لكي نغذى دماغ جيش من الجيوش، فى أيام السلم، ونجعله يتجه باستمرار نحو الحرب فليس هناك كتاب أخصب من كتاب التاريخ.
المارشال فرديناند فوش
أهمية التاريخ العسكري
دائما ما احتل التاريخ العسكري مركز الصدارة فى مناهج أرقى المعاهد العسكرية العليا. وأوضح مثال على ذلك الأكاديمية العسكرية الألمانية أولى وأشهر الأكاديميات العالمية التي اعتمدت فى دراستها للاستراتيجية على التاريخ العسكري، خاصة فى أوج تألقها تحت إشراف هيلموت فون مولتكه الذي كان يؤمن بأنه لا يوجد أساس آخر سوى التاريخ العسكري لتدريب الاستراتيجيين.
وقد قامت الأركان البروسية والألمانية بتأثير من مولتكه، بتجميع وتصنيف كافة الوثائق التاريخية، وأضافت إليها كافة الدراسات وخلاصة الخبرات المكتسبة من المعارك التي خاضتها قواتها، ووضعت كافة هذه الوثائق تحت تصرف ضباطها لتكون موجها لهم فى معاركهم المقبلة.
هكذا اعتمد الألمان على التاريخ العسكري لتأهيل قادتهم المحترفين وقد ساعدهم هذا التاريخ فضلا على التفهم الواسع والعميق للاستراتيجية، فوضعوا العالم بأكمله فى موقف حرج طيلة أربع سنوات فى الحرب العالمية الأولي وست سنوات خلال الحرب العالمية الثانية.
كذلك كان الفرنسيون بصورة خاصة، المرجع الرئيس فى الاعتماد على التاريخ ودراسته فى أوربا اثناء النصف الأول من القرن الثامن عشر، ولا يتمتع نابليون بونابرت بأية ثقافة عسكرية غير الثقافة التي اكتسبها من تأمل مؤلفات القادة العظام عبر التاريخ.
ونظرًا لقلة الفرص التي تسنح للعسكريين لممارسة مهنتهم عمليًّا، فإن التاريخ العسكري يشكل بديلا ً لا يستغنى عنه من حيث تقديم الخبرات العملية فى فترة تأهيل العسكريين لمهام القيادة.
دار وثائق بلا وثائق:
ورغم الأهمية المطلقة التي أولتها المعاهد العسكرية العالمية لدراسة التاريخ العسكري إلا ان هذا الأمر لم يجد الصدى الكافي لدي المؤرخين المصريين. وإذا نظرنا إلى حرب أكتوبر عام 1973 والتي تعتبر اخر الحروب التي خاضتها مصر نجد أنه لطالما واجه المؤرخين المصريين المهتمين بدراستها معضلة كبرى تتمثل فى عدم توفر المحتوى الوثائقي الذي يساعدهم فى عملهم؛ فدار الوثائق المصرية (الأرشيف الوطني)، لا تملك ورقة رسمية واحدة تخص الحرب أو العمليات العسكرية التـي دارت أثناءها.
كذلك، لا تملك أية وثائق تخص أي من الحروب التي خاضتها مصر بعد عام 1952، بما في ذلك حرب يونيو 1967. فالوثائق المتعلقة بحرب أكتوبر موجودة بوزارة الدفاع ومؤسسة الرئاسة المصرية. أما مجموعة دار الوثائق التي تختص بالحروب التي خاضتها مصر، فتوقفت قبل العام 1952 الذي شهد ثورة يوليو؛ حيث تضم الدار وثائق القرن التاسع عشر مع تأسيس الجيش في عهد محمد علي ووثائق نظارة الجهادية. بعد ذلك التاريخ، توقفت وزارة الدفاع عن تسليم وثائقها إلى الدار.
يذكر المؤرخ خالد فهمي أن وزارة الدفاع المصرية لديها أرشيف كامل عن حرب 1967، كما عن غيرها من حروب مصر الحديثة، حيث توجد وحدة اسمها “دار المحفوظات العسكرية للقوات المسلحة ” وفى تلك الدار كنوز من الوثائق الفريدة البالغة الأهمية. لكن وعلى الرغم من القيمة التاريخية الفريدة لهذه الوثائق فإنها محجوبة عن المؤرخين والمواطنين ولا يسمح بالاطلاع عليها إلا للعسكريين.
فبحسب القانون رقم 472 لعام 1979، فإن أية وثائق تتعلق بالأمن القومي المصري تعتبر سرية. لكن القانون المنظم للوثائق يلزم الجهات الرسمية بتسليم وثائقها بعد مرور 15 عامًا على تاريخ إنشاء الوثيقة، ويقوم فريق من الدار بالتعاون مع الوزارة المعنية بفهرسة الوثائق وتحديد مدد السرية الخاصة بكل وثيقة وتتراوح في الغالب تلك الفترة ما بين 15 إلى 25 أو 50 عامًا بحد أقصى.
ويتم تمديد حجب الوثائق فوق 50 عامًا في حالتين فقط؛ الأولى حين يكون لأحد الوثائق المتعلقة بالأمن القومي علاقة بالوقت الحاضر، أو حين تتعلق الوثائق بأفراد، كالسجناء مثلاً. وفي تلك الحالة لا يفرج عن الوثيقة سوى بعد 75 عامًا من وفاة الشخص وليس من تاريخ إنشاء الوثيقة.
وبناءً عليه، فإن وزارة الدفاع كان عليها تسليم وثائق حرب اكتوبر 1973 للدار بحد أقصي في 1988. ولطالما طالبت الدار بضم الوثائق لها لإتاحتها للباحثين وللمهتمين بمعرفة تاريخ الحرب.
إن الأصل في الوثائق هو العلانية وليس السرية، أما إذا كانت الوثائق تتعلق بالأمن القومي مثل تقارير المخابرات العامة والتقارير المتعلقة بالأمن القومي، فإنها تعتبر سرية بحسب القانون ويتم حجبها على الوجه الذي ينظمه القانون. لكن نسبة الوثائق السرية والمحجوبة من أي أرشيف في العالم تتراوح ما بين 2 إلى 5% من إجمالي الوثائق.
وهكذا تتعدى مسألة السلطة الأرشيفية مجرد حجب بعض الوثائق أو إحاطة موضوع بصعوبات بحثية واعتبارات المنافسة بين الباحثين؛ فهناك اعتبارات سيادية وأمنية تتدخل فى البحث التاريخي وتمنع إتاحة الوثائق المتعلقة بما يسمى “الأمن القومي” الذي تحتكر الدولة تعريفه وفرضه من دون توضيح الأسباب أومن دون مناقشة ومراجعة مجتمعية مفتوحة، وهو ما يجعل من قضايا التاريخ العسكري المصري المعاصر “تابووهات”. والمثال الأبرز لهذه التابووهات هو وثائق الحروب العربية الاسرائيلية – التي يترك تفسيرها وكتابة تاريخها إما للمروية الرسمية وإما لمصادر ثانوية كالمذكرات أو التاريخ الشفوي من دون الاستناد إلى الوثائق الأصلية مثل محاضر الحرب وكيفية اتخاذ القرارات المصيرية مثل قرار انسحاب الجيش المصري من سيناء في حرب يونيو 1967 أو ملابسات قرار تطوير الهجوم نحو مضائق سيناء في حرب أكتوبر 1973.
وهكذا، تصبح البدائل أمام الباحثين عند التأريخ للحرب، منحصرة عادة في ثلاثة أرشيفات عالمية وهي الأرشيفات البريطانية والأمريكية والإسرائيلية. تقدم هذه الأرشيفات وثائق مكتوبة من وجهة نظر حكوماتهم، وبالتالي تروج لسردية عن الحرب تختلف بالضرورة عن السردية المصرية، لأن تلك السردية الأخرى لاتزال محجوبة حتى الآن.
لقد أفرجت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فى عام 2013 عن 400 وثيقة عن حرب 1973 تتكون من تقارير يومية وتقديرات موقف ومحاضرات اجتماعات فريق الأمن القومي الأمريكي لمناقشة الموقف. وتبع إطلاق المجموعة التي تقع في 3200 صفحة، مؤتمر لمناقشة تلك الوثائق وتقييم دور المخابرات الأمريكية في الحرب لمحاولة فهم الفشل الاستخباراتي في توقع الحرب، وتلا ذلك إصدار تقرير مطول من 62 صفحة يشرح لماذا أخطأت المخابرات الأمريكية كدروس للمستقبل.
تلك الوثائق التي ستعد مصدرًا مهمًا للمؤرخين، يشار فيها طوال الوقت لعبور قناة السويس يوم 6 أكتوبر وما تلاها، على أنه عمل عدائي باعتباره هجومًا يهدد حليفًا للولايات المتحدة. على خلاف وجهة النظر المصرية والعربية التـي رأت في العملية حربًا لتحرير أرض محتلة.
وهذا الخلاف لطالما كان سبباً للمطالبة بإطلاق الدولة المصرية وثائق حرب 1973، لتكون متاحة أمام المؤرخين المصريين والأجانب، كي تفرض وجهة نظر موازنة إلى تلك التـي تفرضها الوثائق الغربية والإسرائيلية.
لماذا لا نستطيع كتابة تاريخ وثائقي لحرب أكتوبر 1973؟
إن كل ما لدينا من كتب ودراسات مصرية عن حرب أكتوبر يعتمد إما على شهادات من شارك بالفعل فيها، أو على روايات من شهدها وعاصرها، أو على كلام الصحف والمجلات وغيرها من وسائل الإعلام وقتها. ولكن لا توجد لدينا دراسة واحدة موثقة عن حرب أكتوبر؛ أي دراسة معتمدة على وثائق رسمية. فالفرق كبير بين أن يسرد الشاذلي مذكراته عن موقفه فى الحرب مثلا، وبين أن نعثر على محضر اجتماع القيادة العامة للقوات المسلحة يوم 13 أكتوبر، مثلا، والذي قد يسجل موقف كل القادة وأقوالهم.
وتبقى المشكلة في أن كتابات القادة الميدانيين، بصرف النظر عن أهميتها، تغص بالتناقضات والادعاءات؛ على نحو قد يزيد من حيرة المؤرخين بدلاً من أن يجلي الموقف أمامهم. فضلاً عن كثيرًا من هذه السرديات الشخصية قد تأثر بالموقف السياسـي في مرحلة ما بعد الحرب. انظر على سبيل المثال ما كتبه السادات لاحقًا؛ أو ما كتب بإيعاز وإملاء منه وما كتب منسوبًا إلى المشير أحمد اسماعيل بعد وفاته بسنوات، وما كتبه الفريق الشاذلي وحوكم عسكريًّا من جرائه. وكذلك ما كتبه اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني؛ وما كتب منسوبًا إلى الفريق محمد حسني مبارك، ونشر بعد خلعه وآخرين. كل هذه الشهادات، المباشرة وغير المباشرة، لا تمثل اية إضافة معلوماتية.
هكذا تم فرض الصمت الحذر على الضباط من صغار الدرجات والرتب، وتم التوصل إلى اتفاق غير مكتوب بين الضباط الكبار على ” الإشادة ” فقط!! ومن خرج عن الاتفاق لقى ما لا يرضيه (الفريق الشاذلي مثالاً) ، لذا كان المجهول عن تلك الفترة أكثر من المعلوم.
وهكذا، وعلى الرغم من مرور ثمانية وأربعين عامًا على حرب اكتوبر 1973 فإن الغموض لايزال يحيط بكثير من تفصيلاتها، وما زلنا نجهل معلومات اساسية عنها فالجيش المصري لم يفرج عما فى حيازته من وثائق عن الحرب والروايات المتداولة عن هذه الحرب لا تعتمد على وثائق رسمية.
إن على هذه الوثائق سيوفر بعض التفصيلات المهمة الغائبة عنا حتى اليوم، والتي ربما تمكننا من بناء سردية محكمة عما جرى فنحن ببساطة وعلى الرغم من مرور كل تلك السنوات لا نملك الا افتراضات وتساؤلات وادعاءات غير مشفوعة بأهم وابسط المعلومات، وما زلنا نتساءل عن حقائق ووقائع.
الوضع المختلف على الجانب الإسرائيلي
على الجانب الإسرائيلي، كان الوضع مختلفًا؛ فقد اهتم الإسرائيليون مبكرًا جدا بمحاولة الكشف عن ملابسات الحرب. وأخذ المواطن الإسرائيلي فى التساؤل، ماذا حدث فى الحرب؟ ولماذا فوجئنا بها؟ ومن المسؤول عما جري على الجبهة الجنوبية مع مصر؟ وما الأخطاء التي وقعنا فيها ؟ عشرات الأسئلة من هذه النوعية كانت على لسان رجل الشارع الإسرائيلي، كان لابد لاحد أن يجيب عن هذه الأسئلة ، لذلك قررت جولدا مائير يوم 8 نوفمبر 1973 تكوين لجنة عليا للتحقيق فيما حدث فى الحرب وبعد عشرة ايام صدر قرار تشكيل اللجنة برئاسة رئيس المحكمة العليا الاسرائيلية القاضي شيمون أجرانات Shimon Agranat، وكانت مهمة اللجنة أن تتقصى معلومات المخابرات بالنسبة للأيام السابقة على حرب يوم الغفران، حول تحركات قوات الدول المعادية لإسرائيل واحتمالات بدء الهجوم وتقييم هذه المعلومات والقرارات التي اتخذها المسؤولون السياسيون والعسكريون للرد على هذا التهديد، وضع جيش الدفاع الاسرائيلي فى أثناء الحرب وقد سميت هذه اللجنة باسم رئيسها فعرفت باسم لجنة أجرانات، إلا أن صحف المعارضة الإسرائيلية أطلقت عليها اسم «لجنة التقصير»، مطالبة إياها بمعرفة وإعلان أسماء المقصرين فى هذه الحرب، بما أدى لإعلان هزيمة إسرائيل، ولعل أهم قرارات «لجنة أجرانات» هو عزل رئيس الأركان الإسرائيلي، ديفيد أليعازر، من منصبه، والتوصية بعدم توليه أية مناصب رسمية فى إسرائيل، بعد تقاعسه فى استدعاء قوات الاحتياطي.
لاحقًا، أخذت الحكومة الاسرائيلية فى الافراج تباعا عن وثائق حرب أكتوبر بالتزامن مع الذكرى الخامسة والثلاثين للحرب، بعد أن تخطت فترة الحظر المسموح بها فى قانون تداول المعلومات الاسرائيلي لتصل عملية نشر وثائق الحرب إلى ذروتها عام 2013 فى الذكرى الأربعين للحرب، وقد قام الدكتور إبراهيم البحراوي بترجمة تلك الوثائق ونشرها فى كتاب من عدة اجزاء تحت عنوان “انتصار اكتوبر فى الوثائق الاسرائيلية “.
الحرب عملية باهظة التكاليف، ونتائج كل حرب هي التي تحدد مدي نجاح الدولة فى تدبير شؤنها العسكرية من حيث التسليح والتدريب وترشيد الإنفاق. ولذلك فإن الدروس المستفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن كونها ثروة للدولة إذا ما اشتركت فى حرب أخرى، بل أن كل الدول تسعى للحصول على الدروس المستفادة من الحروب التي لم تشارك فيها.
وهذه الدروس المستفادة لا يمكن التوصل إليها إلا إذا عٌرفت الاخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف المتنازعة وأدت إلى هزيمته أو وضعه فى موقف صعب. وان اكتفاءنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خلال حرب اكتوبر وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدي قادة الاجيال التالية شعورًا بالتفوق الزائف الذي قد يؤدى الى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم وأجدادهم.
المراجع:
ياسر بكر، حكايات من زمن الخوف: شهادة على العصر، ج2، القاهرة، 2018
جمال صلاح الدين، حرب أكتوبر: القصة الكاملة للصراع، دار الكتب للنشر والتوزيع، القاهرة 2018
مجموعة مؤلفين، التأريخ العربي وتاريخ العرب كيف كٌتب وكيف يٌكتب الاجابات الممكنة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017
سوسن أبو حسين، مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي: قصتي مع السادات، مدبولي الصغير، القاهرة، 1995.
خالد فهمي، أين وثائق حرب اكتوبر؟، جريدة الشروق، 14 اكتوبر 2012
خالد فهمي، عنب وبصل: عبد الحكيم عامر وقرار انسحاب الجيش المصري من سيناء فى حرب حزيران / يونيو 1967، مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد111، صيف 2017.
الأبعاد الجديدة فى التاريخ العسكري، ترجمة: جبرائيل البيطار، دمشق، مركز الدراسات والأبحاث العسكرية، 1981.