تظل إثيوبيا النموذج التاريخي الأبرز لقيام دولة أفريقية حديثة عبر سلسلة ممتدة من الحروب “الأهلية” والتوسع الاستعماري “الوطني” طوال قرون، أو ما يعتبره البعض الاستعمار “الأسود” في أوضح تجلياته، رغم محاولة اختزال القسر والاضطهاد التاريخي لشعوب كاملة، حتى وسط بعض دول الجوار القومية حاليًا، في صياغة فكرة مصطنعة عن القومية “الإثيوبيانية” وادعاء تجردها من أبعادها الدينية والإثنية العنصرية، في محاولة لإعادة إنتاج الدولة الإمبراطورية عبر القفز فوق المشكلات الحقيقية للإثيوبيين بخلفياتهم الإثنية والثقافية والمجتمعية المتباينة وصولًا إلى إعادة إنتاج نظام الحزب الواحد بكل أبعاده متمثلًا في حزب آبي أحمد الحاكم: “الازدهار”، الذي تأسس دون مشاورات قاعدية، ويسعى للتوسع على حساب القوى السياسية المختلفة في إثيوبيا لاسيما في إقليمي أوروميا والأمهرا.
ونجح آبي أحمد، حتى وقت قريب في واقع الأمر، في لفت انتباه الأفارقة للقائد الإثيوبي الشاب الذي جذب انتباه القادة الدوليون والإقليميون، وتصدر مشهد الدفاع عن أفريقيا، بل وتمثيلها، في محافل عدة في اليابان وروسيا وغيرهما، وتوجت مساعيه وحياته السياسية مبكرًا بحصوله على جائزة نوبل للسلام، الأمر الذي دفعه إلى المضي قدمًا في سياسة القفز فوق المشكلات وتأجيل الانتخابات الإثيوبية أكثر من مرة بحجج مختلفة استشعارًا بتراجع فرصه وحزبه في تأمين وصول سلسل للسلطة يشكل شرعي.
غير أن هذا المسار، وصورة آبي أحمد اللامعة أفريقيًا ودوليًا، تعرض لانتكاسة حقيقية في الأسابيع الأخيرة على خلفية موقفه المتعنت إزاء أزمة سد النهضة ومراوغاته التي أصبحت مكشوفة هروبًا من الوصول لاتفاق حقيقي مع القاهرة حول هذه المسألة التي تهدد بالفعل الأمن والسلم الأفريقي والدولي، وعجز نظام آبي أحمد في مواصلة الترويج لمقولة سعي مصر للاستئثار بالنيل الأزرق واستغلاله منفردة، كما اتضح في رفضه الامتثال الدقيق -فعلًا وتوقيتًا- لمقررات المفاوضات التي رعاها الاتحاد الأفريقي، الذي اتسمت وساطته في رأي بعض المراقبين “بتحيز تقليدي ومتوقع” لصالح أديس أبابا.
إضافة إلى ما أثارته الانتخابات الأخيرة في إقليم “التيجراي” من ارتباك في صفوف نظام آبي أحمد حتى قبل الإقدام عليها فعلًا، عوضًا عن الفوز الكاسح الذي حققته جبهة التحرير التيجرانية في صفوف مواطني الإقليم، مما يؤشر على تماسك مبدئي للمعارضة السياسية القوية لنظام آبي أحمد، ووضع سيناريو قابل للتكرار في أقاليم إثيوبية مختلفة، وصولًا إلى سقوط آبي أحمد في أي انتخابات مقبلة، وربما تداعي نظامه بكامله.
ويمكن رصد هذه الحالة الغريبة لآبي أحمد، الذي ظهر في الساحة الإثيوبية كبيرًا وتآكلت صورته بمضي الوقت والاختبارات والفرص التي فوتت لصالح تعزيز حكمه المطلق، عبر تلمس بعض الملفات على النحو التالي:
سد النهضة
استندت إثيوبيا في مشروعها لبناء سد النهضة الإثيوبي العظيم على مقولات مغلوطة لاقت قبولًا دوليًا وإقليميًا باعتبار أن إثيوبيا واحدة من أفقر دول العالم (بالمعايير الحقيقية للتنمية البشرية ومنها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وليس وفق مؤشرات سطحية تستهدف التناول الإعلامي الخاطف) وأن السد سيقود مشروعات التنمية.
وواصل آبي أحمد تصدير هذه المقولات، مضيفًا إليها اعتبار السد مشروع نظامه الأول، وعامل الشرعية الأبرز له فعليًا. غير أن التعنت الإثيوبي الواضح في الوصول لاتفاق عادل يضمن حقوق دولتي المصب ولا يؤثر على استفادة إثيوبيا المعلنة من السد كمصدر رئيس لتوليد الكهرباء (وليس لاستغلال مياه النيل الأزرق في مشروعات زراعية ضخمة ستؤثر حتمًا على حصتي مصر والسودان، وترك المسألة برمتها لحسن النوايا) كشف طبيعة استغلال نظام آبي أحمد للمسألة في تأجيل استحقاقات داخلية.
ورأى محللون غربيون، في تطور ملفت في واقع الأمر، أن قرار الولايات المتحدة بتعليق تقديم معونات لإثيوبيا بقيمة 130 مليون دولار مهم ويستهدف الضغط على إثيوبيا لضبط موقفها في المسألة، غير أنه من غير المرجح استجابة آبي أحمد الذي يواجه –حسب المحللون- العديد من الضغوط المحلية وأن تسوية مسألة السد (بالصورة الصحيحة المفترضة وفق قواعد القانون الدولي، والذي يتضح في تبني الإدارة الأمريكية لصحة الموقف المصري عمليًا) ستضعف موقفه في الداخل([1]).
الانتخابات الرئاسية والإصلاح الديمقراطي
حظي برنامج آبي أحمد الذي أعلنه عقب وصوله للسلطة بالسعي لتحقيق إصلاحات ديمقراطية حقيقية في البلاد بتقدير مبدئي كبير دوليًا وإقليميًا، غير أن هذه الوعود مثلت لاحقًا، وفي ضوء عدم قدرة نظام آبي أحمد على الوفاء بالتزاماته المبالغ فيها حقيقة، تهديدًا للأمن والاستقرار الوطني في إثيوبيا.
كما أن حالة الغموض بشأن مستقبل “الفيدرالية الإثنية” والشك الكبير في التزام الحكومة الفيدرالية بالتطبيق الكامل لبرنامج الإصلاح ، وإصرارها على عقد الانتخابات البرلمانية في العام 2021 بالرغم من مخاوف عقد مثل هذه الانتخابات قبل القيام بإحصاء للسكان (الذي تأجل في اللحظات الأخيرة رغم إتمام الاستعدادات، ما اعتبره مراقبون وقتها مؤشرًا مبكرًا على نوايا آبي أحمد الاستبدادية والانفراد بالحكم واستكمال مسار الجبهة الشعبية الإثيوبية المستبد طوال عقود).
ويتمثل التهديد في استمرار حقيقة أن الأحزاب السياسية الكبرى قائمة على أساس إثني مما سيؤدي إلى دفع المنافسة لتحجيم “المكاسب التنموية والديمقراطية”([2])، وإن كانت مكاسب محدودة ودون ما يروج له كثيرًا.
فيما يلاحظ أن الفيدرالية الإثنية كما في الحالة الإثيوبية لم توضع لتوزيع السلطة بين الأقاليم المختلفة، ولكنها بالأساس آلية لتعزيز السلطة في يد الحكومة الفيدرالية عبر تكوين نخبة وجماعات مصالح تابعة لها في الأقاليم، لكنها تظل في الواقع – كما الحال الراهن بشكل متزايد في عهد آبي أحمد- غير قادرة على حل مسائل الحكم الأساسية مثل المشاركة العادلة في الموارد بين الولايات([3]).
السلام مع إريتريا
استهل آبي أحمد حكمه بتقارب مباغت مع إريتريا ورئيسها اسياس أفورقي، وتوصل لاتفاق سلام مبهم وغير محدد في واقع الأمر من حيث الخطوات الاجرائية المترتبة عليه، عوضًا عن عدم البدء فعليًا في ترسيم الحدود المتنازع عليه بين الجانبين، واقتصرت نتائج “اتفاق السلام”، الذي رعته أطراف إقليمية ودولية وقادها ببراعة دونالد ياماماتو Donald Yamamoto الدبلوماسي الأمريكي البارز والمخضرم في شئون القرن الأفريقي فيما عمد آبي أحمد لتصوير الاتفاق على أنه جهد شخصي له، على فتح مؤقت للحدود، وزيارات متبادلة بين أفورقي وآبي أحمد وكبار المسئولين من البلدين.
ونال آبي أحمد جائزة نوبل للسلام (أكتوبر 2019) ترتيبًا على اتفاق السلام غير الواقعي، والذي لم يشهد أية خطوات حقيقية سوى “التهدئة” بين البلدين، رغم مرور أكثر من عامين على توقيعه.
وتؤشر انتخابات إقليم التيجراي الأخيرة وفوز الجبهة التيجرانية الساحق باستمرار تعليق تطبيق أية مخرجات حقيقية للاتفاق في ضوء المعارضة القاطعة للإقليم لهذا الاتفاق، ومشروطية قبول الاقليم الأمر الذي يظل بعيدًا، وربما يكون أهم دوافع حكومة الإقليم للمضي قدمًا في الانفصال عن إثيوبيا تفاديًا لتقديم تنازلات لإريتريا.
ويقول محللون، في تصعيد ملفت للانتقادات لقدرة نظام آبي أحمد على الوفاء بالتزاماته الإقليمية، أن اتفاق السلام لم يحقق سوى مكاسب ضئيلة للغاية، مع استمرار غلق طرق التجارة بين البلدين وتجدد التوتر على الحدود بين الحين والآخر. أو على حد ما لاحظه الباحث المعروف Selam Tadesse Demissie بأن ثمار الاتفاق ستظل معلقة بسبب عدم قدرة الحكومة الإثيوبية على حسم المخاوف المستحقة لدى إقليم التيجراي. واعتبر أن مرور عامين دون تحقيق نتائج ملموسة أمر محبط. وأن التفاعل بين الجماعات عبر الحدود لا يزال محدودًا للغاية (باستثناء حوادث إعلامية كما اتضح في العامين الأخيرين). كما لا تزال عملية ترسيم الحدود عالقة لاسيما حول مدينة بادمي Badme([4]).
الموقف من المرحلة الانتقالية في السودان
حقق آبي أحمد المبادرة بتدخل حاسم في إدارة المرحلة الانتقالية في السودان عقب سقوط الرئيس المخلوع عمر البشير (أبريل 2019)، وحظي دوره بتقدير وتنسيق كبيرين من قبل المكونات المدنية الفاعلة في المرحلة، بما في ذلك بعض القيادات التاريخية في السودان التي ارتبطت مواقفها بتوجيهات سياسية من أديس أبابا، أو بالتنسيق معها في أفضل الأحوال كما اتضح في التغييرات التي لحقت باتفاق السلام في اللحظات الأخيرة (أديس ابابا، 25 يوليو 2019).
لكن هذا النجاح الملفت، والذي هدد أدوار إقليمية أخرى، بدأ في التآكل مؤخرًا في ضوء المشكلات الاقتصادية الحقيقية التي يواجهها السودانيون وحالة التذمر المتزايدة إزاء حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، المقرب من أديس أبابا، وفشل الحكومة في تبني “النموذج التنموي الإثيوبي”، واعتماد خطط تنمية تستثني المناطق الحدودية مع إثيوبيا والتي تشهد اختراق إثيوبي للسيادة السودانية بشكل متكرر.
وتكتسب القوات المسلحة السودانية بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان شعبية وثقة متزايدين، على حساب المكونات المتبنية لمواقف مؤيدة للتقارب التام مع أديس أبابا، وربما سيكون من الصعب على نظام آبي أحمد تدارك هذه المسألة، لاسيما مع انتقال المرحلة الانتقالية في السودان إلى مستوى آخر بعد توقيع اتفاق السلام (المبدئي) بين الحكومة وجماعات “المعارضة المسلحة” (أغسطس 2020)، ودمج هذه الجماعات في أبنية الدولة. كما يتوقع أن يقود الاتفاق إلى دمج الجماعات والقوى المهمشة في قلب العملية السياسية، وأن تمتد المرحلة الانتقالية إلى العام 2023، وأن تحصل الحركات المسلحة على ثلاثة مقاعد بمجلس السيادة (الذي يضم حاليًا 11 عضو)، و25% من المقاعد الوزارية والمجلس التشريعي المتوقع تشكيله قريبًا([5]).
وسيقود دعم مسار تسوية المشكلات العالقة في المرحلة الانتقالية بين القوى السياسية والمسلحة المختلفة في السودان، وفي القلب منها تكوين جيش وطني موحد، إلى حرمان أديس أبابا من أحد مكونات قوتها التفاوضية في التأثير في الشئون السودانية الداخلية، لاسيما مع نمو مظاهر الرفض الشعبي السوداني لحكومة عبد الله حمدوك، والتي يمكن أن تتصاعد لمستويات غير مسبوقة في المدى القصير.
خلاصة
يبدو أداء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد باهتًا في ملفات عدة مؤخرًا، ويؤشر على أن لحظات استحقاق التزاماته ووعوده قد حانت بشكل جماعي، وأن سياسة القفز فوق المشكلات والتعويل على تقديم مزيد من الوعود قد باتت مكشوفة تمامًا حتى بين داعمين تقليديين لإثيوبيا وآبي أحمد. ويشكل الوعي المتزايد –أفريقيًا ودوليًا- بطبيعة نظام آبي أحمد القمعي داخليًا، والمراوغ إقليميًا، فرصة حقيقية للنظر بموضوعية لأزمة الدولة الإثيوبية من مختلف جوانبها، وعدم اختزال الدولة في شخص رئيس الوزراء آبي أحمد.
المراجع
[1] Isaac Kfir, The Grand Ethiopian Renaissance Dam and the failure of a transactional foreign policy, Modern Diplomacy, September 14, 2020 https://moderndiplomacy.eu/2020/09/14/the-grand-ethiopian-renaissance-dam-and-the-failure-of-a-transactional-foreign-policy/
[2] Jok Madut-Jok, Ethiopia is Africa’s wobbly giant, Nation, September 15, 2020 https://nation.africa/kenya/blogs-opinion/opinion/ethiopia-is-africa-s-wobbly-giant-2014880
[3] Ibid.
[4] Simon Marks, Since Ethiopia-Eritrea Peace Deal, Little to Show: Analysts, Voice of America, September 16, 2020 https://www.voanews.com/africa/ethiopia-eritrea-peace-deal-little-show-analysts
[5] Dame Rosalind Marsden, Is the Juba Peace Agreement a Turning Point for Sudan? Chatham House, September 14, 2020 https://www.chathamhouse.org/expert/comment/juba-peace-agreement-turning-point-sudan