تمثل الحرب الروسية الأوكرانية مسرحًا لمواجهة استخباراتية جديدة جمعت عددًا من أكفأ أجهزة الاستخبارات الدولية؛ وجاءت في خضم تنافس تكنولوجي محموم بين عدد من القوى الدولية. وكما أعادت الحرب تسليط الضوء على تأثير المخابرات المحوري في مسارات النزاعات العسكرية والسياسية؛ فإنها، لحسن الحظ، قد أفصحت عن أن ثمة أنماط جديدة في العمل الاستخباراتي، والتي ظهر بعض منها كنتيجة للتقدم التكنولوجي، وانتشار وسائل الاتصالات، ودَلَت هذه الأنماط على أن تغييرًا ما يحدث في الصورة الكلاسيكية للعمل الاستخباراتي.
يطرح هذا المقال بعضًا من ملامح هذه الأنماط الاستخباراتية الجديدة التي ما زالت الحرب الروسية الأوكرانية تكشف عنها، سواء في المراحل التي سبقت اندلاع الحرب، أو خلالها، وذلك من خلال تتبع وتحليل نشاط أجهزة الاستخبارات ذات الصلة المباشرة بالحرب، وعلى وجه التحديد أجهزة دول حلف الناتو، إلى جانب أجهزة الاستخبارات الروسية والأوكرانية.
نزعة جديدة نحو العلنية
منذ نشأته تقريبًا، أولى العمل الاستخباري أهمية قصوى لمبدأ السرية، واتبع عددًا كبيرًا من وسائل تشفير وحماية معلوماته واتصالاته، وعُد هذا المبدأ من أهم معايير انضباط وكفاءة العاملين بالاستخبارات. إلا أن الاحترام المُفرط للسرية قد بدأ يتغير تدريجياً خلال الحرب الأوكرانية، وتعمَّدت أجهزة الاستخبارات مخالفته في بعض الحالات، واستبدلته بنمط جديد يقوم على إعلان معلومات الاستخبارات أمام الجمهور العام.
على سبيل المثال، أعلنت أجهزة دول الناتو أمام وسائل الإعلام بعض من المعلومات المتوفرة لديها حول تحركات القوات الروسية على الحدود الأوكرانية قبيل طلوع الحرب، وقامت بتحديث تقاريرها الإعلامية أولاً بأول. ولم تكتف بالإفصاح للعامة عن تقديراتها الخاصة باحتمالات نشوب الحرب، لكنها كشفت ايضاً عن الأسانيد التي تدعم تقديراتها.
قبيل إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن “اقتناعه” بأن روسيا اتخذت قراراً بغزو أوكرانيا، خرجت الاستخبارات الأمريكية لتعلن أنها ترجُّح صدق التهديدات الروسية الخاصة بالغزو، مؤكدة أنها توصلت إلى هذا الاستنتاج بعد انسحاب عدد من القوات الروسية من الحدود مع أوكرانيا إلى الحدود مع بيلا روسيا، عوضاً عن العودة إلى الداخل الروسي.
ولم يقتصر نطاق النشاط العلني للاستخبارات على الإفصاح عن التقديرات والمعلومات، بل امتد إلى عمليات “التجنيد”، والتي اتسمت في السابق بقدر كبير من السرية. ووظَّفت الاستخبارات الأمريكية دعوات “التجنيد العلني”، كورقة سياسية رمَت إلى تكثيف الضغوط على الحكومة الروسية؛ إذ نشرت وسائل إعلام أمريكية باللغة الروسية خطوات التواصل الآمن معها عبر شبكة الانترنت الخفية “”Deep Web، وذلك بعد أن موَّل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إعلانات مدفوعة الأجر على وسائل التواصل الاجتماعي، استهدفت دولة روسيا جغرافيًّا، ودعت مواطنيها للتعاون مع واشنطن من أجل وقف الحرب.
واللافت أن النزوع الاستخباري نحو العلنية قد تكرر أيضًا على الجانب الروسي، وتعمَّدت الحكومة الروسية قبيل اندلاع الحرب بث الفعاليات الكاملة لاجتماع عقده الرئيس فلاديمير بوتين مع عدد من قادة أجهزة الاستخبارات وقيادات الجيش عشية الغزو.
وشهد اللقاء تقديم المسئولين الروس تقديراتهم بشأن مستقبل النزاع؛ حيث دعا قائد الجيش لغزو أوكرانيا، مؤكداً أن الولايات المتحدة هي المتواجدة على الجانب الآخر من الحدود، وليس القوات الأوكرانية. كما شهد هذا اللقاء تقديم رئيس المخابرات الخارجية الروسية سيرجي ناتشيكن تقديره بشأن المستقبل السياسي لمنطقتي دونتسيك ولوغانسك، وهو المقطع الذي تداولته وسائل إعلام مختلفة.
واستمرت هذه النزعة نحو العلنية لدى موسكو في أعقاب اندلاع الحرب، إذ أكد رئيس المخابرات ناريشكين وصول معلومة إليه تُفيد باتفاق الولايات المتحدة مع بولندا، على استعادة الأخيرة لسيطرتها العسكرية والسياسية على بعض المناطق بغرب أوكرانيا.
يُمكن تفسير نزوع أجهزة الاستخبارات إلى العلنية في ضوء بعض العوامل؛ أولها هو رغبة الحكومات في توظيف المعلومات في تكثيف الضغوط السياسية على الطرف الآخر. فمن جانبها، حاولت دول الناتو توظيف هذا في إثناء الحكومة الروسية عن تنفيذ قرار الغزو، وراهنت على أن التحرك الروسي التالي على إعلان هذه المعلومات سيصب في صالحها، فمن ناحية، قد يتراجع الجانب الروسي عن قرار الغزو كوسيلة لإحراج استخبارات الناتو محليًّا وعالميًّا، وإثبات عدم صحة تقديراتها. وفي حال عدم التراجُع عن الغزو، فسيتم إثبات رجاحة التقديرات الاستخباراتية أمام الرأي العام.
يُذكر أن الاستخبارات الأمريكية والبريطانية على وجه التحديد كانت أكثر الجهات ترجيحًا لاحتمال قيام روسيا باتخاذ قرار الغزو، على عكس التقديرات الألمانية والفرنسية، ما ساهَم في تحسين صورة الاستخبارات الأنجلوسكونية بعد أن تم الترويج في العقدين الماضيين لفشل تقديراتها الخاصة بعملية غزو العراق.
وفي نفس الإطار، ساهَم الإفصاح عن المعلومات الخاصة بنوايا روسيا حيال أوكرانيا في تهيئة المسرح الدولي والغربي لانحياز دول الناتو إلى أوكرانيا، وعَزَّز من فُرص موافقة الرأي العام المحلي والدولي على فرض عقوبات جماعية على روسيا، ما يُيسر من عملية تمريره تشريعيًّا وتنفيذيًّا. بينما كان من الممكن أن تقود الحفاظ على سرية المعلومات إلى عدم تشكُّل الجبهة الغربية الداعمة لأوكرانيا بنفس مستوى الكفاءة الذي شهدته الأزمة، خاصة وأن بعض الدول مثل فرنسا قد سعت جاهدة إلى نزع فتيل التوتر، خشية من تدهور علاقتها بروسيا.
ومن جانبها، وَظَّفت الحكومة الروسية نمط الاستخبارات العلنية في الدلالة على تماسُك الجبهة الداخلية في موسكو، ويُمكن تفسير بث لقاء الرئيس الروسي سابق الإشارة مع القادة الأمنيين والعسكريين في ضوء حِرص الرئاسة الروسية على تأكيد أن قرار الحرب هو قرار مؤسسات الدولة الروسية، وليست “حرب بوتين”، كما تروِّج وسائل الإعلام الغربية. كما دل تلعثُم رئيس المخابرات الخارجية الروسية اثناء نفس اللقاء على تَمَتٌّع الرئيس الروسي بنفوذ كبير على أجهزة الأمن الروسية، وذلك كمحاولة لدحض المقولات التي ذهبت إلى أن ثمة استياء بالداخل الروسي من قرار الحرب
تعاظُم الاعتماد على المصادر المعلوماتية المفتوحة
شهدت الحرب الروسية-الأوكرانية ظهور نمط استخباراتي آخر يعد جديدًا على صعيد مصادر المعلومات، وهو النمط المتعلق بالاعتماد على مصادر معلومة ومفتوحة للمعلومات في جوانب مختلفة من الأزم، بما فيها النواحي المتعلقة بالتحركات التكتيكية للقوات العسكرية اثناء الحرب.
ويُمكن الإشارة إلى عدد من الأمثلة التي دلت على تعاظُم الاعتماد الاستخباراتي على هذه المصادر الجديدة، ومنها قيام الحكومة الأوكرانية بالاتفاق مع شركات أمريكية خاصة تعمل في مجال هندسة الاتصالات، على مدها بالمعلومات الخاصة بتحركات القوات الروسية من خلال تحليل الصور المأخوذة من الأقمار الصناعية، ومن هذه الشركات Maxar Technologies وBlacksky ، وعادة ما تعاونت الشركتان مع وسائل الإعلام الإخبارية، ومدتها بالأنباء والمعلومات الخاصة بحالة الطقس.
الأكثر من ذلك، أن شركة Maxar Technologies قد نشرت في بعض الأحيان على موقع تويتر تحديثات متاحة للعامة بخصوص تحركات القوات الروسية. بينما أعلنت شركة Blacksky تعديل عدد من مدارات أقمارها الصناعية مع بدء الحرب، بغية تعزيز قدرتها على مراقبة تحركات القوات الروسية. وفي نفس الإطار، اتفقت الحكومة الأوكرانية مع شركة كندية تُدعى RADARSAT-2 على استخدام قدراتها الخاصة بتحليل الطقس في رصد تحركات القوات الروسية بشكل آني.
ووظَّفت الاستخبارات الأوكرانية انتشار وسائل الاتصالات لدى العامة في جمع أكبر قدر من المعلومات بخصوص تنقل الجنود الروس، ودعت الحكومة الأوكرانية مواطنيها إلى استخدام الهواتف المحمولة في إرسال تحديثات بمواقع الجيش الروسي، وتصويره الجنود الروس متى سنحت الفرصة.
وبهذه التحركات، امتلكت كييف صورة متكاملة لتحركات الجيش الروسي، خاصة في ظل تنسيقها مع استخبارات دول الناتو، وأصبح لدى القوات الأوكرانية فيض كبير من المعلومات المُحدَّثة باستمرار عن تسلُّح ووتيرة تحرك القوات الروسية، وهو ما ساهم إلى حد كبير في تعزيز كفاءة العمليات العسكرية للجيش الأوكراني.
وتجدر الإشارة إلى أن المصادر المفتوحة للاتصالات قد حضرت لدى الجانب الروسي كذلك، ونشرت الاستخبارات الأوكرانية علنًا مقاطع قالت إنها تسجيلات لمكالمات أجراها الجنود الروس باستخدام شبكات الاتصال المفتوحة في أوكرانيا، ولم ينف الجانب الروسي هذه الادعاءات.
تقاليد كلاسيكية مُستمرة
في مقابل ظهور بعض الأنماط الجديدة في العمل الاستخباراتي خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، دلت الحرب كذلك على استمرار اعتماد العمل الاستخباراتي على عدد من التقاليد الكلاسيكية الراسخة، ومن أبرز هذه التقاليد كان عدم الإفصاح عن حدود التنسيق، ومستوى تبادل المعلومات بين الأجهزة الاستخباراتية التابعة لدول مختلفة.
ويُمكن أن نستدل على هذا من حَرص واشنطن على نفي قيامها بتقديم معلومات نوعية للجانب الأوكراني، وخاصة المعلومات التي ساعدت في استهداف وقتل بعض القادة العسكريين الروسيين. ونفت واشنطن هذه الأنباء بعد أن أكدت صحيفة نيويورك تايمز وصول التعاون بين المخابرات الأمريكية والأوكرانية إلى هذا المستوى الدقيق. ما دفع البيت الأبيض إلى إعلان أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد قام بالتحدَّث مع قادة الاستخبارات الأمريكية، لمُطالبتهم بضرورة إيقاف “التسريبات” الخاصة بالنشاط الاستخباراتي الأمريكي في أوكرانيا. في الوقت نفسه، أكد جون كيربي السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية أن المعلومات التي يتم تقديميها لأوكرانيا تعد “قانونية وشرعية ومحدودة”.
ويعود الحرص الأمريكي على نفي التورًط في عمليات قتل القادة الروس إلى التخوُّف من أن يقود هذا إلى تصاعُد التوتُّر مع روسيا، لا سيما وأن وسائل إعلامية مختلفة قد أكدت كذلك تعاون الاستخبارات الأمريكية مع نظيرتها الأوكرانية في عملية إغراق الطرادة الروسية “موسكافا”، وذكرت التقارير أن طائرة استطلاع أمريكية كانت على مقربة “غير اعتيادية” من الطراد الروسي، قبيل استهدافه بصواريخ أوكرانية الصُنع. بينما أكدت موسكو أن اسقاط الطراد جاء بسبب حريق وقع على متنه.
وفي تقليد كلاسيكي آخر، يُلاحظ حِرص الحكومة الروسية على عدم التعليق على بعض الأنباء الصحفية التي أكدت وقوع تغييرات في هيكل الاستخبارات الروسي المعني بالعمليات في الحرب الأوكرانية، والتي أشارت إلى قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنقل مهام التجسس في أوكرانيا من مسئولية جهاز الأمن الفيدرالي الروسي إلى مسئولية الاستخبارات العسكرية، وتحديداً إلى النائب الأول لرئيس المخابرات فلاديمير أليكسييف، والذي كان مسئولًا عن تنسيق الحملات العسكرية في سوريا، وكذلك في منطقة دونباس بالشرق الأوكراني.
ومن تتبع مسار العمل الاستخباراتي في الحرب الروسية الأوكرانية، يُمكن القول إن الأنماط الجديدة-إذا جاز التعبير-قد لعبت أدوارًا حاسمة في استخدامات الأدوات الاستخباراتية، إلى جانب الأنماط التقليدية. فيما ساهمت الوسائل التكنولوجية في تحسين فعالية عدد من العمليات العسكرية المختلفة، ولعب العامل السياسي دورًا رئيسًا في توظيف المعلومات الاستخباراتية في ضبط إيقاع الصراع، وشن حروب نفسية باتجاه الطرف الآخر.
ختامًا.. يُمكن القول إن الحرب في أوكرانيا قد دلت على أن ثمة تحولاً قيد التشكُّل في الأنماط الاستخباراتية، ويحدث هذا التحول كنتاج لتفاعل العوامل التكنولوجية والسياسية مع بعضهما البعض. ومن المؤكد أن نهاية الحرب ستكشف المزيد عن دور أجهزة الاستخبارات المختلفة في تحديد مسار الحرب التي أصبح سلاح المعلومات جزءًا أصيلًا.