لم يكن إسقاط القذافي على إثر التمرد المدعوم غربيًّا مجرد خسارة استراتيجية لروسيا العائدة إلى المنطقة، بل اشتمل أيضًا على خسائر اقتصادية هائلة، كانت موسكو قد نجحت في تأمينها منذ العام ٢٠٠٨، مع نظام العقيد بعد فترة تباعد بين طرابلس وموسكو لصالح الغرب. تمثلت هذه الخسائر بالأساس في استثمارات روسية في قطاع البنية التحتية والنقل، وقطاع الطاقة فضلاً عن صفقات تسلح.، حيث بلغ حجم خسائر روسيا ١٠ مليار دولار.
كان للحالة الليبية دور كبير في تشكيل استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط عقب عودة فلاديمير بوتين إلى سدة الرئيس. اتهم بوتين ربيبه مدفيديف الذي شغل موقع الرئاسة أثناء اندلاع التمرد في ليبيا بالتسبب في كارثة استراتيجية، تمثلت في عدم التصويت ضد قرار مجلس الأمن الدولي بالتدخل في ليبيا، وهو ما منح الناتو والغرب غطاء شرعيًّا لإسقاط نظام القذافي. وبدا واضحًا أن تدهور الأوضاع في ليبيا وإخفاق المجتمع الدولي في إعادة بناء الدولة في ليبيا، وتركها نهبًا للمليشيات المحلية وعصابات التهريب والجماعات الإرهابية قد ساهم في إعادة تأكيد موسكو على رفض التدخل الغربي لتغيير النظم العربية. كان درس ليبيا هو ما عزز صلابة موقف موسكو تجاه محاولة إسقاط نظام الأسد في دمشق. ولو وقع هذا، لربما أصبحت سوريا النسخة الأكثر كارثية من ليبيا، ولفقدت روسيا قاعدة تواجدها العسكري في شرق المتوسط.
كانت الأدوات العسكرية والسياسية هي أداة التدخل الروسـي الأساسـي للحفاظ على مصالحها في سوريا. أما في ليبيا، فهناك تداخل واضح بين الأدوات والأهداف الجيوستراتيجية والاقتصادية. حيث يلعب قطاع الطاقة، النفط والغاز الليبيين، دورًا محوريًا في تشكيل سياسة موسكو الليبية.
ما هي أهداف روسيا الجيو-اقتصادية في ليبيا؟
كانت موسكو كانت قد عقدت مع نظام القذافي بعد إلغاء دين مستحق على طرابلس بلغ ٤.٤ مليار دولار، من إبرام صفقات لإنشاء خط سك حديد بين سرت وبنغازي، وعقود استثمارات في حقول النفط والغاز الليبية بلغت ٣.٥ مليار دولار، فضلاً عن مشروعات بناء بقيمة ١٥٠ مليون دولار، وعقود تسليح أبرمتها شركة “روسوبرونو-إكسبورت” بقيمة ٤ مليار دولار، خسرتها جميعًا بسبب سقوط نظام القذافي. إلا أن خسائر موسكو زادت مع اتجاه المجلس الانتقالي العام بطرابلس إلى الإعلان عن معاملة الشركات الغربية خاصة التابعة للدول التـي ساهمت في دعم المتمردين مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة معاملة تفضيلية في مقابل الشركات الروسية؛ خاصة “غازبروم” و”تاتنفت”. إلا أن فشل بلدان تلك الدول في التدخل الإيجابي لتعديل مسار الانتقال السياسـي أفضـى إلى اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى، ما أدى إلى منح موسكو فرصة أكبر لتحقيق غاياتها الجيو اقتصادية والمتمثلة بتعزيز وضع روسيا العسكري في شرق وجنوب المتوسط، والتوسط لإنهاء الصراع بما يؤدي إلى وجود نظام صديق لموسكو، وبالتالي زيادة أوراق موسكو في إدارة العلاقات مع إيطاليا وفرنسا، أو منح روسيا فرصة للتواجد العسكري الدائم في ليبيا. إلا أن زيادة الضغط على النظام السوري حليف موسكو في تلك المرحلة، قيد أيضًا من تحركات موسكو التـي اضطرت إلى إخلاء السفارة الروسية في طرابلس بسبب تدهور الحالية الأمنية في ٢٠١٤.
تدرك روسيا أهمية ليبيا بالنسبة لسوق الطاقة العالمية، وبالأخص للسوق الأوروبية التـي تعتبر روسيا أهم مورديه. إلى جانب احتياطات النفط المهولة التـي تتمتع بها ليبيا والتـي تقدر ب٤٨ مليار برميل نقط من الاحتياطي الخام، (٣٪ من الاحتياطيات المؤكدة على الأرض)، يمثل الغاز الليبـي ١٪ من احتياطات الغاز العالمي (المركز ٢٦ عالميًّا). وبالفعل تمد ليبيا أوروبا بالغاز من خلال خطوط تمتد عبر المتوسط إلى إيطاليا.
في هذا الصدد، يمثل الهدف الاستراتيجي لروسيا هو ضخ استثمارات كافية للتحكم في سوق الغاز والنفط الليبية، وبالتالي المحافظة على قدرتها على التحكم في سوق الغاز الأوروبية شرقًا، وجنوبًا. ومن ثم، تعي موسكو أن فقدان ليبيا لصالح أطراف أخرى سيؤثر على قدرتها على التفاوض وعلى امتلاك مزايا استراتيجية في مواجهة الغرب. وعلى العكس من خطوط نقل الطاقة الروسية إلى أوروبا والتـي تمر عبر تركيا وأوكرانيا، وهي ساحات لا تخلو من صراعات وخلافات، أهمها قضية القرم على جبهة أوكرانيا، والخلافات المحتملة مع تركيا حول سوريا، فإن وضع ليبيا الجيوبولتيكي يعد أيسر من حيث الوصول .وعليه، تتجاوز أهداف روسيا مجرد الحفاظ على موطئ قدم سياسية وعسكرية في شمال أفريقيا من خلال دعم طرف من أطراف الصراع على حساب آخر.
ما هو حجم تعاقدات الغاز والبترول الروسية في ليبيا؟
بدأت موسكو في العودة إلى سوق الطاقة الليبية في العام ٢٠١٣، عندما تمكنت شركة “غازبروم نفت” من تجديد عمليات استكشاف النفط والغاز في حقل “الفيل” الواقع على بعد ٨٠٠ كم جنوب طرابلس، والذي توقف العمل فيه منذ ٢٠١١. ونصت اتفاقية التشغيل الموقعة قبل أيام من اندلاع الحرب الأهلية على شراء الشركة الروسية ٣٣٪ من أسهم شركة “إينـي” الإيطالية التـي تقود المشروع. كانت غازبروم أول الشركات الروسية العائدة إلى ليبيا قبل أن تلحق بها في العام نفسه “تاتنفت” سادس أكبر شركة روسية للنفط لاستئناف عملياتها التـي كانت قد بدأت مبكرًا في العام ٢٠٠٦ باستثمارات قيمتها ٢٥٠ مليون دولار في غدامس وسرت. كذلك، استمرت “روزنفت” في العمل من خلال عقود مع شركة “سيشن” الألمانية والمؤسسة الوطنية للنفط. إلا أن تدهور الوضع الأمنـي أدى إلى توقف هذه العمليات فضلاً عن شراسة المنافسة الشرسة من الشركات الفرنسية والإيطالية.
بعد فشل إنفاذ اتفاق الصخيرات، وانقسام الجبهة الليبية ، تبنت موسكو سياسة للحفاظ على مصالحها الجيو اقتصادية المتوزعة بين الطرفين؛ خاصة مع إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حيادها السياسـي. من ناحية أخرى، اتجه طرفا الصراع إلى التأكيد على حيوية الدور الروسـي في ليبيا؛ فأعلنت وزارة النقط في ٢٠١٦ عن عودة الشركات الروسية بسبب العجز المتفاقم في الموازنة نتيجة انخفاض معدلات الإنتاج دون ١.٦ مليون برميل في اليوم، والانخفاض العام في أسعار البترول.
عادت الصفقات الليبية الروسية مرة أخرى إلى الواجهة في فبراير ٢٠١٧ مع عقد مؤسسة النفط الليبية وشركة “روزنفت” اتفاقية للبحث والاستكشاف من خلال لجنة مشتركة بين المؤسستين في منطقة الهلال النفطي. كذلك عادت شركة “تانفت” للتنقيب عن الغاز والبترول في محيط “غدامس” في ديسمبر ٢٠١٩. ومرة أخرى، كان مصير هذه الصفقات التوقف، مع اشتداد المعارك بين الجيش الوطنـي ومليشيات حكومة الوفاق حول طرابلس وتوقف عمل المنشآت النفطية عشية مؤتمر برلين في يناير الماضـي، وزيادة وتيرة التدخل التركي لصالح حكومة الوفاق وهو ما زاد من تعقيد المشهد الليبـي وتداخله مع الصراع حول الغاز في شرق المتوسط.
كيف شكلت سياسة الطاقة الموقف الروسـي من الأزمة الليبية؟
من مفارقات المشهد الليبـي أن المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لحكومة الوفاق هي المنوطة بعقد صفقات الاستكشاف والتنقيب والإنتاج، في الوقت الذي تقع فيه، إلى الآن ووقت كتابة هذا التقرير، تحت سيطرة الجيش الوطنـي الليبـي. وهو الوضع الذي تأكد لمدة سنتين مع تمكن الجيش من طرد حرس المنشآت النفطية التابعة للوفاق بقيادة إبراهيم الجضران من منطقة الهلال النفطي الواقعة في الشرق بين بنغازي وسرت في ٢٠١٦؛ وكذلك بعد استيلاء القوات التابعة للجيش الوطنـي على حقوق حقلي الشرارة والفيل جنوبي البلاد في فبراير ٢٠١٩. وبالتالي كان على موسكو بناء سياسة ليبية تعكس هذه الحقيقة ضمانًا لمصالحها أثناء الصراع وبعد انقضائه.
من ناحية أخرى، سعى الطرفان إلى كسب موسكو أو تحييدها على الأقل. فقصد المشير حفتر في ٢٠١٥، دعم موسكو عسكريًّا وسياسًّا في مقابل التعهد بإنفاذ عقود الطاقة المستحقة للشركات الروسية إلي جانب حقوق وصول الأسطول الروسـي للموانئ الليبية. وهو ما قبلته روسيا فاستقبلت المشير مرارًا، وقبلت دعمه بشكل غير رسمـي من خلال المستشارين العسكريين لشركة “فاجنر” الأمنية، فيما رفضت تقديم أي دعم عسكري له. في المقابل، استقبلت حكومة فائز السراج، بل وأيضًا قادة من مليشيات مصراته بعد الاستيلاء على سرت من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية” في ٢٠١٦.
على العكس من الرواية السائدة حول الدعم غير المحدود الذي كانت تقدمه موسكو للجيش الوطنـي ، فمن الواضح أنه كان دعمًا مشروطًا بتحجيم قوة المليشيات الجهادية وبضمان المصالح الروسية في قطاع النفط.. كما أن موسكو لم تتدخل في مسار العمليات العسكرية خاصة مع تشككها في إمكانية نجاح محاولة الجيش الوطنـي الاستيلاء على طرابلس أو أن قدرة أي طرف على فرض “حل عسكري” في ليبيا. خاصة مع الضعف الواضح في بنية الجيش الوطنـي ومعاناته من مشكلات في التمويل حاولت حلها بطبع ٤ مليارات دينار ليبـي لصالح فرع البنك المركزي الليبـي في مدينة “البيضاء”. وفي المجمل، حرصت موسكو على تقديم دعم “رخيص” مقابل تعظيم المنافع من كافة الأطراف باعتبارها الوسيط الأقدر على التأثير في مجريات الأمور.
هل غيّر التدخل التركي من الاستراتيجية الروسية؟
كانت محاولة موسكو التوصل مع أنقرة لاتفاق وقف إطلاق نار في ليبيا قبيل مؤتمر برلين (٢٠٢٠) مؤشرًا على إمكانية التعاون التركي الروسـي في ليبيا على غرار سوريا تمهيدًا لخلق مناطق نفوذ في ليبيا على امتداد الانقسام السياسـي والعسكري. إلا أن اندفاعة تركيا لتغيير موازين القوى لصالح حكومة الوفاق من خلال حشد المرتزقة السوريين المنتمين إلى جماعات إسلامية وتسيير العتاد والمستشارين العسكريين والطائرات المسيرة، وهو ما أدى إلى تراجع الجيش الوطنـي بعد سقوط قاعدة الوطية، ومطار طرابلس ومدينة ترهونة على التوالي، أدت إلى اتجاه روسيا إلى اتخاذ موقف “أكثر تأكيدًا” بتحديد “خطوط حمراء” أمام التقدم التركي دون التورط المباشر لصالح الجيش الوطنـي.
تتمثل الخطوط الحمراء الروسية في عدم تمدد التأثير التركي إلى الشرق بداية من سرت، وبالتالي منع مليشيات الوفاق والمرتزقة السوريين من الاستيلاء على منطقة الهلال النفطي والمنطقة المخصصة لترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس وفقًا للاتفاق المثير للجدل الموقع بينهما في نوفمبر ٢٠١٩. وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق لا يهدد مصالح روسيا في قطاع الطاقة الليبـي مباشرة، خاصة أن أنقرة تبحث عن مصادر للطاقة ولا تمتلك القدرة على منافسة شركات النفط والغاز الروسية، إلا أنها تقلق من محاولة أنقرة لكسب تأييد الناتو والولايات المتحدة للتدخل العسكري في ليبيا بدعوة تصديها للنفوذ الروسـي، واعتمادها في ذلك على “عناصر فوضـى” من مليشيات جهادية ليبية وسورية لا تستطيع التحكم فيها، وبالتالي لن يزيد التدخل التركي في ليبيا الأوضاع إلا تدهورًا، في الوقت الذي تحتاج فيه موسكو إلى “تثبيت” الأوضاع تمهيدًا لحل يضمن لها مصالحها الجيو اقتصادية.
وبالتالي لا تتعامل روسيا في الملف الليبـي من منطلق الالتزام السياسـي، فطرفا الصراع أضعف من أن يكون حليفًا وثيقًا مثل نظام الأسد.؛ ولا منطلق أيديولوجي، إلا في إطار رفضها للتدخل الغربي المباشر الذي يشكل خطرًا على استراتيجيتها الشرق الأوسطية؛ . كذلك لا تتبنـى موسكو منطق اللعبة الصفرية، فقلقها من التحركات التركية لا ينفي إمكانية التعاون بين الطرفين، سواء في ملف الطاقة أو في التنسيق العسكري، وقد سبق أن أعلنت موسكو عن إمكانية عن تعاونها مع تركيا في ملف غاز المتوسط. فضلاً عن أن موسكو لا تفاضل بين أنقرة وخصومها على الساحة الليبية خاصة القاهرة. لذا فمن المبكر الجزم بخيارات “التصادم” أو “التعاون” بين أنقرة وموسكو على الساحة الليبية، إلا أنه من المؤكد أن موسكو لن ترتكب خطأ إخلاء الساحة للغرب كما وقع في ٢٠١١.