في أغسطس 1973، وقبل اندلاع حرب أكتوبر بأسابيع قليلة، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان أمام ضباط جيش الدفاع بأن قوة إسرائيل لا تنبع فقط من إمكانياتها العسكرية، بل أيضًا من الضعف العربي المزمن والذي ينبع من عوامل لم يكن يتصور أنها ستتغير سريعًا وهي “انخفاض مستوى تعليم الجنود العرب وقدراتهم على التماسك العسكري واستخدام التكنولوجيا، فضلاً عن الانقسامات العربية.
أظهرت حرب أكتوبر ولا شك قدرة العرب على التضامن، وإن شاب هذا التضامن والتحالف ضعف الثقة وغياب الاستراتيجية الموحدة حتـى على المستوى العسكري. إلا أن أهم ما كشفت عنه هذه الحرب هو التطور السريع الذي حدث، في سنوات ما بعد الهزيمة، في نوعية المقاتلين وقدرتهم على تطويع واستيعاب التكنولوجيا العسكرية، فضلاً عن التماسك القتالي والوعي الاستراتيجي بأبعاد الصراع. وهو ما دحض نظرية دايان، بل أجبر إسرائيل والغرب على إعادة النظر في التحيزات الثثافية العميقة عن “العجز العربي.”
في الواقع لم يحظ هذا الجانب في الحرب بالاهتمام الكافي، خاصة على الجانب العربي والمصري على وجه التحديد، حيث لم تركز الروايات الرسمية حول الانتصار في الحرب على الفاعلية العسكرية للمقاتلين. حتـى على المستوى البحثـي، دائمًا ما تعزى الفاعلية العسكرية للتخطيط الاستراتيجي الذي قاده الرئيس السادات، ودور القيادات العسكرية المباشرة. على سبيل المثال، في دراستها الهامة حول الأداء العسكري المصري في حرب أكتوبر، ترى ريزا بروكس أن إعادة هيكلة العلاقات المدنية العسكرية في إطار السلطوية المصرية في السنوات الأولى لعهد السادات كانت هي السبب الرئيس في التقدير الاستراتيجي للحرب، وعمليات القيادة والتحكم، دون أن تشير إلى انعكاس هذا على فاعلية دور الجنود في الحرب.
فيما عدا التركيز على جوانب “التضحيات” و”البطولة”، لم يكتب تاريخ حرب أكتوبر عربيًّا من وجهة نظرة المقاتلين خاصة المصريين والسوريين. ولا تعد الجوانب الشخصية التـي تلقى الصحافة السيارة الضوء عليها عوضًا عن هذا، إذ أنها تأتي متسقة مع الرواية الرسمية للحرب، دون أن تعرض للتحولات الفكرية التـي وقعت في المرحلة الواقعة ما بين الهزيمة وإعادة البناء ثم الانتصار في أكتوبر، أو كيف تلقى الجنود وضباط الصف والضباط التوجيهات الاستراتيجية المختلفة على طول الحرب الممتدة لما يزيد عن ست سنوات، وكيف ترجموا توجيهات القيادة السياسية والعسكرية إلى “كفاءة” و”مهنية” في ميدان القتال. أو بعبارة أكثر مجازية، كيف تحففت “المعجزة البشرية” عند العبور.
تشير أغلب المصادر الإسرائيلية والأمريكية على السواء إلى حقيقة “التحول النوعي” في كفاءة المقاتلين العرب في حرب أكتوبر، خاصة المصريين، لا من ناحية شراسة القتال أو العزم والتصميم فقط بل أيضًا من حيث الكفاءة والمهنية القتالية. يقول الجنرال شارون “قاتلت الجيوش والقوات العربية لربع قرن، ولم تكن هناك سوى معارك. أما [حرب يوم الغفران]، فكانت حربًا حقيقية.” ويقول جنرال آخر، لم يكن هذا أبدًا ذلك الجيش الذي حاربناه في ١٩٦٧. وتذخر شهادات القادة والضباط الإسرائيليين التـي أوردها الصحافي إبراهام رابينوفيتش في عمله الهام عن حرب أكتوبر، الصادر في ٢٠١٤، عن التحول الهام في نوعية المقاتلين المصريين والعنت الذي لاقوه في التصدي لهم أثناء الحرب. أو في الدراسة الهامة التـي قام بها الدكتور إبراهيم البحراوي وجمع فيها شهادات الإسرائيليين حول بطولة المصريين في حرب أكتوبر وصداها في الأدب الإسرائيلي.
أما تقرير لجنة الدفاع بالكونجرس الأمريكي التـي هرع وفد منها لمصر لدراسة الحرب التـي لم تضع أوزارها في الأسبوع الأول من نوفمبر ١٩٧٣، فقد جاء فيه “إن اقتحام خط بارليف عمل عسكري لا يقل في أهميته عن سقوط خط ماجينو الفرنسـي [على يد ألمانيا النازية] في ١٩٤٠. وهناك نقلة بشرية كبيرة في نوعية المقاتلين العرب وهو ما يميز هذه الحرب عن أية حرب أخرى خاضوها من قبل.” وأكدت التقديرات الأمريكية اللاحقة للحرب سوء تقدير الدوائر الاستخباراتية والعسكرية في واشنطن وتل أبيب للقدرات البشرية العربية وإمكانية تحولها لقوة قتالية حديثة، نتيجة التحيز العميق ضد الثقافة العربية.
لا شك أن القوات المسلحة المصرية امتلكت قوة بشرية كمية تمثلت في قرابة ال٨٠٠ ألف مقاتل، إلا أن هناك عوامل أخرى تفسر امتلاك هذا الكم البشري قوة كيفية، يمكن عزوها إلى “التعليم العسكري” و”الوعي الاستراتيجي” بطبيعة الحرب لدى الضباط والجنود على السواء.
التعليم والتحول في الطبيعة البشرية للجيش المصري
بعد هزيمة 1967، بدأت مصر ترى مواطن الضعف لدى الجيش القائم على الفلاحين والذي لا يتملك الأدوات الكافية للتعامل مع تحديات المعارك القائمة على الآليات المميكنة متزايدة السرعة. وبالتالي أخذت في تغيير التركيبة البشرية للقوات المسلحة. عند اندلاع حرب 1967، تشكل الجيش المصري بشكل كامل من فلاحي القرى وقليل منهم كان على صلة بتقنيات النقل أو الاتصال أو القطاع الفنـي.
بحلول العام ١٩٧٣، أصبح حوالي ٢٥٪ من جنود القوات المسلحة من المناطق الحضرية. وعزز هذا التحول البسيط في نوعية المجندين القادرين على التعامل مع تقنيات الاتصال والتقنيات الفنية الأخرى من خلال الارتفاع في مستوى التعليم المدني والعسكري على السواء. ففيما بين ١٩٦٧ و١٩٧٣، تضاعفت نسبة خريجي المدارس العليا في الجيش من ٢٥٪ إلى ٥١٪، وحمل كل واحد من ثمانية جنود من شهادات جامعية عليا. أما بالنسبة للضباط، فارتفعت نسبة خريجي الجامعات “المدنية” بين صفوفهم إلى ٦٠٪ بدلاً من ٢٪ في ١٩٦٧.
كان هذا التحول المتعمد نحو تجنيد الرجال ذوي التعليم الأفضل (خاصة من ذوي الخلفيات التقنية والفنية) مؤشرًا على قبول النظام في مصر المخاطرة التـي كان يخشاها سابقًا؛ وهي تسيس القوات المسلحة. قبل ١٩٦٧، رفض الرئيس جمال عبد الناصر بشكل عام تجنيد الطلاب الجامعيين، وذلك لأسباب متعلقة باحتياجات التنمية الاقتصادية لأصحاب المؤهلات العليا في القطاعات المدنية المختلفة، وكذلك خشية تسرب عناصر من التيارات السياسية والفكرية المختلفة لصفوف الضباط والجنود. إلا أن عملية إعادة بناء القوات المسلحة التـي بدأت غداة الهزيمة استدعت تغيير هذه السياسة. وقبل رحيل ناصر، تم إصدار مرسوم يقتضـي أن يتولى قيادة الدبابات والمسؤولية عن أجهزة الاتصال الإلكترونية خريجو كليات الهندسة والمدارس الفنية العليا.
بحلول خريف ١٩٧٣، كان نصف مهندسـي مصر من ذوي الخبرات الواسعة في القطاعات الإنشائية والاتصالية المختلفة يخدمون في القوات المسلحة. ولم ينحصر ارتفاع مستوى تعليم وتدريب الضباط على أدائهم فقط، بل امتد أيضًا ليؤثر على مستوى أداء ضباط الصف والجنود. كذلك دفع الشعور العميق بقضية التحرير والتخلص من عار الهزيمة العديد من خريجي الجامعات إلى خيار الالتحاق بالقوات المسلحة بدلاً من قبول التكليف بالعمل في القطاع المدني.
يصعب قياس الكيفية التـي أثر بها ارتفاع مستوى التعليم بين الضباط والجنود على مسار العمليات والتكتيكات، ولكن من المؤكد أن تغير سياسة التجنيد في إطار سياسة إعادة البناء عكس جدية القيادة السياسة والعسكرية سواء ناصر أو السادات في التعامل مع “كفاءة المقاتلين” باعتبارها أحد عوامل حسم المعركة. وأشرت هذه السياسة على أولوية التنفيذ السليم للاستراتيجية العسكرية من خلال ضمان وجود العناصر البشرية المدربة واللازمة لتشغيل الآليات والأسلحة بكفاءة على أية اعتبارات سياسية أخرى. أو بعبارة أخرى، إعادة الاعتبار للكفاءة والمهنية على حساب الولاء، وهو ما رفع المستوى العام لأداء القوات المسلحة.
الوعي الاستراتيجي بطبيعة المعركة
بالطبع لم يكن مجرد النجاح في تطويع الصواريخ والآليات المميكنة هو الضامن الوحيد للكفاءة القتالية، فقد كانت هناك عوامل معنوية أخرى أكثر تأثيرًا في هذا السياق، وهو ما يمكن أن يطلق عليه الوعي الاستراتيجي بطبيعة المعركة، وطبيعة الصراع مع إسرائيل حول سيناء. وهو وعي شكلته جذور ثقافية عريضة يمكن أن نجدها في الرغبة الحارقة لاستعادة الأرض، والتحرير، والشرف العسكري، ومحو عار الهزيمة التـي لم تمنح جنود ١٩٦٧ الفرصة لإثبات قدرتهم في مواجهة العدو.
شكل هذا الوعي البناء الفكري للقتال في حرب أكتوبر، وهو ناتج بالأساس عن ارتفاع مستوى التعليم في أوساط الجنود والضباط، وكذلك الخطاب السياسـي الذي تشكل منذ ١٩٥٢ حول قتال الاستعمار والتحرير، وبعد نكسة يونيو حول رفض الهزيمة والمقاومة. لم يكن هذا الوعي مجرد “دعاية” سياسية أو برنامج من أجهزة التوجيه المعنوي أو الإرشاد القومي، بل إيمان حقيقي بضرورة القتال لتحقيق غايات أسمى من مجرد دحر العدو أو إثبات التفوق.
تشير الشهادات المتوفرة، والمسموح بها، حول حرب ١٩٦٧ إلى عدم وعي الجنود المصريين الذين أمروا بالتصدي للهجوم الإسرائيلي على سيناء بالغاية من القتال، وحدود قدرات العدو. وضاعف قرار القيادة العسكرية بالانسحاب دون تخطيط من “عبثية الوضع” الذي أسفر عن كارثة. أما في حرب أكتوبر، كان التقييم الاستراتيجي واضحًا ومتوافقًا مع الغاية الواضحة التـي يعتنقها كل فرد من القوات المسلحة وهي استعادة “الأرض” والشعور بالكرامة. أسفر هذا عن طاقة، تجاوزت الدور الذي تقوم به عاطفة “الكراهية” التـي تحدث عنها كلاوزفيتس في تعريفه لثالوث الحرب.
من الصعب قياس هذا العامل الذي تختلط فيه حقائق القتال بالمجازات الشعورية على مسار العمليات. ومما يزيد من صعوبة البحث في هذا الصدد عدم الإفراج عن وثائق الحرب خاصة تلك التـي تتحدث عن “الوضعية الشعورية” أو “البناء الفكري” للمقاتلين المصريين في الحرب في مراحل الإعداد والعبور وتطوير الهجوم والحصار. أما بالنسبة لشهادات الجنود وصغار الضباط، الذين تراوحوا بين الحياة المدنية والعسكرية، فمن المؤكد أن الاعتبارات السياسية والعسكرية بعد الحرب وفي عهد مبارك قد انتقت منها ما يصلح فقط مع الرواية الرسمية.
قد يبدو العدو مفيدًا في هذا الصدد، ففضلاً عن شهادة القادة الإسرائيليين حول أداء الجنود العرب في الحرب، سمحت المخابرات العسكرية الإسرائيلية “آمان” في ١٩٧٥ و١٩٧٩ لجريدة يديعوت أحرنوت بنشر يوميات الرقيب “محمود ندا” والذي استشهد بعد بلوغه ٢٤ عامًا بأيام في نوفمبر ١٩٧٣ خلال عملية خلف خطوط العدو أثناء حصار الجيش الثالث الميداني.
تشير اليوميات، التـي عثرت “آمان” عليها في ملابس ندا والتـي نشر رابينوفيتش مقتطفات منها رابينوفيتش، إلى تطور المستوى الفكري والوعي لدى الجنود والضباط المصريين القادمين من خلفية مدنية إلى ساحة القتال، بعد سنوات من التعليم الجامعي في مجالات العلوم الإنسانية والطبيعية.
في تلك اليوميات، يتحدث ندا، سكندري المولد والطالب في السنة الثالثة في كلية الآداب، عن أيام ما قبل العبور و”الحقيقة التاريخية” التـي أقسم بها لنقل صورة صادقة عن بطولة ووطنية الجندي المصري ودوره المنتظر في تحرير الأرض وطرد العدو. ويشير إلى دور وحدته المتمركزة عند البحيرات المرة والمشكلة من آليات برمائية في القتال داخل سيناء واستيلائها على حصن “بوتزير” (في ٨ أكتوبر) الواقع شرق البحيرات المرة في منتصف خط بارليف، ويقدم وصفًا للتحصينات تحت الأرض وما حوته من وسائل راحة خلفها الإسرائيليون الفارون. وبعد أسبوع من “تحقيق المستحيل” يكتب ندا عما يعتريه من شعور حول الحياة التـي تنتظره بعد الحرب، وما في جعبته من أفلام وموسيقى سيعود إليها، وكيف تلقى خطاب الرئيس السادات في ١٦ أكتوبر، ثم عن دوره في زرع الألغام لقطع الطريق على الأليات الإسرائيلية التـي تحاول استعادة “بوتزير”.
يكمن صدق هذه اليوميات في ترددها الشعوري والذي يتراوح بين الحماسة واليأس، وهو حال كل المقاتلين في كل الحروب. وبالتالي تعرض لويلات الحرب وثقلها النفسـي كما تعرض بالبطولة في المواجهة، وما يعتري النظام العسكري من اضطراب أو أزمات نتيجة المسارات غير المتوقعة التـي يتخذها القتال.
من المؤكد أن مثل هذه اليوميات، والشهادات التـي لا زالت طي صدور حامليها، توفر للباحثين والمؤرخين المهتمين بدراسة الحرب في بعدها الإنساني مادة خصبة لدراسة “التحول النوعي” للجنود. وهو ما يستدعي ضرورة كتابة “التاريخ الشعبـي للحرب” دون الاكتفاء بالتركيز على دور القيادات السياسية والعسكرية، أو الشهادات المكررة التـي لا تشبع نهم الباحثين ولا تفي روعة ما تحقق من إنجاز بشري في الحرب.
وختامًا، لا يعنـي هذا أن أبناء المدن أو خريجي الجامعات هم وحدهم السبب فيما تحقق من نصر. فمن المؤكد أن استمرار المد البشري من الأرياف والصعيد وحارات المدن كان هو قاعدة النصر. وقد كان هؤلاء أكثر تعبيرًا عن القيم الأكثر تجذرًا والتـي كشفت عنها الحرب. إلا أن الدرس المؤكد هو أن الاستثمار في التعليم والتدريب ورفع الكفاءة البشرية هو العنصر الكفيل بترجمة القوة العددية للجنود المصريين إلى قوة كيفية حدت من تقوق آلة حرب العدو.