كان الحجر الذي التقطه داوود وأسقط به جالوت أرضًا رمزًا لقدرة القوى الأضعف على مجابهة القدرات الفائقة للجيوش الكبرى. حاليًا أصبح هذا الحجر تقنيات رخيصة قادرة على تحييد التفوق التقنـي الذي أصبح محور ما يعرف ب”الثورة في الشؤون العسكرية”. لقد برز هذا المصطلح في أعقاب الحرب الباردة، وتضمنت الافتراضات الرئيسة لهذا التيار أن الحروب مرهونة ب”التقنية” لا “السياسة”، أو على الأقل المزيد من التقنيات القادرة على تغيير موازين القوى لا الغايات السياسية التـي تحدد لماذا وبماذا وكيف نقاتل. وكانت للمواجهات السريعة التـي خاضتها الجيوش الغربية والأمريكية ضد الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية ٩٩١، ثم قوات الناتو في البلقان ١٩٩٥-١٩٩٨، تصديقًا على تحقق هذه الثورة. أما الكارثة التـي لحقت بالقوات الأمريكية في مقديشيو ١٩٩٣، فلم تكن، في نظر دعاة هذه الثورة، إلا استثناء على القاعدة.
اتضح بعد الانتصار السريع الذي حققته القوات الأمريكية في أفغانستان ٢٠٠١ ثم في العراق ٢٠٠٣، أن ثمة انحسار في موجة التفوق العسكري الغربي، مع غرق البلدين في فوضـى الاحتراب الأهلي والإرهاب والتمردات المسلحة. تشكلت في خضم هاتين الحرب ما يعرف بالثورة المضادة في الشؤون العسكرية أو الاستراتيجية. على عكس من الثورة الأصلية، لا تقف هذه الثورة المضادة على قاعدة التقنية فقط، بل إن لها أدوات من تقنيات رخيصة واستراتيجيات حروب هجينة غير نظامية وبروباغندا وغيرها من أدوات قادرة على تحييد التأثير العميق لتقنيات الثورة العسكرية- التقنية.
في سنوات بين الحربين العالميتين (١٩١٩-١٩٣٩)، استثمرت الدول الكبرى بشكل كبير في البارجات الحربية. إلا أنه مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تحولت هذه البوارج والسفن الحربية الضخمة إلى هدف سهل للطائرات التـي كانت تحبو في بداية عقودها، والأرخص نسبيًّا في تكلفتها. لم يكن الاستثمار في تصنيع وتطوير البوارج الحربية خاطئًا، إلا أن التركيز عليها افتقد مدى التغير الذي حدث في طرق القتال. أما حركات التحرر الوطنـي، فلم يتملك أي منها أية أسلحة أكثر تطورًا من جيوش الاحتلال الغربي. ومع هذه الحروب، خاصة في حرب فييتنام، أصبح للبندقية “كلاشينكوف” أو AK-47 سمعة فائقة باعتبارها سلاح التحرر الأرخص، والذي استطاع تحييد قوة السلاح الغربي.
أثبتت الحركات الإرهابية أن التوحش وعمليات التفجير والانتحار والتفخيخ يمكن أن تحجم من تأثير وسيطرة التكنولوجيا. عوامل عقدية قد تجعل من الإرهابي أكثر شجاعة وعزمًا من الجندي. كان لأجهزة التفجير المصنعة يدويًا والعمليات الانتحارية دور كبير في الحد من التقنيات. وعملت بقوة على المستوى الروحي والشعوري والعملي، كما أنها وفرت دعاية رخيصة للجماعات الإرهابية. العقليات العلمانية التـي تدير الحرب على الإرهاب ما زالت مقتنعة بالحلول التقنية لكل مشكلة، وغالبًا ما تقع في فخ التفسير المبسط الذي يؤكد أن الوضع الاقتصادي هو السبب الرئيس للعنف على نحو يهمش عوامل نفسية وعقدية أخرى. على سبيل المثال، على الرغم من أن الحرب على الإرهاب لم تكن حربًا ضد الإسلام، إلا أن الجماعات المتطرفة لديها اعتقاد راسخ أنها في حرب دينية مع الجيوش الغربية.
إن الجماعات من غير الدول التـي تهيمن على معظم الصراعات الجارية في العالم لا تقاتل قوات الأمن الوطني من خلال هجوم منظم بل في شكل هجمات عنقودية، وغالبًا ما تهاجم نقاط الضعف في بنية الهيكل الأمنـي للدول، أو الجيوش المستهدفة، وكذلك النقاط الرخوة في المجتمعات. وبالتالي، هذه الجماعات لا تعوم وسط المجتمع كما كان ماو تسـي تونغ يشير إلى حرب العصابات، بل أصبحوا يستخدمون الجماعات المحلية كسلاح لا تجدي معه الوسائل التقنية، من خلال الدروع البشرية أو التفجير أو حتى كبناء قاعدة اجتماعية. بل إن هذه الجماعات تستخدم “الضحايا” التـي تسقطها الأسلحة الأكثر تطورًا كمواد دعائية ضد الجيوش الوطنية أو المحتلة.
المثال الأبرز على ذلك المواجهات المتكررة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة. لقد تمكنت إسرائيل من تطوير منظومة التحكم والقيادة والحوسبة والاتصال والاستخبارات كي تقلل حجم الضحايا البشرية من سكان القطاع، إلا أن حركة حماس استطاعت التأكيد على سردية المقاومة والقدرة على تحمل “الخسائر الجانبية” في السكان والبنية التحتية لتحقيق غاية الصمود في مواجهة العدوان. لقد كانت حرب غزة الأخيرة (مايو ٢٠٢١) تجسيدًا لهذا الاتجاه المستمر من قدرة الأسلحة الأرخص على إلحاق أضرار بالغة بتلك المتطورة في إطار استراتيجي وسكاني معين. يشير أنتوني كوردسمان إلى أن هذه الاستراتيجية القائمة على “الدعاية-السكان” في مواجهة “التقنية” تمثل الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية. ومن شأن هذا التطور أن يعيد صياغة قوانين الحرب بحيث يصبح هدف الدول هو نزع سلاح “الدعاية” و”السكان” من يد الجماعات من غير الدول.
التقنية للجميع: الثورة النافية لذاتها
تعتمد أغلب تقنيات الثورة في الشؤون العسكرية على عوامل تقنية لا يمكن احتكارها لفترة طويلة من الزمن. تبدأ التقنيات المختلفة في دوائر محدودة حيث يتم تداولها بناء على احتفاظ الجهة المبكرة بحقوق الاختراع لفترة، إلا أن مصير تقنيات الانتشار حيث تصبح أرخص سواء مع بيع حقوق الملكية أو إمكانية التقليد عبر الهندسة العكسية. وفي عالم الاتصالات والتقنيات الرقمية، يخضع انتشار التقنيات لما يعرف بقانون مورس؛ فمع زيادة الناقلات على الرقاقات تصبح أقل تكلفة وأوسع انتشارًا. ينطبق الأمر نفسه على التقنيات العسكرية؛ شبكة الإنترنت بدأت هكذا من دوائر مغلقة داخل الجيش الأمريكي، والأمر نفسه سيشكل مستقبل التقنيات “الثورية” التـي يرى أنصار الحتمية التنقية من العسكريين إنها تؤسس لنقاط قوة لا يمكن مضاهاتها.بما يعنـي انتشار هذه التقنيات ورخصها إلغاء الميزات النسبية التـي توفرها. الأمر نفسه يمكن مراقبته مع التقنيات التالية:
- الطوابع ثلاثية الأبعاد: أو ما يعرف بالتصنيع الإضافي Additive Manufacturing والذي يمكن القوات المقاتلة من إعادة تصنيع أية مواد عسكرية أو لوجستية ببرامج حاسوبية وبسرعة فائقة. بدأ استخدام هذه الطوابع على نطاق ضيق، إلا أنها دخلت في مرحلة التصنيع الكبيرة، وأصبحت تقنياتها متاحة وسهلة خاصة مع عدم وجود فواقد في المواد المعاد إنتاجها أو تشكيلها. حاليًا، أصبح من السهل بناء أدوات من خام التيتانيوم، أو البرونز أو النيكل، وغيرها من خلال هذه التقنية بدلاً من الاعتماد على خطوط إنتاج كبيرة. وبالتالي، يسهل مثلاً على الجماعات من غير الدول الحصول بسهولة على بعض المواد اللازمة لعملياتها العسكرية.
- الطائرات بدون طيار: وقد بدأت كنقلة هائلة استغرق البعض وقت طويل لاستيعابها، إلا أنها أصبحت الآن سهلة التصنيع والتوجيه، وازدادت معدلات الدقة التـي تقوم بها بعمليات الاستطلاع أو المراقبة أو الهجوم. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت أكثر موضات الصراعات القائمة انتشارًا. بل إن الأمر تجاوز احتكار الجيوش والمقاتلين ليكون لها تطبيقات مدنية وفنية وتجارية.
- الذكاء الاصطناعي: قد تكون نظم الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الكبرى من خلال الخوارزميات ما زالت تحتاج بنية تحتية رقمية كبيرة، إلا أن التطبيقات البسيطة ما زالت في متناول الجميع، بعضها بسيط وتفيد منه الطائرات المسيرة مثل نظم التموضع العالمي GBS وغيره.
- النانو تكنولوجي: وهو حقل يشهد تطورات كبيرة خاصة في البحث عن المواد القابلة لتوليد طاقة غير مركزية أو المواد القابلة للانفجار. بدأت التجارب على الأخيرة مع بداية الألفية، وأثبتت مثل هذه المواد قدرتها على توليد قوة انفجار كبير يفوق المواد المعتادة مثل البارود أو TNT ضعفين. وتوصل باحثون في جامعة كاليفورنيا- سان دييجو إلى إمكانية تفجير مواد غير معدنية او استخدامها لمغافلة موجات الرادار. مثل هذه التقنيات قد تجعلها موضع سباق بين الدول والجيوش التـي تسعى إلى تحسين مصادر تخزين الطاقة والمتفجرات.
نزع أسلحة الثورة التقنية
سرعان ما حاول خصوم الولايات المتحدة من الدول؛ خاصة روسيا والصين نزع المميزات الممكنة “للثورات التقنية”؛ وذلك من خلال استهداف نقاط الضعف في “الشبكات الاتصالية المركزية”. كان هذا بعمليات أرخص مثل حملات التضليل الإعلامي والبروباغندا والتلاعب بالبيانات، وابتكار تقنيات حشد للإشارات الإلكترو-مغناطيسية بحيث لا تتمكن أجهزة التحليل والمعالجة التعامل معها، والتشويش على الأقمار الصناعية وغيرها. خلقت هذه الحالة ما يمكن أن يطلق عليه معضلة “الإمكانية/ الضعف” بمعنـى امتلاك القوة العظمى لقدرات تقنية ضخمة لكنها قد تكون مصدر ضعف لها بسبب أعباء إدارتها. على سبيل المثال، تغطي شبكة الاتصالات العسكرية الأمريكية كوكب الأرض تقريبًا وهو ما يجعلها قادرة رصد كل حركة ممكن على الكوكب. إلا أن هذه الشبكة الضخمة لن تكون ذات فائدة في حال قررت الصين مثلاً تنظيم هجوم “إشاري” على البنية التحتية لهذه الشبكة في مناطق مثل تايوان أو بحر الصين الجنوبي الأقرب إليها جغرافيًّا. الأمر نفسه ينطبق على هجمات إشارية أو سيبرانية قد تقوم بها قوة أقل قدرة مثل إيران، في الخليج أو المشرق، أو كوريا الشمالية في شرقي آسيا.
يعنـي هذا أنه من الضروري تجاوز مفهوم “الحتمية التقنية” التـي تقود التركيز على اكتساب ومضاعفة التكنولوجية ضد مراعاة لعوامل المرونة تجاه “التهديدات” و”التهديدات المضادة” و”التكيف”، ويمكن أن يتحقق هذا من خلال تفعيل المبادئ التالية عند التفكير في عمليات “البحث والتطوير” العسكرية:
- الاتجاه نحو الهياكل اللامركزية: في حالة تحول الهياكل الاتصالية أو عمليات التحكم والقيادة إلى عبء بسبب اتساع أو ضخامة نطاق العمليات، يمكن أن تتجه الجيوش إلى “شبكات لامركزية” وأكثر استقلالية وقدرة على التعامل المباشر مع التهديدات أو البيانات بحيث تبنـي آليات دفاعية أمام عمليات المقاومة أو الاختراق.
- ترشيد التكاليف: سيكون من الضروري دائمًا الإنفاق حفاظًا على “توازن القوى” بين الدول خاصة في المناطق غير المستقرة مثل الشرق الأوسط أو جنوب آسيا. إلا أنه من الضروري أيضًا مراجعة الاعتقاد الفائل أن بناء الأسلحة باهظة التكاليف مثل “F-35” سيضمن مزيدًا من التفوق العسكري. تقول بعض التقديرات إن وجود مثل هذه الأسلحة يدفع المخططين العسكريين إلى بناء خطط الحرب على هدف الحفاظ على هذه الأسلحة بدلاً من التركيز على تحقيق أهداف استراتيجية أبعد مثل السيطرة على أرض ما أو دفع الخصم نحو تقديم مزيد من التنازلات. ويعود إلى صانع القرار السياسـي تحديد أولويات الإنفاق العسكري خاصة عندما يتعلق الأمر بالمفاضلة بين شراء مزيد من التقنيات أو تقديم التدريب والتعليم العسكري الكافي لمختلف التسلسل القيادي.
- إعادة تعريف النصر العسكري: منذ القدم، كان يتم تعريف النصر العسكري بمدى خضوع الخصم أو خسارته “في لعبة الإرادات” التـي تحدد قواعدها الحرب والقوة العسكرية. بنت “الثورة التقنية- العسكرية” تصورًا مختلفًا عن النصر الذي أصبح يرتكز على القوة التدميرية lethality التـي تخلقها الأسلحة الأشد فتكًا، وهو ما يختلف بالطبع عن التدمير الفائق الذي قد تتسبب فيه الأسلحة النووية الاستراتيجية. جعل هذا تصور العسكريين عن الحرب أنها أقرب إلى ألعاب الفيديو، أو أنها عملية تدمير محض منزوع السياسة. تحتاج الجيوش حاليًا إعادة النظر في مفهوم الانتصار التقليدي باعتباره الأكثر رسوخًا. وبالتالي، ستتحدد كفاءة وذكاء الأسلحة بمدى قدرتها على تغيير وجهة نظر العدو أو إخضاعه بغض النظر عن التدمير الذي يلحق به.
- بناء فرق الحرب غير الاعتيادية: قد يكون أيضًا من المفيد للجيوش الحديثة أن تفيد من الحرب في العالم الكلاسيكي. لقرون سيطر الرومان على العالم المعروف لهم من خلال القوة النظامية الضاربة للفيالق Legions المكونة من مواطنين وجنود نظاميين. إلا أنهم أيضًا طوروًا فرق “الاحتياط” Auxiliaries من غير المواطنين، الأقل تنظيمًا إلا أنهم أكثر قدرة على التعامل مع الأوضاع غير المستقرة في الولايات البعيدة عن روما. مع تزايد الاضطرابات في الولايات أصبح الاحتياط هم القوة الأكبر في الجيش الروماني. حاليًا، تدرك القوى الصاعدة إن الجيوش النظامية وحدها ليست التعبير الوحيد عن القوة العسكرية، فهناك مساحة لقوات أخرى أكثر قدرة على استيعاب ضرورات الحروب غير النظامية والتعامل مع مخاطر الإرهاب أو التمرد المسلح أو حتى الجريمة المنظمة. لقد بنت إيران شبكة نفوذها في الشرق الأوسط على قوات غير نظامية وشبكة من المليشيات المحلية. وأظهرت حرب القرم الروسية الأخيرة قدرة موسكو على تطويع مثل هذه القوات، في حين جعلت الصين من قوات حرس الحدود البحرية قوة حرب غير نظامية قادرة على زعزعة استقرار بحر الصين الجنوبي.
إلا أن تجاوز “وهج التكنولوجيا” الذي يتوافق مع حاجة الدول الماسة إلى إثبات “الهيبة” و”التفوق” لن يكون يسيرًا إذ أنه بحاجة إلى طرق تفكير تتجاوز التزام الجيوش بالتراتبية والكتيبات الإرشادية والتسلسل القيادي. حتى الولايات المتحدة ليست بعيدة عن هذا التحدي. فعلى الرغم من أن استراتيجية الأمن القومي التـي تمت مراجعتها عام ٢٠١٨ تنص على ضرورة الاستجابة للتغيرات الطارئة والطبيعة المتغيرة للحرب، إلا أنها ما زالت حبيسة للاعتقاد بوجود ثورة تقنية في الشؤون العسكرية حيث تحدوها غاية الإبقاء على التفوق العسكري- التكنولوجي لواشنطن أمام خصومها من الدول.