توازن ردع سريعًا بخلاف ما كان عليه قبل الخامس من يونيو، حيث فقدان الردع على الضفة الشرقية للقناة وبقاء سماء القاهرة مفتوحة أمام طائرات الفانتوم الإسرائيلية، التي عبرت عن التفوق النوعي والكمي والتقني الأميركي، ومحاولة إسرائيل بلورة معادلة ردع جديده مفادها استهداف العمق المصري من اجل وقف الاستنزاف ع الجبهة وبناء تحصينات خط بارليف كرادع تكتيكي/استراتيجي ميداني على حد سواء.
ومن ثم، فإن قراءة معارك الاستنزاف من منظور محاولة القاهرة لاستعادة سريعة لجزء من معادلة ردع فُقدت في الخامس من يونيو قد لا تكون دقيقة في إطار استراتيجية تهدف لتحرير سيناء كما حدث، وليس إبقاء الوضع كما هو عليه انتظارًا لحل سياسي أميركي-روسي على غرار ما حدث في حرب 1956، وهو ما كان يميل له القادة الإسرائيليين حسب تصريحات ومواقف متنوعة استمرت حتى قبل أيام قليلة من معركة العبور، والتي غلب عليها الثقة المفرطة الناتجة عن الإحساس بفائض القوة والهيمنة التي خلفتها حرب الأيام الستة لديهم، ومن ثم استثمار المصريين فيها لأقصى درجة كأحد مكونات استراتيجية المفاجأة التي حدثت في أكتوبر 1973.
هذا الاستثمار أتى وفق محددات استراتيجية التحرير المصرية السابق ذكرها، وتوظيفه على مستويات مختلفة ومتفاوتة حسب متغيرات الظروف الميدانية والسياسية في الداخل والخارج الإسرائيلي، وتصوير ما يحدث على الجبهة خلال سنوات حرب الاستنزاف على أنه سقف الصراع على المدى المتوسط والبعيد، وتثبيت أن عبور قناة السويس دربًا من دروب المستحيل كما كان في مخيال الإسرائيليين، وبالتالي ركونهم وارتخاءهم لحزمة من التوهمات والتقديرات الخاطئة، التي أتت ليس من وقائع ميدانية دقيقة ترصد تطور التكتيكيات والمهارات العسكرية التي يكتسبها المصريين باطراد، ولكن من الاستغراق في تصديق دعاية ووهم الجيش الذي لا يقهر وخط بارليف الذي يصعب تخطيه كرادع ميداني إلا بقنبلة نووية، وتعزيز وحماية هذا التوهم عبر الأثر المعنوي والنفسي لأدوات إسرائيل العسكرية ممثلة في سلاح الطيران المتفوق يستطيع تكرار ضربة 5 يونيو في أي وقت كضمانة مطلقة، ناهيك عن تعزيز النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية لمسألة ضعف وجهل العرب/المصريين وشبه استحالة استيعابهم لأنماط الحروب والتكنولوجيا الحديثة، وتشكيل السابق كله المنظور شبه الوحيد الذي يرى من خلاله صانع القرار في إسرائيل لتطورات الوضع على الجبهة الجنوبية.
ووفقًا لما سبق، فإن قراءة وإدارة القادة الإسرائيليين لحرب الاستنزاف على أنها حلقة مفصولة عن مسار اجتراح معادلة ردع جديدة، واقتناع الإسرائيليين بأن دوافع استمرار القاهرة بها يأتي لحسابات سياسية داخلية وخارجية، مما يعني تاليًا ابتعاد احتمالية استعادة المبادرة والمبادأة اللازمين لاستعادة الردع مصريا وكسره إسرائيليا، قد شكلا محور المفاجأة الاستراتيجية التي حدثت في السادس من أكتوبر، سواء على مستوى القيادة من ناحية صنع واتخاذ قرار العبور وعلاقة الردع والتقنية وتأثيراتهم المعنوية كما ذكرنا سابقاً، أو على مستوى الميدان من حيث الكفاءة والتطور المهول في جهوزية الجندي المصري الذي جرى تحضيره وتجهيزه في آتون هذه الحرب على الجبهة، عكس الجندي الإسرائيلي الذي تماهى مع حالة التراخي والتهاون المستندة لتوهمات التفوق وأن جيشه لا يقهر.
شكلت هذه النقطة المتمثلة في رفع الكفاءة عبر التقنية والتكتيكات الخداعية، العمود الفقري لإضعاف فاعلية سلاح الجو الإسرائيلي في المعركة، وما استلزمه ذلك من اجتراح مسارات سياسية تُخدم على متطلبات عسكرية ميدانية مرتبطة بالتقنية، وتحديداً سلاح الدفاع الجوي ومنظومة الصواريخ السوفياتية التي جرى تركيبها بشكل إعجازي من حيث التوقيت والكفاءة والتضحيات، قبيل وعشية مبادرة روجرز الشهيرة 19 يونيو 1970، والتي أتت أميركياً بالأساس لحماية سمعة مقاتلات الفانتوم الأميركية التي باتت هدف سهل لصواريخ سام في الشرق الأوسط وفيتنام، وهو ما تلاقى مع الحاجة المصرية للتقدم بحائط الصواريخ عبر تقنية الوثبات المتتابعة نحو الشاطئ الغربي لقناة السويس، ومن ثم تفعيل تكتيكات الكمائن التي قزمت فاعلية وكذلك المدى العملياتي للطائرات الإسرائيلية، بعدما كانت تصل إلى العمق المصري.
وتعكس الدروس المستفادة التي رصدها الإسرائيليين عقب حرب أكتوبر، أهداف الجانب المصري من حرب الاستنزاف، والتي يتعلق جزء معتبر منها في مسألة استعادة المبادرة مصرياً وفقدها إسرائيليا؛ حيث اعتبار سنوات ما بعد الخامس من يونيو 67 بمثابة فترة خداع استراتيجي متعدد الاستخدامات، سواء كواجهة لإشغال وإرهاق العدو بشكل مستمر ميدانيًا استنادًا لضعفه العددي وهشاشة السيطرة على مساحات كبيرة من الأرض، أو إفقاده ميزة الهجمات الوقائية والمبادرة الاستباقية؛ حيث تحول سلاح الجو الإسرائيلي عشية السادس من أكتوبر لحالة من الدفاع وامتصاص الصدمة ومن ثم التحضر لهجوم مضاد وليس استباقي كما جرت العادة، وتراجعه كمكون رئيسي لنظرية الأمن الإسرائيلية بعد 73 وحتى الأن، حيث بات العمق الإسرائيلي ضمن مسرح عمليات أي اشتباك عسكري في السنوات الأخيرة بشكل مطرد.
ختام واستشراف
ألقت كلمة السيسي خلال ذكرى حرب أكتوبر 2018، وتكريم أسم اللواء مهندس زكي باقي، صاحب فكرة فتح ثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف بمضخات المياه، الضوء على محورية التقنية في كسر خطوط الردع الإسرائيلية المتشابكة ما بين الميداني والسياسي والشامل؛ حيث توظيف تقنيات وتكتيكات بسيطة من حيث منطقها التكنولوجي، ولكن فعالة عمليًّا في إزاحة عقبة بحجم وصعوبة الساتر الترابي وتحصينات خط بارليف، وهو ما يتواجد كنمط مكرر لدى الجيش المصري في التعاطي مع كافة العقبات/أدوات الردع الإسرائيلية التي كانت تحول دون تحقيق هدف عبور قناة السويس، واستعادة أراضي بعمق من 15 إلى 20 كم، حيث مدى فاعلية شبكة الدفاع الجوي المصرية، التي جعلت فاعلية الطيران الإسرائيلي في التصدي للهجوم المصري أو الوصول لعمق الأراضي المصرية كوسيلة ردع، قريبة من الصفر.
وبعيدًا عن المبالغة، فإن النظر الأن إلى ما حدث بعد الخامس من يونيو وحتى السادس من أكتوبر قد يكون نصرًا إعجازيًّا، إذا ما تم قياسه وفق الظروف الذاتية والموضوعية وقتها، وكذلك مشهد السياسة الدولية التي لم يكن احتلال سيناء ذا أهمية بالنسبة للقوى الكبرى -اللهم مناخ التنافس العسكري المصاحب للحرب الباردة- إذا ما قورن بحرب فيتنام مثلاً، والفارق الكبير في الإمكانيات العسكرية والتكنولوجية الذي كان يصب في مصلحة إسرائيل، ناهيك عن امتلاكها للسلاح النووي كرادع شامل، إلا أن ذلك لم يمنع نجاح مصر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المتنوعة.
يتكثف هذا -فيما يتعلق بالردع- خلال ما يربو عن 6 سنوات في عدم السماح لإسرائيل بفرض أمر واقع جغرافي جديد عبر احتلال أراضي سيناء، وتحصين ذلك الواقع بتوازن ردع يجعل القاهرة تتفاوض من موقع أدنى للقبول به، وإنما على العكس؛ حيث إدراك إسرائيل العميق وقتها أن وجودها واستمرارها قد يكون ضريبة للصدام العسكري مع مصر، وأن ما حدث في 1973 ليس استثناءً ولكنه قاعدة، طُبقت بأوجه ودرجات متفاوتة على مدار سلسلة إخفاقات إسرائيل العسكرية والأمنية حتى الأن، والذي يعني في صورته الكبيرة أن إسرائيل بكل ما لديها من قوة عسكرية وتكنولوجية هي عماد استراتيجيتها الأمنية وأهم أدوات الردع لديها، لا تستطيع تحقيق انتصار عسكري حاسم يؤمن لها حدود آمنة، خاصة إذا ما كان الخصم يمتلك أدوات ردع مقابل وظيفتها تعطيل أدوات الردع الإسرائيلية، مهما بلغت بساطتها من ناحية التقنية (مضخات المياه، الصواريخ والمُسيرات البدائية والأنفاق.. إلخ).
ويعطي السابق دلالات هامة في إطار فهم أزمة/معضلة إسرائيل المزمنة، والمتعلقة بالردع ومركزيته في عقيدة/نظرية الأمن الإسرائيلية، التي باتت تواجه تحديات مركبة لا تتجلى فقط بالمستويين العسكري والأمني، بل بالاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فسواء كان الأمر متعلق بمستقبل خطوط الطاقة والملاحة في المنطقة، أو حادثة هروب من أحد السجون، فإن قصور استجابة النخب الإسرائيلية لهذه التحديات بشكل ذاتي، ونمط اعتمادهم بشكل كامل على العلاقة الاستثنائية بين تل أبيب وواشنطن التي تعيد تموضع أشكال تواجدها في المنطقة والعالم، يشير إلى أن هذه المعضلة التي ترجع جذور تكونها للسنوات ما بين 1967 و1973، لن تُحل في المستقبل مهما امتلكت إسرائيل من أدوات ردع عسكرية وتقنية.
مصادر ومراجع:
- ديفيد جارنم، مستلزمات الردع، مفاتيح التحكم بسلوك الخصم، الإمارات،1995.
- الصراع العربي الإسرائيلي بين الرادع التقليدي والرادع النووي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1987.
- الفريق أول محمد فوزي، حرب الثلاث سنوات 1967: 1970، القاهرة، 1984.
- لواء أ.ح كمال أبو العزايم، المفاجأة التكنولوجية المصرية في حرب أكتوبر، 1987.
- صلاح علي راشد، جدار الصواريخ العظيم/ذكريات مقاتل في حرب الاستنزاف 1968: 1970، بيروت، 1988.
- ليدل هارت، الاستراتيجية وتاريخها في العالم، ت هيثم الأيوبي، بيروت، 1967.
- زئيف شيف، زلزال في أكتوبر، ت جواد الجعبري، القدس، 1975.
- يشيعا هوبن فورات، التقصير، بيروت، 1974.
- تقرير أغرانات، نشر مركز الدراسات الفلسطينية، 1974.
- محمد حسنين هيكل، الطريق إلى رمضان، لندن، 1975.
- حاييم بارليف / آرائيل شارون، حرب يوم كيبور، ت مركز الدراسات الفلسطينية، 1978
- الفريق سعد الدين الشاذلي، حرب أكتوبر، باريس،1980.
- The strategic and political consequences of the June 1967 war
- ‘Last Secret’ of 1967 War: Israel’s Doomsday Plan for Nuclear display
- No matter how powerful Israel’s military becomes, it still can’t win
- THE SIX DAY WAR AND THE NUCLEAR COUP THAT NEVER WAS
- The Notion of a “Pre-Emptive War:” the Six Day War Revisited
- Rethinking the Six Day War: An Analysis of Counterfactual Explanations
- Six Days, Fifty Years: The June 1967 War and its Aftermath
- Israeli Deterrence in the 21st Century
- The Diminishing Israeli Deterrent
- استراتيجية الردع… ممارسة القوة بأدوات أخرى
- محددات نظرية الأمن الإسرائيلية
- ثورة لا تتحقق: ما هي حدود قدرة التكنولوجيا على تغيير طبيعة الحرب؟
- نظرية الأمن الصهيونية
- نظرية الأمن القومي الإسرائيلي: “الردع الإستراتيجي” في تحديث عقيدة القوة والتفوق
- حرب الجنود: كيف نفسر التغير النوعي في الكفاءة العسكرية المصرية في حرب أكتوبر؟
- هزيمة يونيو المستمرة (١٢): السردية الإسرائيلية
- كابوس إسرائيل الأسوأ.. حرب متعددة الجبهات الصاروخية
- بيرنز للإسرائيليين: تصرّفوا مع ضبط النفس.. البديل أسوأ!
- مفهوم القوة الشاملة للدولة وأساليب قياسها
- نظرية الردع «الإسرائيلي» تتبدّد
- حجر داوود: التقنية الرخيصة والثورة المضادة في الشؤون العسكرية