أصبحت الديون العالمية حديث الساعة، وهو الحديث المُؤجل الذي تأخّر طويلاً في الحقيقة، ولم يبدأ في لفت الانتباه سوى مع تأزّم الوضع مع ظهور بوادر أزمة اقتصادية عالمية، وتأزّم دولي وانقسام سياسي لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية، والدخول فعليًا في انهيارات دومينو طبيعية متوقعة نتاجًا لهذه الأوضاع المتراكمة؛ كما ظهرت بوادره بوضوح في تركيا، وتجلّى بأوضح وأعنف أشكاله في الانهيار المالي والنقدي بلبنان، وليُتوّج بانهيار سياسي في سيريلانكا، التي كانت منذ بضعة أعوام لا غير موضوعًا لتقارير صندوق النقد الدولي عن وعود الرخاء القادم!
ولم يتوقّف الأمر عند لبنان وسيريلانكا، بل وضعهما تقرير بلومبرج الأخير عن ديون الأسواق الناشئة، كمجرد بداية لسلسلة من حالات العجز عن السداد المُحتملة وصلت حسب تقديره لتسعة عشر بلدًا، منها السلفادور وغانا وباكستان وكينيا وناميبيا، والأرجنتين الحاضرة دومًا، بل ووصل الأمر لبعض الدول الكبيرة والتجارب التنموية المهمة كالبرازيل وجنوب أفريقيا ونيجيريا وتركيا كما سلف القول.
أولاً، ضبط مفاهيم وخلفيات:
هل تُفلس الدول؟
تثير هذه النقطة الجدل، فيما هو مجرد جدل لغوي في الحقيقة، فبينما يعني لفظ “الإفلاس” في القانون التجاري الخاص بالشركات، تصّفية النشاط ببيع الأصول لسداد الالتزامات وإسقاط ما لم يمكن سداده من ديون، لا يمكن تصّفية الدول أو إلغاءها بالطبع، كما أن المكوّن الداخلي من الديون غير ذي خطر غالبًا بهذا المعنى؛ مع امتلاك أغلب الدول للقدرة على الطباعة غير المُقيّدة لعملتها المحلية؛ فالاختلاف على هذه النقطة هو اختلاف أوضاع، وليس اختلاف على المعنى النهائي الأساسي، وهو المكوّن الأول المشترك بين حالتيّ الإفلاس في الشركات والدول، وهو “العجز عن سداد الديون في مواعيد استحقاقها”، فبهذا المعنى وحده، نعم تُفلس الدول.
والفارق بين الدول والشركات، أنه بينما ينتهي وجود تلك الشركات بمجرد تصّفيتها بالمقاصة بين أصولها والتزاماتها وإسقاط ما لم تستطع الأصول تغّطيته من الالتزامات، تمتلك الدول إمكانات أكبر للتعامل مع حالات عجزها عن سداد ديونها، خصوصًا مع الاستحالة العملية لتجاوز الالتزامات أصول البلد، والأهم بالطبع، استقلال الوجود القانوني للدول عن ملكية الأصول بحد ذاتها.
وتتراوح الأشكال الأساسية لتلك الإمكانات ما بين أولاً “إعادة جدولة الديون”، بحيث يتم تأجيل مواعيد سداد المتأخرات لآجال زمنية أطول، وربما تقديم قروض جديدة لتيسير سداد الضرورات والالتزامات العاجلة، وثانيًا “إسقاط الديون” في حالات العجز المُطلق، والذي لا يخلو عادةً من أثمان سياسية، وثالثًا “السداد بالأصول الوطنية”، بمُبادلة بعض الأصول الوطنية بالديون، أو تقديم امتياز بإدارتها والاستفادة من عوائدها للدائنين لفترة زمنية كافية، كتعويض عن الديون غير المُسدَّدة، في أكثر الحالات خطورة.
لكن لماذا تفلس الدول؟
الواقع أن الأسباب الكامنة خلف الإفلاس كثيرة، وتتراكم عبر عدة مستويات، منها ما هو بنيوي إستراتيجي يتصل باختلالات في صُلب التكوين الاقتصادي والاجتماعي، ومنها ما هو سياسي ومؤسسي نتاج سوء الإدارة الحكومية لموازينها الداخلية والخارجية، ورغم أهمية المستوى الأول، الأكثر عمقًا، كجذر تاريخي لحالات العجز والمديونية المُزمنة، فإن أغلب الاختناقات الشديدة التي تنتهي لها الدول، إنما تنتج عن المستوى الثاني، الأكثر مباشرةً وسطحية، المُتعلّق بسوء الإدارة، فحتى وإن كان البنيوي الإستراتيجي يضع الجذور لحالات العجز والهشاشة طويلة الأجل، يظل سوء الإدارة السياسية وضعف الكفاءة المؤسسية هو ما يفعّلها ويعجّل بانفجار اختناقاتها دومًا؛ خصوصًا مع مسئولية الإدارة الرشيدة نفسها ليس فقط عن مراعات قيود وإشكالات العجز والهشاشة المذكورين، بل أيضًا وضع الأسس لمعالجتهما أو تقليص حدودها على الأقل.
ويُضاعف من أهمية المسئولية السابقة، الاحتمالات القائمة دومًا لحدوث الأزمات والاختناقات والانهيارات الاقتصادية والسياسية الإقليمية والعالمية؛ وما يمكن أن ترتّبه من اهتزازات للدول الكبيرة المستقرة، فما بالنا بالدول الصغيرة والضعيفة التي تعاني غالبًا وجوهًا عديدة من الهشاشة؛ لهذا اكتسبت مسألة المرونة والصمود أهميةً كبيرة في الدراسات الاقتصادية والتنموية الحديثة، والتي تعني الاستعداد المُسبق بما يحدّ من تأثيرات الأحداث غير المُخططة على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الوطنية، من خلال تقليل درجة الانكشاف الخارجي من جهة، وتعزيز المناعة الذاتية وإمكانات الاستجابة والاحتواء الداخلية من جهة أخرى.
لكن، هل توجد ضرورة موضوعية للاستدانة؟
هنا الإجابة، وبناءً على ما سبق، تاخد اتجاهين في ذات الوقت، نعم ولا، فهى نعم لمبدأ الاستدانة بحد ذاته، وهى لا قوية للاستدانة المُفرطة أو غير الرشيدة بعامة.
فأما الـ “نعم”؛ فبالأساس بسبب الحاجات المتزايدة للدولة الحديثة مع ما استحدثته الرأسمالية من متطلبات “رأسمال اجتماعي” ضخم متزايد لحاجات التراكم الاقتصادي والتطور الاجتماعي من بنية تحتية وخدمات اجتماعية وما شابه، فضلاً عن الضرورات المتعلّقة بقصورات تلك الرأسمالية ذاتها من سياسات تعويضية لفشل السوق عن توفير بعض الحاجات الاجتماعية الأساسية، ولتخفيف آثار سوء توزيع الدخل والثروة اللصيقين بالرأسمالية. وما يرتبط بهذا كله من حاجات استقرار سياسي واجتماعي، وهو ما أدى بمجموعه لاقتراح بعض الاقتصاديين لحتمية العجز المالي للدولة الرأسمالية في الأجل الطويل، منهم جيمس أوكنور الذي خصّص للظاهرة كتابًا كاملاً بعنوان “الأزمة المالية للدولة الرأسمالية”، طرح فيه نظريته بأن العجز في موازنة الدولة الرأسمالية ليس عجزًا عَرضيًا، بل عجز متأصل في طبيعتها ذاتها؛ بشكل يجعل زيادة النفقات عن الإيرادات حتمية مستمرة؛ لضرورة تحقيق المهمة المزدوجة للتراكم والاستقرار، على ما سلف وذكرنا، وكما تثبت عمومًا المديونيات الهائلة لأغلب دول العالم، بما فيها معظم الاقتصادات المتقدمة المعروفة.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد في الدول النامية، حيث تعاني عبئًا مُزدوجًا، بتحمّلها إلى جانب حاجات الدولة الحديثة المذكورة، متطلبات النهوض برأسمالياتها الناشئة بما يتفرضه من اقتراض حتمي لتحقيق حاجات التنمية (فجوة الموارد/الاستثمارية الشهيرة في الستينيات)، مع إنفاق أكبر لحاجات الاستقرار مع ضعف تلك الرأسماليات عن أداء أدوارها على جبهات الإنتاج والتشغيل وإشباع حاجات السوق المحلية؛ ما يُضاعف بمجموعه أعباء تلك الدولة، والفجوة بين حاجاتها ومواردها؛ بشكل ينعكس على موازاناتها العامة، كما ينعكس بقوة على موازين تجارتها ومدفوعاتها الخارجية، خصوصًا مع الترابط والاستطراق المتبادل ما بين الاثنين.
أما الـ “لا” للاستدانة المُفرطة وغير الرشيدة؛ فتنطلق بالطبع من تعريف لها بأنها ببساطة ما يتجاوز قدرة الاقتصاد على السداد المريح لالتزاماته، ولا يُوظف بأفضل شكل ممكن فيه، الأمر الذي يختلف من اقتصاد إلى اقتصاد بحسب قدرته الاستيعابية على الاقتراض، ومن دولة إلى دولة بحسب مُعطياتها السياسية التي قد ترتفع مخاطر استدانتها أو تنخفض بحسب طبيعة علاقاتها الدولية وصراعاتها الإقليمية وأولوياتها ذات الصلة؛ بشكل يفرض حدودها في الاقتراض، فضلاً عن اتجاهاته ومصادره الجغرافية والنوعية معًا.
وينقلنا ما سبق للأسئلة الأكثر تفصيلاً، فبفرض قبلنا مبدأ ضرورة الاستدانة بحد ذاته، فما هي الأخطاء المُحتملة في التعامل معه، التي تجعله مُفرطًا كميًا و/أو غير رشيد كيفيًا؛ ومن ثم طريقًا سريعًا للإفلاس!
ثانيًا: الأخطاء الكُبرى للاقتراض المُفرط وغير الرشيد:
تتوزّع هذه الأخطاء على ثلاثة مستويات أساسية، تتنازل هبوطًا من أكثرها سطحية، على المستوى “المالي” البحت، المتعلّق بالأبعاد التقنية للاقتراض أو نمط الاستدانة، إلى المستوى “الاقتصادي” الوسيط، المتعلّق بأبعاد الكفاءة العامة أو منطق الاستدانة، وصولاً إلى المستوى “البنيوي” الأكثر عمقًا وأساسية، المُتعلّق بالأبعاد الإستراتيجية للإستدانة.
فما هي الأخطاء المالية التقنية المُحتملة في الاقتراض؟
أول هذه الأخطاء المالية التقنية المتعلّقة بنمط التمويل أو شروط الاقتراض، هو عدم توافق وتوازن آجال استحقاق القروض الخارجية وموارد النقد الأجنبي التي ستسدد خدماتها من أقساط وفوائد، فواحد من أهم وأبرز مبادئ التمويل هو عدم تمويل استثمار طويل الأجل بمصدر تمويل قصير الأجل، ويُفضل بشكل عام التقليل من الحصة النسبية للقروض قصيرة الأجل في هيكل الدين الخارجي؛ لما يسببه ارتفاعها من هشاشة أعلى في الوضع المالي والائتماني للدولة، ويمثّل اعتراف وزير المالية المصري مؤخرًا بخطورة الاعتماد على الأموال الساخنة أحد أبرز النماذج على هذا الخطأ المالي شديد الكلاسيكية.
ثاني الأخطاء، هو اللجوء بلا ضرورة لمصادر تمويل مرتفعة التكلفة، صراحًة أو ضمنًا؛ لما تسبّبه من أعباء وخسائر غير ضرورية، حال وجود بدائل تمويلية أقل تكلفة، ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن تناقص مصادر التمويل منخفضة التكلفة، سواء عمومًا على مستوى أسواق المال، أو خصوصًا للدولة المعنية، إنما يعني بذاته إما مخاطرًا أعلى في الاقتراض عمومًا في تلك الفترة، أو اقتراب الدولة المعنية من سقف قدرتها الآمنة على الإقتراض؛ ومن ثم خطورة استمرارها فيها.
ثالث الأخطاء، عدم الالتزام بميزان صارم للنقد الأجنبي، بما يعني عدم تجاوز مجرد وجوده الحسابي أو التقني، إلى الاستفادة الحقيقية منه في المراقبة والتخطيط المُنضبط لحركة النقد الأجنبي، والعلاقة بين مُدخلاته ومُخرجاته؛ بما يضمن عدم الاختلال المستمر والمُزمن بشكل يؤدي إلى تراكم العجوزات المتتالية، فضلاً عن التنبيه السريع للتعامل المبكّر معها وعدم تركها لتستفحل سنةّ وراء سنة لتخرج مع الوقت عن السيطرة وتصل إلى نقطة اللاعودة، وبمُجمل القول، عدم استخدامه كأداة أكثر تقنية ضمن ترسانة معرفة حدود الاستدانة الآمنة للدولة.
رابع الأخطاء، سوء توظيف القروض، بعدم الالتزام بمعايير الجودة المالية والعائدية الاقتصادية والاجتماعية للمشروعات المُنفذّة بها، فضلاً عن قدرتها المالية على سداد أعبائها من النقد الأجنبي خصوصًا، أو على الأقل دعمها غير المباشر لذلك، وهو ما لا يعني بالضرورة تغليب نظرة ضيّقة الأفق تركّز فقط على توظيف كافة القروض الخارجية في مشروعات تصدير تدرّ عملة صعبة، لكن على الأقل مراعاة هذا البُعد ضمن مراعاة أبعاد الجدوى الاقتصادية للمشروعات عامًة، وعدم الإفراط في الاستثمار في مشروعات البنية التحتية بالخصوص؛ التي ينتهي بعضها مع عدم نجاحه في جذب الاستثمارات المُنتجة لأن يصبح مجرد إنفاق استهلاكي من الوجهة العملية، وهو ما تدعمه الدراسات القياسية التي وجدت محدودية لعوائد مشروعات البنية التحتية في ضوء فشلها في تحقيق ذلك الهدف؛ ما تكون نتيجته ربحية اجتماعية سالبة أحيانًا.
خامس الأخطاء، وارتباطًا بالخطأ الرابع، غياب الشفافية والمسائلة، فكما هي شرط للقدرة على التعامل مع أسواق المال الدولية، فهى من جهة شرط لجودة توظيفها اقتصاديًا وتقنيًا، ومن جهة ثانية، ضرورة لمصداقية تعبيرها عن المصالح الوطنية الحقيقية للشعب -من خلال مُمثّليه وتقنييه- كصاحب الحق الأول والأصيل قبل أيّة حكومة أو مسئول في تقرير الاقتراض من عدمه ابتداءً، ناهيك عن توظيفه في أولوياته كما يحدّدها هو ثانيًا؛ لاعجب فيما أثبتته الدراسات والتجارب التاريخية من فشل وفساد وسوء توظيف الدول الاستبدادية غالبًا لقروضها، فضلاً عن سوء سياستها الاقتراضية نفسها ابتداءً.
والآن، بالانتقال إلى المستوى الثاني، الاقتصادي، ما هي أخطاء الكفاءة الاقتصادية المُحتملة في الاقتراض؟
أول هذه الأخطاء، والمُتقاطع مع الخطأ الرابع الخاص بتوظيف القروض، لكنه هنا بشكل أكثر عمومية، هو الاقتراض لأغراض استهلاكية صريحة، أو لتدوير خدمات قروض سابقة، أو لسداد عجز جاري بالميزان التجاري، فهذه كلها إشارات كارثية على اختلال خطير يعكس عدم استدامة التكوين الاقتصادي والنموذج التنموي القائم، وهو خطأ لا يصحّ التسامح معه أو قبوله إلا كحل استثنائي لتجاوز الأزمات العَارضة شديدة الاستثنائية، فالقبول به كنهج مستمر هو طريق أكيدة للإفلاس عاجلاً أو آجلاً.
الخطأ الثاني، هو عدم مراعاة القدرة الاستيعابية للاقتصاد على الاقتراض، وكما هو واضح فهو الصيغة الأوسع من خطأ ضعف الجدوى المالية للمشروعات وعدم مراعاة قدراتها التوليدية من العملات الصعبة، فهو يتعلّق بمدى قدرة الاقتصاد بمجموعه على الحصول على النقد الأجنبي، أو بشكل أكثر تحديدًا مقدار ما يحصّله منه مقابل ما يحتاجه، وهنا يلحق به خطأ شائع هو اعتماد معايير الاقتراض والاستدانة الخاصة باقتصادات أكثر تقدمًا، كما يشيع استخدام معيار آمان الـ 60% المعتاد (دين عام/الناتج المحلي الإجمالي)، والذي ينطلق من قياس خاطئ لا يراعي اختلاف ظروف وأوضاع الاقتصادات التابعة محدودة التصنيع والقدرة التصديرية، عن ظروف الاقتصادات المتقدمة التي تتمتّع بكل ذلك، والتي وُضع المعيار على أساس ظروفها الأفضل نوعيًا.
خطأ ثالث، يرتبط بالخطأ السابق، هو حساب القدرة الاستيعابية فقط على أساس المعايير الكمّية، دون مراعاة الاعتبارات الكيّفية، فموارد أقل من النقد الأجنبي لكن مُستقرة مُستدامة، خير من موارد أكثر منه لكن متقلّبة وغير مضمونة، كما أن ميزان مدفوعات يعتمد على موارد نقد أجنبي من النوع الأخير، لتغطية احتياجات نقد أجنبي ضرورية مستمرة، كما هو الحال في الخبرة المصرية عبر الخمسة عقود الماضية، التي اعتمدت نهجًا مستمرًا من الاعتماد على موارد ميزان الخدمات، مُكوّنة في معظمها من تحويلات المصريين بالخارج (ومعها موارد متقلبة أخرى من السياحة والنفط)، في سدّ عجز مُزمن بالميزان التجاري، مُكوّن في معظمه من فجوة واردات من الغذاء ومُستلزمات الإنتاج، هو ميزان مدفوعات غير مُستدام ، بشكل يجعله أقرب لقنبلة على أُهبّة الانفجار مع أي أزمة مفاجئة أو حتى مجرد مشكلة دبلوماسية تؤثر بشكل معتبر على أحجام تلك التحويلات والموارد غير المُستقرة.
يبقى المستوى البنيوي، فما هي الأخطاء الإستراتيجية البنيوية المُحتملة مع الاقتراض؟
هنا نجد ثلاثة أخطاء أساسية، يمكن إيجازها أولاً في عدم وضوح الدور التنموي للاقتراض على مستوى مُجمل الإستراتيجية التنموية للدولة، فالمُفترض بسياسات الاقتراض الثقيل ان تكون مجرد سياسات مؤقتة لأغراض مُحددة، وبأهداف إستراتيجية تتعلّق أساسًا بالتغيير النوعي للهيكل الاقتصادي والقدرة الإنتاجية للاقتصاد المعني، وذلك ضمن إستراتيجية تنموية أكثر شمولاً، لا يمثل الاقتراض فيها سوى مجرد وسيلة وإجراء اضطراري لتعويض فجوة الموارد، وليس لُبًا ولا أساسًا لها؛ ينتهي بها عاجلاً أو آجلاً لتأزّمات كالتي شهدتها أغلب تجارب النمو بالمديونية كتركيا وغيرها.
ويأتي ثانيًا، خطأ عدم مراعاة الآثار الارتدادية لاستخدام القروض في ضوء طبيعة الجهاز الإنتاجي للاقتصاد؛ فحقن الاقتصاد بإنفاق مُستقل بقروض خارجية، في ظل بنية إنتاجية محدودة المرونة، سيؤدي غالبًا لتضخّم في المستوى العام للأسعار وتشوّه في التخصيصات والتوزيعات الإنتاجية والدخلية في السوق، بأكثر مما سيرفع مستوى القدرة الإنتاجية والتشغيل إلى حدوده القصوى، وبتعبيرات أكثر تقنية، تخلق من الأثر النقدي أكثر مما تنتج من الأثر العيني، فالموارد ليست أهم مكوّنات معادلة الاقتصاد والتنمية، بل ديناميات عملهما التي تحدّد الآثار الحقيقية لاستخدام تلك الموارد.
أخيرًا، وثالث الأخطاء والمهم بشكل خاص، هو الارتباطات والتكاليف السياسية المرتبطة بالاقتراض؛ فمن النادر ندرة النمور البيض أن يتنزّه الاقتراض عن الأثمان والأغراض السياسية، خصوصًا الاقتراض من المصادر العامة الأقل تكلفّة، بما فيها المنظمات الاقتصادية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدولي، اللذيّن لا يختلفان جذريًا عن “صندوق الدين” الذي فرضته إنجلترا وفرنسا على مصر بعد إفلاس إسماعيل؛ فأي اقتراض يؤثر على الاستقلال الاقتصادي والسياسي للدولة هو “دواء فيه سمّ قاتل”، وليس مجرد اقتراض سيئ، مهما كان اضطراريًا.