في الآونة الأخيرة، تزايد التداخل والترابط بين أنشطة الجريمة المنظمة والإرهاب، وأصبح من الصعب التمييز بينهما على الرغم من اختلاف الدوافع والمنطلقات. عادة ما تحمل الجماعات الإرهابية دوافع أيدلوجية مقارنة بمجموعات الجريمة المنظمة التي تهتم حصريا بزيادة تدفقاتها المالية وحصتها في الأسواق غير المشروعة. وفي حين يفضل الارهابيون الإقرار بأعمالهم والتعبير عن مواقفهم السياسية بشكل واضح، دائما ما يحاول أعضاء الشبكات الإجرامية التقليل من درجة تورطهم في أي جريمة ما.
إلا أنه دائمًا ما كانت هناك الخصائص والسمات المشتركة بين الفريقين، لاسيما كونها يمثلان فاعلين عقلانيين، بمعنى استخدامهم للعنف وأدوات أخرى لتحقيق أهدافهم. وكثيرًا ما تشابهت أساليب الشبكات الإجرامية وأساليب الجماعات الإرهابية. ولا أدل على التداخل الحالي من استفادة الجماعات الإرهابية من الجريمة المنظمة كمصدر مهم للتمويل أو الدعم اللوجستي من خلال القيام بالعديد من الأنشطة غير المشروعة التي تشمل عمليات تهريب البشر والأسلحة والمخدرات وغيرها عمليات الاختطاف والابتزاز. وكثيرًا ما تستفيد الشبكات الاجرامية في أعمال الإرهاب؛ حيث تزداد تدفقاتها المالية غير المشروعة مع طلب الجماعات الإرهابية لخدماتها.
الروابط والتقاطعات بين الارهاب والجريمة المنظمة: نماذج تفسيرية
طور الباحثون المتخصصون في الدراسات الأمنية عددًا لا بأس به من النماذج التفسيرية التي تهتم بتحليل كيفية ومدى التفاعل بين التنظيمات الإرهابية والشبكات الإجرامية. يأتي في مقدمتها النموذج المطروح بواسطة إيريك ألدا وجوزيف سالا. وفقًا لها النموذج، فهناك ثلاثة اتجاهات رئيسية للتعبير عن الروابط والصلات التي تجمع بين الجريمة المنظمة والإرهاب؛ وهي التعايش، والتعاون، والتقارب. يقصد بالتعايش أن تعمل المجموعتان في نفس المساحة الجغرافية في نفس الوقت لكن دون تعاون أو تداخل واضح. لكن هذا لا يعني بالضرورة عدم استفادة كلا منهما من أنشطة الآخر.
أما التعاون فيحدث عندما تعمد هذه التنظيمات والشبكات للعمل معًا ولو مؤقتا كنتيجة لظهور بعض المصالح المشتركة في وقت ما. في حين أن التعاون قد يحقق بعض المنافع المتبادلة أو يلبي بعض الضرورات التنظيمية، إلا أنه قد يؤدي إلى تأثيرات غير مرغوبة. على سبيل المثال، قد يؤدي التعاون إلى الاختراق وتعريض الأمن الداخلي للخطر من خلال التسلل واحتمال الاستيلاء المتزايد. لذا غالبًا ما يأخذ هذا التعاون شكل عمليات محددة ومنفصلة. وغالبا ما تنظر الجماعات الارهابية لمثل هذا التعاون على أنه مجرد وسيلة لتحقيق غاية أكبر.
في الأخير، إذا تطورت هذه الشراكات قصيرة الأجل ونضجت لتصبح علاقات طويلة الأجل يظهر الاتجاه الثالث للعلاقة بين المجموعتين، وهو التقارب، وذلك عندما تبدأ كل منهما في القيام بسلوك أكثر ارتباطًا وشيوعًا عن الآخر أو يتم حيث دمج عمليات المجموعتين المنفصلة.
كذلك، قدم شيلي ومعه أخرين نموذجا أخر لرسم الروابط بين الجريمة المنظمة والارهاب، وحدد خمسة أنواع من التفاعلات في هذا السياق، وهي: تخصيص النشاط، الترابط، العلاقة التكافلية، الهجين، والتحول.
يحدث تخصيص النشاط حين تقترض المنظمات الإرهابية والشبكات الاجرامية أساليب بعضها البعض لكن دون تعاون حقيقي على أرض الواقع. قد تمضي المجموعات لتشكيل النوع الثاني من العلاقات وهو الترابط حين تتواصل الجماعات الإرهابية بشكل منتظم مع الجماعات الإجرامية المنظمة لسد حاجة، مثل الحصول على وثائق مزورة أو غسل الأموال.
في بعض الأحيان، قد تضطر الجماعات الإرهابية لعدم الانخراط في الترابط نتيجة عدم عثورها على شبكة إجرامية ترغب في العمل معها أو لأنها لا ترى فائدة من جراء التعامل مع أخرين من خارج مجموعتها. في هذه الحالة، تميل الجماعة الإرهابية إلى التحول والقيام بالأنشطة الإجرامية بشكل كامل. عند حدوث التعاون واستمراره على المدى الطويل بين الشبكات الاجرامية والجماعات الارهابية يحدث نوع من العلاقة التكافلية بين الاثنين التي تسعى لتحقيق منفعة متبادلة أو خلق إطار لتبعية احداهما للآخر.
أما التفاعل الهجين فيحدث عندما تستمر مجموعتان في التعاون على مدى فترة طويلة ويبدأ أعضاء مجموعة الجريمة المنظمة في مشاركة الأهداف الأيديولوجية للإرهابيين أو العكس. في هذه المرحلة، قد تقف علاقة الشبكات الاجرامية والمنظمات الارهابية عند هذا الحد أو تتطور لتحدث عملية تحول كاملة للأهداف والأنشطة تبعا لمقتضيات الضرورة.
تؤكد هذه النماذج على أن طبيعة الروابط والصلات بين الجريمة المنظمة والإرهاب تعتمد بشكل كبير على السياقات المحلية التي تتفاعل فيها بحيث تكون الصلة أكثر تفاعلية وتطورًا في منطقة الهشاشة والصراع في مقابل المناطق الأكثر استقرارًا. تجمع هذه المناطق الهشة بين كل مستويات التفاعل بين المجموعتين في ظل محدودية السيطرة الحكومية. ولعل أبرز مثال على ذلك منطقة الساحل التي نتناولها لاحقا.
الروابط بين الجريمة المنظمة عبر الوطنية والارهاب في الساحل وغرب افريقيا نموذجا
أشار فريق مراقبة العقوبات التابع للأمم المتحدة إلى أن منطقة الساحل هي المنطقة الأكثر تضررًا من الإرهاب، والتي تحتوي على أكبر عدد من الضحايا على المستوى العالمي حتى الآن. لا يحدث هذا الأمر في الفراغ، إذ تعتبر الشبكات والمجموعات الإجرامية الناشطة هناك عاملًا مساعدًا لانتشار الإرهاب في ظل حالة السيولة الأمنية والهشاشة التي تتسم بها المنطقة.
يدعم هذا التوجه تحليلات مكتب الأمم المتحدة للجريمة والمخدرات، التي أشارت إلى أن تنامي الروابط والصلات بين الجريمة المنظمة والإرهاب يعد مدخلاً تفسيريًّا لتردي الحالة الأمنية في المنطقة بشكل متواصل، خاصة وأن أسباب ازدهار الجريمة المنظمة والإرهاب واحدة وتتمثل في الصراع والفقر وعدم الاستقرار. في مثل هذه الأجواء، يكون من الطبيعي ظهور كافة أنماط التفاعلات بين الجريمة المنظمة والإرهاب، والتي تمت الإشارة إليها سابقًا ابتداء من التعايش في نفس المساحة الجغرافية واستغلال الفرص التي توفرها كل جماعة للأخرى ومرورًا بالتعاون فيما بينها وانتهاء بالتقارب أو الاندماج بين العالمين. هناك العديد من الأدلة التي تدعم هذا الطرح، لاسيما بعد تفكك سلطة الدولة في ليبيا والتدخل الفرنسي / الغربي اللاحق في مالي.
في حالة حدوث التعايش واستغلال الفرص التي توفرها كل جماعة للأخرى، تبرز حالة خليج غينيا كمثال شاهد على ذلك، حيث توفر حالة الفوضى التابعة من أنشطة القرصنة الاجرامية في الخليج بيئة خصبة للأنشطة الإرهابية المختلفة كاستهداف المدنيين وغير المدنيين وقتلهم.
كذلك، هناك أدلة متنوعة على انخراط جماعة بوكو حرام في تهريب المواد المخدرة كالكوكايين والهيروين عبر الحدود الافريقية. كما تم توثيق عمليات تهريب أطفال ونساء بواسطة بوكو حرام وغيرها من التنظيمات الإرهابية ومحاولة توظيفهم كجنود ومقاتلين في الصراعات الدائرة في المنطقة. كما تم الابلاغ في عام 2013 عن تهريب كوكايين بقيمة 1.25 مليار دولار عبر غرب إفريقيا إلى أوروبا وسط مؤشرات لمشاركة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي في هذه العملية، وفي هذه التجارة بشكل عام.
هذا التطور الحاصل في أنشطة بعض الجماعات الإرهابية يختلف بشكل كبير عن الاتجاهات التقليدية التي تحكم عمل أغلب الجماعات الإرهابية، والتي لا تعمل بدورها في تجارة المخدرات، بل تكتفي بإجبار الشبكات الاجرامية على دفع الضريبة أو الجزية مقابل نقل المخدرات عبر الأراضي التي تسيطر عليها. ولعل أبرز مثال على لك فرض تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي للضرائب على الشبكات الاجرامية المنظمة التي تقوم بتهريب المخدرات من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا عبر الأراضي التي يسيطر عليها في منطقة الساحل في عام 2017.
أما في حالة التعاون، فتلجأ الشبكات الاجرامية والجماعات الإرهابية للعمل معا لسد حاجاتهم التنظيمية المختلفة، ولكن بعد التأكد من أن هذا التعاون لن يؤدي لزيادة التدقيق من قبل السلطات. في هذا الإطار، تقدم الشبكات الإجرامية للإرهابيين جل ما يحتاجونه شريطة أن يكون الثمن مقبولًا. على الجانب الأخر، يبدو الإرهابيون على استعداد في الانخراط في الأنشطة الاجرامية أو على الأقل تحملها طالما كانت تلبي احتياجاتهم التنظيمية. يتجلى هذا بشكل كبير في انتشار عمليات الخطف مقابل الفدية وأخذ الرهائن عبر منطقة الساحل، وهو ما يفسر لماذا يختطف المجرمون الرهائن ويتفاوض الإرهابيون على فدية.
أما التقارب أو الاندماج، فيظل هو النمط الأقل شيوعا بين الأنماط الرئيسية الثلاثة. لا تحتاج المجموعات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية للتخلي عن التعاون وتطوير مزيد من التقارب أو الاندماج طالما يحقق التعاون أهدافه من منفعة متبادلة وخلافه، وفي ظل ثبات السياق على ما هو عليه.
اقترابات التعامل مع مركب الجريمة المنظمة والإرهاب
هناك عدد من الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الدول المختلفة في مسيرتها لتحجيم نشاط المجموعات الإجرامية والجماعات الإرهابية على حد سواء، ومنع سبل التعاون والتواصل فيما بينها بما ينعكس إيجابًا على تحقيق الأمن والسلام العالمي.
فمن الأهمية بمكان دراسة وتحديد الصلات الحالية والمحتملة والمجالات المتقاربة بين الجريمة المنظمة والإرهاب بشكل دقيق، وكذلك العوامل التي تسهل هذا التقارب، واستخدام هذه المعلومات والبيانات لخلق تدخلات ذات كفاءة أكبر وتأثير أعمق.
كما أنه من الضروري أن يتم تخصيص الموارد والجهود الكافية للتعامل مع هذه الروابط المتنامية للحد منها والحيلولة دون استمرارها. في هذا الإطار، يعمل مكتب الأمم المتحدة للجريمة والمخدرات– وهو المعني بهذا المجال- مع دول العالم أجمع، ومن بينها دول الساحل الافريقي، على بناء الروابط بين مؤسسات وأطر العدالة الجنائية في مختلف البلدان لتيسير التعامل مع المجرمين والإرهابيين عبر الحدود.
يبدو من المهم أيضا المضي قدما في تعزيز التنسيق الاستخباراتي والأطر القانونية والأنظمة المالية بين البلدان مما يتيح تبادل المعلومات بشكل أبسط وأسرع عبر الولايات القضائية والوكالات. ارتباطا بهذا، لابد من دعم عمليات بناء القدرات الأمنية عالميا، لاسيما في الدول التي تتسم بالهشاشة والضعف، والعمل على ضبط وإدارة الحدود بشكل أكثر كفاءة في تلك الدول مع التأكيد على ضرورة مراجعة التشريعات والأنظمة الوطنية، بما يتماشى مع الصكوك القانونية الدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والمخدرات وتغليظها لتمكينها من مقاضاة وإدانة أولئك الذين هم على صلة بالجريمة المنظمة والإرهاب.
يضاف إلى ذلك، حتمية التعاون الدولي في مجالات دعم الدول والمناطق الهشة لتقوية مؤسساتها في مواجهة الجريمة المنظمة والإرهاب، لاسيما وأن الروابط والصلات تميل للزيادة كلما كان السياقات المحلية والوطنية أكثر ضعف. في الأخير، من الضروري إيلاء الاهتمام بضبط وتطوير قطاعات السجون في مختلف البلدان لأنها بيئة محفزة للتعاون والتواصل ونقل المهارات بين الجانبين.