العالم يتجه إلى اليمين. أصبح هذا أحد الملامح الهامة لمشهد التحولات السياسية والاجتماعية في مختلف البلدان في العقود الأخيرة. لم تعد المليشيات الجماعات اليمينة على هامش الحياة السياسية، بل تصدرت المشهد أو على الأقل فرضت أجندتها التي تدور حول سياسات الهوية حتـى على اليسار والمؤسسات الليبرالية. الأخطر من هذا أن الجماعات اليمينة الأكثر تطرفًا راحت تعلن عن نفسها في أعمال عنف موجه ضد الأقليات، كما حدث في مذبحة كرايست-تشيرش في نيوزيلاندا، ٢٠١٩، أو ضد الكنيس اليهودي في أو كنيسة المسيحين السود في الولايات المتحدة، وغيرها.
في كتابها عن هذا الظاهرة، ترصد سينثيا ميللر- إدريس، أستاذ التعليم والاجتماع بالجامعة الأمريكية بواشنطن، معالم هذا الصعود. ويعنى كتابها بدراسة نشأة اليمين المتطرف، وتتبُّع خطابات جماعات اليمين المتطرف العنيفة، وفلسفتها في التضليل والتسويغ لنظريات المؤامرة، والطرق التي تعتمد عليها لاستقطاب الشباب، وكيفية استهداف المهمَّشين منهم الذين يسهُل إقناعهم بمشروعية الجماعة. مع الاهتمام بالتطرف اليميني في الولايات المتحدة الأمريكية في العِقد الأخير، والإشارة إلى أحداث عالمية مرتبطة بصعود اليمين المتطرف.
تقول ميللر-إدريس إن دراسة اليمين الجديدة تستدعي النظر إلى أربع تصنيفات غالبًا ما تتداخل في تعريف اليمين المتطرف. هذه الفئات هي الممارسات والأفكار المعادية للحكومات والمعادية للديمقراطية؛ والأفكار الإقصائية التـي تنزع صفة البشرية عن الآخرين؛ والمؤامرات والتهديدات الوجودية، والتصورات التسارعية المشغولة بنهاية العالم. يمثل هذا الطيف الواسع التيارات المختلفة التـي يتشكل منها اليمين المتطرف الجديد. وبالتالي، فهو مشهد أكثر تعقيدًا وتركيبًا من اليمين القديم الفاشـي والنازي الذي ارتكز حول القومية المتطرفة بشكل حصري.
تركز ميللر- إدريس على وضعية اليمين المتطرف في الغرب، والذي يتبنـى أجندة عرقية، تعرف ب”استعلاء البيض White Supremacy”. وتمثل الرغبة في إنشاء دولة عِرقية للبِيض أو استعادة تاريخ أمجاد البيض هي أصلُ دعَوات اليمين المتطرف. وتتضح هذه الدعوة في النشاط ضد الهجرة، ولا سيَّما هجرةِ الأقلِّيات الاثنية، وتسريع الحرب العِرقية؛ من أجل تحقيق ولادة جديدة، واستعادة حضارة الأجداد. إذ لدى المتطرفين اليمينيين والجماعات العنصرية جغرافيا واضحةٌ للنشاط العنصري، تقوم على التزام مشترك بالفصل الإقليمي والاجتماعي بين الأعراق. وتنتشر هذه الرؤية أيضًا في قلب مجموعات الطيف الأوسع لليمين المتطرف، الذين يزعمون أنهم انفصاليون بِيض يريدون “دولة بيضاء”، وليسوا متعصبين للعِرق الأبيض.
ويجادل هؤلاء الانفصاليون بأن النخب العالمية تهدِفُ إلى القضاء على العِرق الأبيض بزيادة الهجرة وتمكين الأقلِّيات. فالدول العِرقية البيضاء ليست مجردَ أوهام من مجموعات هامشية؛ فهي أهداف سياسية حقيقية، ومقترحات حاولت الجماعات تنفيذها، ولا تزال تحاول. وعلى سبيل المثال: في تسعينيات القرن الماضي حاولت جماعة آريان “الأمم المتعصبة للبِيض” بناءَ جيب انفصالي أبيض في ولاية أيداهو الأمريكية، أعقبتها جهود أوسع لإنشاء وطن أبيض مكوَّن من خمس دول وَفقَ “حتمية دولة الشمال الغربية”.
تتناول أيضًا ميللر-إدريس طرق تسويق الجماعات اليمينية المتطرفة لأفكارها؛ حيث برعت هذه الجماعات في استخدام أدوات الحياة اليومية من طعام وملابس لإشاعة أفكارها في نطاق الجماعات المحلية الصغيرة. ومن الملاحظ نشاطها البالغ على شبكة الإنترنت من خلال المجموعات المغلقة على وسائل التواصل الاجتماعي، ونجاحها في نشر “مانفيستوهات” العنف وإرشادات صنع القنابل والأسلحة والمتفجرات. هذا فضلاً عن ارتباطها الوثيق بالدعوة إلى حمل السلاح والدفاع عنه.
في الولايات المتحدة، نجحت هذه الجماعات في اختراق الجامعات، وأحدثت انقسامًا واسعًا في قاعات الدرس الأكاديمي. ودائمًا ما يتهم اليمين الأمريكي الجامعات بأنها تحولت إلى وكر لليسار والماركسية، وأنها سبب رئيس لاحتضان المهاجرين، والأفكار النسوية، والجنسانية المعادية للقيم الأمريكية والغربية والرأسمالية. إلا أن الأمر لم يتوقف عن الجدل الفكري بين اليمين واليسار؛ ففي أحيان كثيرة، تحول إلى صدام وهجوم على الطلاب المهاجرين والأقليات، وعلى المباني التعليمية، كما حدث عندما تم تدمير مركز التعليم والبحوث الشهير Highlander Education and Research في ولاية تينيسي الأمريكية، الذي يضمُّ سجلَّ محفوظات لعقود تتصل بحركة الحقوق المدنية. وكان المركز يستضيف باستمرار حلقات تعليمية عن رموز هامة مثل القَس مارتن لوثر كينغ، وإليانور روزفلت، وروزا باركس.
ترى ميللر-إدريس أن هذه الظاهرة ليست بلا علاج. وفي هذا الصدد، ترى محورية دور التعليم سواء في إحباط عملية تجنيد المتطرفين من كافة الاتجاهات من خلال التربية النقدية والواعية، وكذلك في مساعدة المهاجرين على الاندماج في مجتمعهم الأوسع. وأشارت الكاتبة إلى أننا بحاجة حقًّا إلى طرقٍ أفضل لفهم سبُل استقطاب الشباب وتجنيدهم، وكيفية انتقالهم من هوامش حركات اليمين المتطرف إلى عُمق العقائد والحركات اليمينية المتطرفة، ولا سيَّما عبر المواجهات في الفضاءات المادية والافتراضية السائدة. وإن فهم وسائل عمل تلك المساحات السائدة يتطلَّب أيضًا تجاوز الاتجاه السائد لفصل دراسة الأماكن المادية عن الأماكن الافتراضية للتطرف. وبدلًا من ذلك نحتاج إلى النظر بعناية أكبر في كيفية عمل المساحات عبر الإنترنت وخارجها جنبًا إلى جنب، وكيف يؤدِّي كلُّ ذلك إلى تكوين هُويَّة الشباب اليميني المتطرف؛ ليكون قوة تأسيسية مشاركة ومؤثرة.