أضحت الحاجة إلى معرفة الصورة التـى سيكون عليها العالم، والنظام الدولي على وجه التحديد، أكثر إلحاحًا في الفترة الأخيرة بفعل زيادة مساحة اللا يقين الناتجة عن اندلاع وباء الكورونا. لا يسعى هذا المقال إلى بناء أية تصورات حول مستقبل النظام الدولي، أو ما الذي ستسفر عنه تلك التحولات المستمرة، فهي مهمة تنوء بأمهر الباحثين، وتتطلب جهدًا جماعيًا، وقدرة على التخيل والتشكك فيما هو سائد من نظريات وخبرات لا تؤدي إلى خلق المستقبل على صورة الحاضر، أو ربما الماضـى وهو المسار الأسوأ. يدّعي كاتب هذه السطور أن المبادئ التـى يقوم عليها حقل “الدراسات المستقبلية” أو “الاستشراف الاستراتيجي” يمكن أن تساعد الباحثين العرب بالخصوص على تعميق فهمهم لتحولات العالم بشكل أفضل؛ ومن ثم بناء تصورات أكثر أصالة ونقدية وتركيبًا مما تحمله العناوين البراقة التـى تؤكد أن عالم الغد ليس كعالم الأمن. والنفي الكامن في “ليس” هذه يحمل كثيرًا من اليقين غير المحمود.
عالم يزداد تعقيده ويتعقد فهمه
يعبر مصطلح “ڤوكا VUCA” الذي صكته وزارة الدفاع الأمريكية منذ التسعينيات عن تحول العالم إلى وضع أكثر تطايرًا Volatile، وغير يقينـي UnCertain، وتعقيدًا Complex، وغموضًا Ambiguous. وهي الأوضاع التـي تجعل الحديث عن المستقبل، سواء مستقبل العالم، أو النظام الدولي الذي يمر بمخاص طويل منذ تداعي لحظات الهيمنة الأمريكية القصيرة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيياتي وانتهاء الحرب الباردة (١٩٩١). تمثل هذا المخاض في أزمات متعاقبة ومتداخلة قوامها انهيار اقتصادي، وتصدع في النموذج الليبرالي والرأسمالي سياسيًّا واقتصاديًّا، وصعود القوى غير الغربية، روسيا والصين والهند وغيرها، وتصاعد تأثير السياسات الإثنية، وكذلك عجز آليات التنظيم الدولي عن علاج الأزمات والمخاطر العابرة للحدود وعلى رأسها قضايا الهجرة واللاجئين التـي تهدد وجود كيان مثل الاتحاد الأوروبي بفعل تأثير اليمين القومي الذي يقوض هيمنة النموذج الليبرالي، وأخيرًا عودة الجوائح العالمية متمثلة في وباء الكورونا.
وعلى الرغم من تسليم معظم الباحثين في حقل البحث السياسـي، عامة وفي العلاقات الدولية خاصة، بشيوع اللا يقين والتضارب والتعقيد، وغيرها من مكونات “الحالة ما بعد العادية”، إلا أن تناول ظواهر التحول في شؤون العالم لا زال خاضعًا في كثير من الأحوال للطرق السائدة في التفكير، والتـي دائمًا ما يسبقها الواقع، وهو ما ينتج صدمة تتمثل في عدم قدرة العلم على التكيف أو تفسير التحول،وبالتالي القصور في تحسين عملية صناعة السياسات. ولا يمكن القول إن هذا القصور موجود فقط في الدوائر البحثية العربية وحدها، فالمتابع للدوائر الأكاديمية، والبحثية الغربية الرصينة، يدرك أن هذا القصور شائع وإن اختلفت أسبابه مع الفارق الهائل فيما حجم الإنتاج العلمي وجدية وتنوع الأطروحات الغربية واتسامها بالأصالة والوضوح في مواقفها السياسية. وبشكل عام، يمكن تفسير القصور المعرفي في التعامل مع “التغير والتحول” بالتركيز على آليات التغير في موازين القوى على حساب العوامل الأخرى البيئية والتكنولوجية والثقافية، وسيادة النزعة الاختزالية التـي تقلل من أثر كل ما لا يمكن قياسه بدقة من ظواهر، وغياب البعد التاريخي في التعامل مع تحولات الواقع، واستعادة تجارب تاريخية بعينها دون النظر إلى إمكانية حدوث مسارات متباينة، وميل الباحثين لأسباب مصلحية وثقافية إلى تبرير الأوضاع القائمة، ونضوب الخيال السياسـي اللازم لتصور تحولات جذرية تتناقض مع ما هو سائد من نظريات وأفكار وسرديات واعية أو غير واعية. وكذلك الميل إلى التفسيرات السببية الخطية، مع عدم وجود نماذج كافية للإحاطة بتعقد الظواهر الجديدة والشائعة على السواء.
ما الاستشراف الاستراتيجي؟ وماهي مبادؤه؟
يظن البعض أن قصور أدوات البحث يتجسد في عدم قدرة مجتمع الباحثين على “التنبؤ” بالظواهر الجديدة، أو بالتحول. إلا أن التنبؤ، وإن كان جزءًا، من تعريف النظرية باعتبارها قانونًا عامًا، ليس الوظيفة الأهم للبحث. فالمطلوب من الباحثين هو استكشاف العالم ومحاولة تفسيره على نحو يظهر القدرة على فهم تركيب وتعقيد ظواهره، وبالتالي، يصبح من الضروري التخلي عن الجمود النظري أو الانغلاق الأيديولوجي. لذا فالمتوقع من البحث هو المرونة في التعامل مع التغير، والانفتاح على المسارات المتبانية خاصة تلك غير المتوقعة للظواهر. أو فلنفكر فيما لا يمكن التفكير فيه (Thinking about the Unthinkable).
كان هذا هو المبدأ الذي تأسست عليه الدراسات المستقبلية في الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، خاصة مع تطور منهج بناء السيناريوهات على يد هيرمان كان (١٩٢٢-١٩٨٣)، الذي كان مشغولاً بالاحتمالات غير الواردة لقيام حرب نووية بين القوتيين العظميين. ومن بعده، تتطور الحقل في اتجاهات كثيرة، تنموية وتعليمية واقتصادية، تحت عناوين عديدة. وكان أهم إسهاماته إلى الآن هو الكم الهائل من المناهج والاقترابات والأدوات البحثية التـي تحاول التفكير في بدائل مستقبلية.
تمثل الدراسات المستقبلية بحثًا في المستقبلات البديلة، ويقع هذا البحث في مساحة بين العلم المنضب الملتزم بالمنهج، والتأمل الفنـي القائم على الخيال. ويمكن تعريف هذا الحقل الذي تتعدد تعريفاته ومسمياته ما بين الدراسات المستقبلية، والمستقبليات، وعلم المستقبل، والاستشراف الاستراتيجي بأنه “ذلك الاستكشاف المنظم والمتداخل بين التخصصات، وبعيد المدى والكلي للمسارات والبدائل المختلفة لمستقبل ظاهرة ما.” ويقوم هذا الاستشكاف على عدة مبادئ، هي أن:
- المستقبل ليس حتميًا أو مقدرًا: بل هو مساحة للفعل البشري. فالمجتمعات قادرة على تحديد مستقبلها، إن امتلكت الإرادة والرؤية اللازمة لتحقيق ذلك. يقول ضياء الدين ساردار: “المهم أن ندرك آن مستقبلنا ليس مقدرًا ولا محددًا سلفًا، ولا منقوشًا على حجر، كما كانت توحي التنبؤات، بل هو أقرب لوح طين يمكننا تشكيله وصوغه وفقًا لقيمنا واحتياجاتنا.” على أن هذه القدرة ليست مطلقة، بل هي محددة أيضًا بمعطيات الواقع التـى ستظل مؤثرة في صورة المستقبل.
- المستقبل ليس موضوع الدراسات المستقبلية: فمن ناحية لا يتعامل هذا الحقل مع المستقبل كمفهوم مجرد، فهذا مبحث للفلسفة، وربما لفلسفة العلوم، كما أنه من المستحيل دراسة المستقبل كموضوع، فهو لا يتحقق، وكلما وصلنا إليه أضحى حاضرًا، لذا يوصف المستقبل بأنه حاضر ممتد. والغاية الأساسية من بناء تصورات مختلفة عن هذا الحاضر الممتد هو إحداث تغيير في الواقع، أو في ظاهرة محددة، سواء كنا نتحدث عن النظام الدولي أو الأمن الإقليمي أو السياسة الخارجية لبلد ما أو نبحث المسارات المحتملة للنظام التعليمي أو مستقبل الذكاء الاصطناعي أو ربما صناعة السينما.
تتصور الدراسات المستقبلية المستقبل باعتباره نطاقًا مركبًا، وفقًا لتأثير الفعل والمعرفة البشرية، من ثلاثة فضاءات هي:- المستقبلات الممكنة: وهي الدائرة الأوسع التـي يعرف عنها البشر قليلاً، وبإمكانهم التأثير فيها بشكل أوسع.
- المستقبلات المحتملة: وهي الدائرة الأضيق التـي يعرفه عنها البشر الكثير، ولهم تأثير قليل فيها. وبالطبع تتراوح درجة التأثير على حسب موقع كل جماعة في بنية القوة الاقتصادية والسياسية.
- المستقبلات المرغوبة: وهي موضع الرؤى والطموحات في عالم أفضل أو أكثر عدالة وتوازنًا أو سيادة.
- المستقبل ليس واحدًا: يسود في أدبيات الحقل مصطلح “استعمار المستقبل” وهو إشارة إلى أن التصورات السائدة عن المستقبل تنتمي إلى “الحضارة الغربية” بالأساس، أو أنها مازالت تعبيرًا عن “المركزية الغربية”، سواء كنا نتحدث عن شكل النظام الدولي، أو شكل المدن المستقبلية. وعلى الرغم من قوة هذه التصورات، إلا أن تقبلها بدون تشكيك، ينفي وربما يهمش في أحسن الأحوال، حقيقة أن لكل مجتمع تصوره الخاص عن المستقبل. فحتـى لو أصبحت الصيين هي القوة العظمى المهيمنة، فليس بالضرورة أن تكون الولايات المتحدة هي مستقبلها، فقد تأخذ مسارًا مختلفًا. وهكذا يتعدد شكل المستقبل بتعدد المسارات المختلفة التـي يتخذها كل مجتمع.
- الدراسات المستقبلية مرتكزة على الحركة: فعلى العكس من العلوم الإنسانية والاجتماعية التـي تسعى إلى تفسير العالم، تحاول دراسات الاستشراف تغير نمط التعامل مع الظواهر التـي تدرسها من خلال التوصل إلي نقاط حركة وسياسات أو خلق محفزات للتغير على المدى البعيد Catalyst for Change.
كيف يساعدنا الاستشراف على فهم تحولات العالم؟
على مدار تاريخه، حظي حقل الدراسات المستقبلية بوجود العديد من المدارس التـي تعبر عن توجهات مختلفة؛ الوضعية الإمبريقية، والنقدية ما بعد الحداثية والثقافية والتشاركية، وغيرها مما يعبر عن اقترابات مختلفة في التعامل مع سؤال المستقبل، بإحداث تحول جذري أو بدعم مصالح الدول والشركات الأكثر تأثيرًا. وقدمت هذه المدارس العديد من النظريات والأساليب التـي تحاول إضفاء معنـى على العالم المتغير وتسعى إلى التأثير فيه، وبالتالي استيعاب تعقد وتشابك ظواهره. تجيب نظرية أعمدة المستقبل الستة لكل من “سهيل عناية الله وجيم داتور” عن الأليات التـي تعمل بها الدراسات المستقبلية لتحقيق هاتين الغايتين. فكيف يمكن أن يعمل الاستشراف في عالمنا؟!
- بناء الخرائط الزمانية Mapping: وذلك بتشريح المسارات الماضية والحاضرة والمستقبلية للظاهرة واستكشاف الدورات التاريخية المماثلة؛ أي بناء السياق التاريخي للظاهرة، وكذلك بناء التاريخ المشترك حولها. على سبيل المثال، يستدعي استشكاف دور وباء فيروس الكورونا في إحداث تحول عالمي استقراء دور الأوبئة العالمية السابقة، مثل وباء الإنفلونزا الإسبانية (١٩١٨- ١٩٢٠) أو وباء جستنيان في القرن السادس أو وباء الموت الأسود في القرن الرابع عشر، وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكذلك حدود هذا الدور في علاقة الوباء بتغيرات أخرى بيئية أو اقتصادية أو سياسية. ويستدعي ذلك، استكشاف الخبرات المختلفة في التعامل مع هذه التداعيات، بما يحسن نمط التصور العالمي لما هو قادم. وتساعد مناهج بناء التاريخ المشترك على استكشاف هذه الخرائط الزمانية. كما يمكن أن تساهم تحليلات البيانات الضخمة Big Data Analytics في إدماج الخبرات المتنوعة بتفاصيل دقيقة حول ظواهر بعينها.
- الاستباق Anticipating: وذلك من خلال تحليل القضايا الناشئة Emerging isues Analysis، وهي الإشارات الضعيفة التـي قد تتحول إلى مشكلات أو أزمات مستقبلية، ويطلق عليها أيضًا “الأوراق الغرائبية Wild Cards”. على سبيل المثال كانت هناك إشارات ضعيفة على إمكانية وقوع وباء عالمي بعد أن اختفاء الجوائح واسعة الانتشار عالميًا من على أجندة السياسة الدولية. وحاليًا هناك تحذيرات من إمكانية عجز أدوية المضادات الحيوية على علاج سلالات جديدة من الأمراض الشائعة، أو يسبب التغير المناخي عودة فيروسات مجمدة قد تحدث أمراضًا لم تعهدها البشرية. ويثير استخدام الذكاء الاصطناعي والأتمتة في الحياة المدنية والعسكرية تساؤلات أخلاقية مستقبلية عن إعادة تعريف المسؤولية عن الأخطاء أو عمليات القتل أو الإبادة التـي تنتج عن حسابات تقوم بها نظم التسلح غير المسيرة بشريًا. وقد تبدو بعض القضايا الناشئة أقرب إلى عالم الخيال العلمي، إلا أنها تأخذ مساحة من التفكير الحالي في شكل المستقبل، مثل إلى أي حد ستتغير الطبيعة البشرية بفعل التحسين الجينـي أو بفعل إدماج الذكاء البشري بالذكاء الاصطناعي؟ وهل ستصلح الأرض مستقبلاً في ظل التغير المناخي وتدهور الموارد إلي مكان صالح لعيش الجنس البشري؟ على مدار التاريخ كان الأدباء أسبق إلى سبر هذه التساؤلات الناتجة عن مخاوف سيطرة التقنية على الحياة البشرية وتغيير شكلها المألوف. والأن أصبحت موضع اهتمام باحثـي المستقبل وعلماء السياسة. وتقع هذه التساؤلات في دائرة اللايقين، ويقسم ضياء الدين ساردار أنواع اللايقين التـي يتعامل معها البحث المستقبلي حاليًا إلى:
– البجاع السوداء: وهي اللايقين الأشهر الذي راج ذكره مع صدور كتاب نيكولاس نسيم طالب عام ٢٠٠٧، وتعني أحداث ما كان لأحد أن يتوقعها نسبة إلى أننا نتصور عدم وجود بجعات سوداء حيث نظن أن البجع كله أبيض. حيث ساد هذا التصور بعد أحداث ١١ سبتمبر باعتبارها بجعة سوداء، ما كان لأحد قبل حدوثها أن يتوقعها، وربما كانت تداعياتها الهائلة على النظام الدولي وإقليم الشرق الأوسط خارج نطاق تفكير من خطط لتنفيذ تلك الأحداث. فلنتخيل مثلاً الآثار المترتبة بعيدة المدى الناتجة عن انهيار البنية التحتية لشبكة الإنترنت، أو الآثار المترتبة على وجود خلل “مفاجئ” و”عصي على الفهم” في الخوارزميات التـي تحرك قرارات المضاربين في البورصات. أو ربما انفجار بركاني هائل مثل بركان ثيرا الذي دمر المستوطنات اليونانية الأقدم (القرن السابع عشر قبل الميلاد)، أو البركان الآيسلندي الذي ساهم انفجاره الضخم في تدهور البيئة والزراعة بداية من القرن السادس الميلادي. وفي فترة الحرب الباردة، شاع الخوف من قيام جنرال أمريكي أو سوفيياتي بقطع الاتصال مع القيادة السياسية واتخاذ قرار مجنون بمهاجمة البلد الآخر، كما وقع في فيلم ستانلي كوبريك الساخر، دكتور سترانجلوف (١٩٦٤).
– الأفيال السوداء: نسبة إلى مجاز الفيل الذي في الغرفة، وهي الأحداث محتملة الوقوع، ويتوقعها الخبراء، لكن السياسيين أو الجمهور العام أقرب إلى إنكارها بحجج مختلفة. لقد كان وقوع انتفاضات شعبية في العديد من البلدان العربية قبل العام ٢٠١٠، أو وقوع وباء قبل العام ٢٠١٩، وبدايات العام الحالي نماذج لتلك الأفيال السوداء، مع وجود العديد من التقارير الاستخباراتية والتقديرات السياسية التـي تذهب لتأكيد وقوع هذه الاضطرابات واسعة التأثير. حاليًا، قد يمثل التحذير من وقوع تباطؤ طويل المدى نسبيًّا في النظام الاقتصادي الدولي، أو ظهور نتائج عكسية أو غير مرغوبة لتكنولوجيا الذكاء الصناعي، أو إمكانية عودة الحركات الإرهابية، أو انهيار النظام المالي الدولي، أو وقوع حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، بمثابة أمثلة شائعة حاليًا علي تلك الأفيال السوداء. وفي السبعينيات، مع صدور أول تقرير في عهد الرئيس الأمريكي جونسون عام ١٩٦٥ عن زيادة نسبة الكربون في المناخ، كان الاحتباس الحراري بمثابة فيل أسود، كان عليه أن يتضخم خلال نصف القرن التالي حتـى يدرك معظم المراقبين مخاطره، عدا من ينكرون وجوده حتـى الآن.
– القناديل السوداء: وهي المعلومات المجهولة، التـي تتطلب جهدًا ومعرفة بالنظم المعقدة للحياة البشرية على الأرض، حتـى ندرك تأثيرها. ويعود مجازها إلى التأثير المركب للتغير المناخي الذي يؤدي إلى زيادة حموضة مياه المحيطات، وبالتالي خلق البيئة المناسبة لنمو القناديل التـي يؤدي تكاثرها إلى وجود خلل في النظام الغذائي البحري، وربما تعطيل المحطات النووية والقواعد العسكرية المتنقلة. قليل منا سيفكر في تأثير تلك الكائنات الصغيرة على الحد من حرية حركة القوى العسكرية العظمى في العالم. وربما كان الربط بين تأثير الفيروسات، تلك الكائنات متناهية الصغر على السياسة والاقتصادي، في ظل تداعيات وباء الكورونا التـي ما زالت في طور التكوين، مثالاً على هذا النوع من اللايقين. وربما تعزز نماذج التحليل الحاسبوي والكمي من قدرتنا علي فهم هذا التعقيد المثير للنظم البشرية، وبالتالي قدرتنا تصور التأثيرات غير المفكر فيها للأشياء الصغيرة من حولنا.
- تزمين المستقبل Timing: وهو البحث في أنماط وآليات التغير في صورة المستقبل. تتصور تقاليد الحداثة المستقبل مجرد امتداد خطي للحاضر والماضـي السابق، متجهًا نحو الصعود، فيما تتصور ثقافات أخرى الزمن باعتباره حركة دائرية؛ فيما تتصور ثقافات أخرى المستقبل كحركة بندولية تتراوح بين نقطتـي صعود وهبوط. وكان التصور السائدة بين دعاة التحديث على النمط الغربي، وأصحاب نظريات المقاومة الثقافية وما بعد الاستعمار هو الحديث عن تنافر هذه التصورات، بيد أن الواقع، وبالتالي امتداد مساراته المستقبلية تشـي بإمكانية تجاور هذه التصورات المختلفة. فهناك ظواهر تشهد على التطور الخطي مثل شيوع التنقنيات والرقمنة، والعولمة ليست إلا دورة من دورة تشكيل الوعي وازدياد التواصل العالمي التـي يمكن رصدها من خلال الهجرات البشرية عبر القارات، ومن خلال حركة التجارة الدولية والغزو خلال الإمبراطوريات الكبرى. وصعود وتدهور القوى العالمية لا يخضع للنظر الخطي، فالتدهور بعد الصعود الحتمي بسبب تناقضات الازدهار. ولا زالت حركة النخب في نظم الحكم الحديثة وما قبلها تشهد بدقة التحليل البندولي لحركة المجتمع، كما رصدها ابن خلدون وغيره. وكلها ظواهر متجاورة. وبالتالي، يمكن تركيب تصور أكثر شمولية عن المستقبل من خلال القراءة المركبة لأنماط التغير في الواقع.
- تعميق المستقبل Deepening: يقترح “تحليل التدرج السببـي Causal Layered Analysis” أن تفسير أية ظاهرة وصولاً لاستشراف مستقبلها لا يمكن فهمه على نحو أعمق إلا من خلال فهم الأبعاد الأربعة المتراكمة للظواهر في شكل جبل ثلجي لا نرى سوى قمته، وهو (العناوين) والأخبار والأفكار الشائعة عن أسباب وتطور وحلول أية مشكلة عارضة حتـى لو كانت مستجدة. أما إذا تعمقنا في دراسة الظاهرة فسنتوصل إلى أسباب متعلقة بـ(النظام) الاجتماعي والاقتصادي والسياسـي والتقنـي والبيئي الذي نشأت فيه الظاهرة. ودائمًا ما تتأسس هذه النظم على (رؤي) وقيم وثقافة راسخة وبنية فكرية عميقة الجذور، وغالبًا ما تتأسس هذه القيم والثقافة على (سرديات) كبرى ومجازات وخرافات ضرورية تتخلل اللغة والوعي أو اللا وعي الذي تكتسبه حركة المجتمع بمرور الزمن. الواقع ليس إلا حوارًا وتفاعلاً بين هذه الأبعاد الأربعة التـي تتسم بعلاقة حركية، علي عكس جبل الثلج الراكد.
لا يكفي الباحث الاكتفاء بالعناوين وما يطلع عليه من تحليلات شائعة أو كسلى عن إجراءات الإغلاق الجزئي أو الكلي الذي قامت به دول العالم إلى جانب التباعد الاجتماعي قد أدى إلى “عودة الطبيعة بمجرد غياب الإنسان” وهو عنوان شاع في الفترة الماضية كدليل للتأثير العميق لوباء الكورونا. سينبغي لنا أولاً فحص حقيقة هذه الأخبار والصور المتداولة، والتعرف على نسب انخفاض الانبعاثات الكربونية، وهل كانت كافية لعودة الطبيعة في غضون أشهر. ثم علينا التساؤل عما إذا كانت هناك تغيرات فعلية في النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التـي تساهم في تدهور البيئة، وكيف تتصرف الحكومات فعليًا حيال تلك القضية هل ستعمق بعد انقضاء الوباء التأثيرات الإيجابية الطفيفة الحالية؟ أما أن ستعطي مساحة أكبر للمصالح الاقتصادية كي تعوض خسائرها؟ وهل تحتاج حماية البيئة ووقف الاحتباس الحراري مجرد الالتزام بقواعد الحجر الصحي، أم إلى حركة ونضال أكبر من مجرد المكوث في المنزل؟ وكيف تشكل الثقافة السياسية تناول الحكومات والمجتمعات لقضية البيئة؟ وهل تتجه الينـى الاقتصادية نحو “الاستدامة” وعلاقة ذلك بآليات الاستهلاك والإنتاج والربح والسعي نحو النمو؟ وكيف تنتج علاقة الإنسان بالطبيعة تصورات مختلفة عن مستقبل النوع البشري. وكيف يحل التناقض بين الحاجة إلى تعاون عابر للحدود بين الدول والمجتمعات لحماية البيئة، وبين اتجاه الدول لتأكيد أولويات الأمن القومي والنمو الاقتصادي وتقليل الاعتبار للمنافع والمصالح المتبادلة.
- خلق البدائل Creating Alternatives: تتخذ البدائل شكل سيناريوهات يتم التوصل لها من خلال منهج بناء السيناريوهات، وهو المنهج الأكثر شمولية ورواجًا في دراسات الاستشراف. وتتعدد طرق بناء السيناريوهات، إلا أنها تتفق على أن كل سيناريو (مسار مستقبلي) هو في نهاية خليط من اتجاهات يقينية Trends تعبر عن عوامل مستمرة من الحاضر إلى المستقبل، وعوامل لا يقينية Uncertainties، وتبنـى السيناريوهات من خلال عملية ممتدة تضم الفاعلين والمهتمين بالقضية، والذين في ورش لمسح ما يحيط بالقضية من عوامل، واستخراج الاتجاهات وعوامل اليقين، وصولاً إلى بناء برامج للفعل والحركة لتحقيق سيناريو معين أو تجنب سيناريو آخر. ويجمع بناء السيناريوهات بين البنية الروائية الخيالية والتخطيط الواقعي لمسارات أكثر عقلانية. وتستخدم ورش السناريوهات لتحقيق غايات مختلفة؛ فقد تكون أداة بحثية فعالة، أو وسيلة للتخيطيط الاستراتيجي الشامل، أو ربما أداة لإدارة النزاعات الأهلية.
- تغيير المستقبل Transforming: وهو أهم غايات الاستشراف من خلال إخراج صورة المستقبل المرغوب من مجرد الآمال والبلاغة إلى مجال التخطيط وحسن إدارة الموارد في إطار زماني محدد. تتضمن ورش بناء السيناريوهات استخدام أساليب مثل التنبؤ الاسترجاعي (Backcasting) وفيه يتحرك التحليل المستقبلي من نقطة ما في المستقبل، وصولاً للوقت الحالي، مرورًا بنقاط زمانية يرتبط كل منها بتحقيق مؤشرات معينة، وبالتالي هو عكس التنبؤ (Forecasting) الذي ننطلق فيه من الحاضر إلى نقطة زمانية معينة في المستقبل. فلنفكر مثلاً في كيفية تحسين مؤشرات البيئة بحلول العام ٢٠٣٠، في مدينة مثل الإسكندرية، يقتضـي هذا الوصول إلى مؤشرات معينة في العام ٢٠٢٥ من حيث جودة الهواء والمياه، وتحقق الاستدامة، ووجود توازن بين المساحات الحضرية والخضراء، وغير ذلك من عوامل، وهو ما يعنـي ضرورة بناء خطط لتحسين هذه المؤشرات في العام الحالي ٢٠٢٠، وهكذا يمكن تجزئة الخطط الكبرى إلى برامج زمانية محددة. وتستخدم ورش أخرى أساليب بناء التصورات البصرية Visual Visioning، والذي يقوم على إعمال خيال المشاركين وتفكيك الصور السائدة عن المستقبلات الممكنة والمرغوبة.
تكمن أحد جوانب فرادة الدراسات المستقبلية في أنها تعبر دائمًا عن جهد جماعي، فالمناهج فيها مشروع للتفكير الجمعي والتعددي، وإجراء حوارات ثنائية وتعددية بين أطراف لا تجد بينها ساحة مشتركة، وهو ما يحيد جوانب القصور الإدراكي والتحيزات التـي يحملها كل باحث ومشارك ومهتم باستشراف المستقبل. وتبقى الخطوة الأهم هو إدماج هذه المناهج في حقل العلاقات الدولية، خاصة مع تشكل مجموعات من الباحثين العرب الشباب الراغبين القادرين على التواصل مع تطورات السياسة الدولية بشكل فوري، وكذلك على إطلاع علي تطوراتها النظرية، ومتطلعين في الوقت نفسه إلى بناء منظور مستقبلي يعبر عن موقع مجتمعاتهم من العالم.
مزيد من القراءات
لم يتسع المقام لاستعراض ماهية وتطور الدراسات المستقبلية، وأهم الإشكاليات والقضايا التـي يعالجها، لذا يمكن للقارئ الرجوع إلى قراءات أكثر شمولاً في هذا المجال ومن بينها:
مقدمة ضياء الدين ساردار عن المستقبلFuture All that Matters
مقدمة جنيفر جيدلي عن حقل الدراسات المستقبلية ضمن سلسلة جامعة أوكسفورد Future: A very Short introduaction، وهو مترجم للغة العربية وصادر عن هيئة البحرين للثقافة والآثار
مقدمة سهيل عناية الله عن النظريات المعرفية ومناهج الدراسات المستقبلية، ويمكن الاطلاع عليها على الرابط التالي https://www.bbvaopenmind.com/en/articles/futures-studies-theories-and-methods/
تحاول نظرية ضياء الدين ساردار وعدد من الباحثين المستقبليين حول الأزمنة ما بعد العادية أن تقدم تفسيرًا لتحولات العالم، وكانت سباقة في تناولها لمفهوم “الاعتيادي” الذي ذاع مؤخرًا مع الحديث عن عهد ما بعد كورونا. ترجم المؤلف ثلاثة دراسات مؤسسة للنظرية تحت عنوان “الأزمنة ما بعد العادية: نموذج معرفي جديد في الدراسات المستقبلية” وصدرت عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية. ومؤخرًا أصدر ساردار الكاتب الجامع لهذه النظرية Post Normal Times: A Reader.
تناولت دورية أوراق الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية عددًا من قضايا الدراسات المستقبلية، مثل التفكير النظمي، والدراسات المستقبلية في مصر، واستشراف المستقبل من منظور إسلامي، وغيرها، ويمكن الاطلاع على أعدادها من خلال الرابط التالي: https://www.bibalex.org/ar/publication/index
تقدم دورية استشراف الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات محاولة عربية جادة لتجذير التفكير المستقبلي، ويمكن الاطلاع على إصداراتها من خلال الرابط التالي: https://istishraf.dohainstitute.org/ar/Pages/JournalHome.aspx