هناك خطأ شائع في مصر يدور حول الاعتقاد بالتناقض بين أن يكون بلدًا ما زراعيًا وأن يكون كذلك بلدًا صناعيًا، وكأن الأمر اختيار حتمي بين بديلين متعاديين لا يمكن اجتماعهما، فيما يكذّب الواقع والتاريخ هذه الجدلية الغريبة بحقيقة أن الدول الصناعية الأكثر تقدمًا اليوم هي نفسها قوى زراعية كُبرى، بل وينتمي معظمها لأكبر مصادر الغذاء في العالم.
والواقع أن هذا الجدل البيزنطي القديم، وبغض النظر عن سوء النية المُضمَر ورائه كجدل مُصطنع ومدعوم عمدًا منذ فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، إنما يعكس حال افترضنا حسن النية ضعفًا في فهم عملية التقدم الاقتصادية والتنمية الشاملة بمعناها الحديث؛ فلا انفصال حقيقي بين القطاعين السلعيين الأهم، فلا تقوم قائمة لصناعة دون زراعة كفئة توفّر سلعًا غذائية وفيرة بأسعار منخفضة وفائضًا استثماريًا، فضلاً عن العمالة للإنتاج والطلب السوقي على منتجاتها، ولا تطوّر مُستدام للزراعة دون تطويرات تكنولوجية وتجديدات تنظيمية ترفدها بها الصناعة باستمرار.
ولعل المُفارقة التاريخية الكاشفة عن مدى لا جدوى ولا معنوية هذا الجدل، هي أن أول تراجع في الاهتمام الحكومي المصري بالاستثمار العام في القطاع، قد تزاوج مع تراجع الاهتمام بالصناعة كذلك؛ ليتزامن الاثنان مع تصريحات الرئيس السادات بأن “مصر بلد زراعي” أواسط السبعينيات، حيث تراجعت استثمارات الدولة في القطاع من 16.6% من إجمالي الاستثمارات العامة عام 1970م، إلى 4.2% منها عام 1980م، والذي توازى مع التدهور في القدرات الإنتاجية والتقنية للقطاع، وبطبيعة الحال، تسارع اتساع الفجوة الغذائية، من 1.7 مليون طن من الغذاء بقيمة 984 مليون دولار، إلى 7.4 مليار طن من الغذاء بقيمة 1.9 مليار دولار، خلال نفس الفترة (1970-1980م).
فضعف الزراعة المصرية؛ المنعكس في عدم كفاية نتاجها الزراعي والفجوة الغذائية الضخمة؛ وارتفاع تكاليف الغذاء بالتبعية، هو نفسه أول قاعدة لضعف الصناعة المصرية؛ فالزراعة تصوغ تكاليف سلة “السلع الأجرية” الأساسية؛ ومن ثم يرفع عجزها الإنتاجي متوسط الأجور الصناعية، حتى في مستوى الكفاف المُطلق؛ ما يضعف إمكانية نمو القطاع الصناعي محليًا، ناهيك عن قدرته على المنافسة خارجيًا.
أساطير ليبرالية: بين كفاءة التخصّص وضرورة الكفاية!
والحقيقة المثيرة للتأمل، هو أن هذا الجدل لا ينفصل أبدًا عن أصوله الاستعمارية، التي كانت تحاول دومًا تصوير مصر كبلد زراعي أبدًا؛ لإبقائها في موقعها المُحدد من تقسيم العمل الدولي حينها، كمصدّر للأقطان التي تُصنّع في إنجلترا مستعمِرة مصر لثلاثة أرباع قرن، ولا عجب في عودة هذا الخطاب الاستعماري من الشباك فترة الانفتاح الاقتصادي، في صورة الخطاب “التقني الأمين”، من خلال المنظمات الرأسمالية الدولية التي تحاول تصوير الأمر كنصيحة فنية نزيهة عارية عن أي غرض، فيما الواقع أنها مجرد تكرار للأساطير الليبرالية التي سبق وفضحها الاقتصاديون التاريخيون، القوميون في جُملتهم، وعلى رأسهم الاقتصادي القومي الألماني فريدريك ليست (1789-1846م)، كأساطير تخفي المصالح المهيمنة للمراكز المهيمنة عالميًا في أردية الكفاءة الاقتصادية المُجردة، حتى أن الاقتصاديين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، ممن ساروا على خُطى ليست، قد وصفوا تلك الحرية التجارية المُقدسة باعتبارها مجرد إيديولوجية بريطانية للهيمنة الاقتصادية على الدول الأضعف صناعيًا.
لهذا فالخطاب الليبرالي الذي يزعم ضرورة الاقتصار على المعايير التقنية وحدها في صياغة التركيب المحصولي والتجارة الخارجية الزراعية، من خلال التخصّص في أكثر المحاصيل إدرارًا للربح بمعناه الضيق، هو ليس خطابًا نزيهًا، ناهيك عن أن يكون حكيمًا، يراعى مخاطر تلك الإستراتيجية من الوجهة الوطنية، التي تستلزم ضرورة توفّر حد أدنى من الكفاية من المحاصيل الأساسية ذات الطابع الإستراتيجي، ولعلّ الموقف الصعب الذي واجهته مصر وغيرها من الدول مع الحرب الروسية الأوكرانية ليكفي كنموذج دال على مدى ضيق أفق هذا الخطاب -التجاري- التقني منزوع الحساسية الإستراتيجية، ومدى خطورته الاجتماعية والسياسية.
الوضع الحالي للزراعة المصرية
هذا الإهمال في الزراعة تدفع مصر ثمنه اليوم غاليًا على عدة جبهات، أولها الفجوة الغذائية في محاصيلها الإستراتيجية بشكل يهدد أمنها الغذائي العام، وثانيها فيما نتج عن تلك الفجوة الغذائية المُزمنة من ضغط على التوازن الخارجي للاقتصاد، كما يتجسّد في ميزانيّ التجارة والمدفوعات والنقد الأجنبي وسعر الصرف، أما ثالثها فهو عدم نجاحها في خفض أسعار سلة السلع الأجرية؛ ومن ثم خفض تكاليف الأجور الصناعية؛ وتيسير انطلاق الصناعة الوطنية.
وهكذا، فبدلاً من أن تكون الزراعة المصرية أساسًا ومنطلقًا للتنمية والتصنيع، كما هو المُفترض، وكما حدث تقريبًا بكافة تجارب التنمية الاقتصادية الحديثة، إذا بها تصبح عبئًا عليهما، علمًا بأننا نتحدث عن الزراعة في بلد لا يزال الريف يشكّل حوالي 57% من سكانه، ولا تزال الزراعة تشغّل ما بين خُمس وربع قوته العاملة تقريبًا، بينما يساهم القطاع بحوالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي معدلات مرتفعة تعكس التخلّف الاقتصادي من الوجهتين التشغيلية والديموغرافية للقطاع، فضلاً عن انخفاض إنتاجيته العامة.
تلك الإنتاجية التي تظهر اتجاهاتها حالة أقرب للركود المُزمن منها للنمو المعنوي المُستقر، فخلافًا للتقلّبات العَارضة في المؤشر، نمى الرقم القياسي لإجمالي إنتاجية عناصر الإنتاج الزراعية (من أرض وعمل وآلات ومستلزمات إنتاج) كاتجاه عام بنسبة 14% فقط لكامل الفترة 2000-2016م؛ ما يعكس غياب الإستراتيجية والمنهجية عن تطوير النشاط الزراعي، كما يتسق مع غلبة العشوائية والإهمال النسبي للقطاع، الأمر الذي يؤكده انخفاض مؤشر التوجّه الزراعي للإنفاق الحكومي خلال نفس الفترة تقريبًا، بانخفاضه من 0.182 إلى 0.13 خلال الفترة 2000-2019م، بمتوسط انخفاض سنوي 2.3% تقريبًا، كذا تقلّبه بالتراوح ما بين 0.275 عام 2004م و0.114 عام 2016م، وبمتوسط عام 0.157 لكامل الفترة.
والمُفارقة أن يعاني القطاع هذا الركود والإهمال في سياق يتطلّب العكس بالضبط، أي سياق تراجع الموارد المادية للقطاع، كما يتجلّى في تراجع متوسط المساحة الزراعية للفرد لأقل من 0.1 فدان، ونزول البلد لما دون مستوى الفقر المائي، بل واقترابها من حد الندرة، فتقلّص الموارد الزراعية وحالة الندرة المادية عمومًا، من المُفترض أن يدفعا للاهتمام برفع الكفاءة والإنتاجية لتعويض الإنخفاض الكمّي للموارد بالتحسين الكيفي لاستخدامها من وجهتيّ التخصيص والتشغيل.
ويكفي أن نعرف في هذا السياق أن متوسط نصيب العامل الزراعي المصري من القيمة المُضافة في القطاع البالغ 5772 دولار عام 2019م، ينخفض حتى عن متوسط نظيره على المستوى العربي، المُنخفض أصلاً بدوره، بمقداره البالغ 6595 دولار في ذات العام، كذا لم يتجاوز مؤشر الكفاءة الاقتصادية الزراعية (وهو حاصل قسمة “نسبة الناتج الزراعي من الناتج المحلي الإجمالي” على “نسبة القوة العاملة الزراعية إلى القوة العاملة الإجمالية”) لمصر 0.47% في نفس العام، بما يؤكد بمجموعه التواضع النوعي لعمل القطاع، تمامًا كتواضع نتاجه الكمّي، حتى بالمعايير العربية المنخفضة، ناهيك عن المعايير العالمية.
حتمية التحديث التقني للزراعة المصرية
ينقلنا هذا كله للحتمية المؤجلة في مصر، والتي سبقتنا إليها جزئيًا دول كانت تشاركنا نفس الإشكالات تقريبًا كالهند، وهى الثورة الزراعية التي تنتقل بالزراعة المصرية إلى العصر الحديث، أي تعيد هيكلة وتنظيم وصياغة كافة عمليات الإنتاج الزراعي بصورة حديثة تتجاوز جذريًا الأساليب القديمة التي ربما كانت تناسب بلدًا من عشرين أو ثلاثين مليون، فيما أصبح استمرارها مع بلد تجاوز المئة مليون أمرًا يدخل في باب الحماقة الانتحارية.
يعني هذا التحديث التقني لكافة مراحل وأبعاد العملية الزراعية، بدءًا من تطبيق تقنيات الزراعة الحديثة، كالزراعة المائية بدون تربة، التي تتجاوز قيد الأرض الثقيل، وتقنيات الري بالتنقيط وغيرها الأكثر اقتصادًا في استهلاك المياه، مع التوسع في تقنيات تدوير وتنقية مياه الصرف الزراعي، ومروراً باستخدام البذور المُحسّنة وراثيًا الأعلى إنتاجية، ووصولاً إلى تطوير آليات النقل والتخزين والتصنيع الزراعي التي تقلّص الهدر الهائل وترفع القيمة المُضافة في منتجاته وصادراته لأقصى إمكاناتها الممكنة.
كما أنه حتى على صعيد التقنيات المُتاحة، يمكن نقل الأطنان المتراكمة من الطمي في بحيرة ناصر، والمُقدّرة بما يتراوح ما بين أربعة وستة مليارات طن، إلى الصحراوين الشرقية والغربية لرفع درجة خصوبة الأراضي بها، والتي يمكن بها استصلاح ما لا يقل عن مئات آلاف الأفدنة، إن لم يكن ملايين الأفدنة؛ بما يجعلها أقرب ما تكون لتربة طينية سوداء صالحة لإنتاج أكثر المحاصيل الزراعية أهمية وإستراتيجية للبلد.
علمًا بأن مشروع كهذا، والذي لن يكلّف على الأرجح بضعة عشرات من المليارات، كما يمكن أن تظهر عوائده الإنتاجية وآثاره الاقتصادية خلال مدى زمني قصير ربما لا يتجاوز الخمسة أعوام لا غير، لن يرفع فقط كفاءة عمل السد العالي وأجهزته، ولن يسهّل فقط الاستفادة من الموارد الأخرى بالبحيرة من ثروة سمكية ومعدنية وغيره، بل إنه كفيل بخلق مجتمعات عمرانية كاملة، ريفية بالأساس، حول ضفّتي النيل خارج الوادي الضيق؛ بما ستوفّره من إنتاج وخدمات ووظائف، فضلاً عن تخفيف الضغط عن الوادي الضيق ببنيته التحتية المُثقلة وبنيته الإنتاجية الراكدة، وزيادة الإنتاج الزراعي وتقليص الفجوة الغذائية والواردات الزراعية بالطبع.
تصنيع مصر المشروط بثورة زراعية
وبالطبع لا ينفصل أي تحديث تقني جذري عن تحديث اجتماعي موازي؛ ما يعني ضرورة مراجعة أنظمة الملكية وتنظيمات الإنتاج في الزراعة، بشكل يتجاوز المشكلات التي تعوق تطوير الإنتاجية العامة وكفاءة العمل الزراعي، فضلاً عن، والذي يحظى بأهمية خاصة في سياقنا العاجل، أنماط التخصيص الإنتاجي؛ فلا يُعقل ترك التركيب المحصولي لحوافز الربح الضيقة؛ بشكل تحظى معه المحاصيل المكلّفة مائيًا ومحاصيل العلف الحيواني، بنسب معتبرة من الموارد الزراعية، من أرض ومياه وعمل فلاحي، بينما تعاني البلد عجزًا في إنتاج الغذاء البشري الأساسي وندرة متزايدة في المياه.
ما يعني بمُجمله حتمية إنجاز الثورة الزراعية التي لم تنجزها مصر، والتي تمثل بذاتها القاعدة والمُنطلق لكافة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى المحتملة والضرورية لإطلاق عملية التنمية المتأخرة، والتي ندفع اليوم الثمن غاليًا، وسنستمر بالدفع كثيرًا، لفشلها المُذري الذي بدأ من الفشل في تحديث الزراعة، والذي لا حل له، ولا خروج منه، إلا بالتغلّب على ذلك الفشل؛ فحتى التصنيع المُستقل “مركز التنمية” الحديثة والتحوّل الرأسمالي، مشروط بـ “قاعدة التنمية”، أي بتثوير الزراعة.