تحمل العلاقات بين فرنسا ولبنان زخما كبيرا، فلا يمكن تفسيرها بمنطلق التاريخ الاستعماري في حد ذاته، إذ أن جذور التواجد الفرنسي في لبنان ترجع إلى بدايات القرن الماضي، أي من قبل ظهور دولة لبنان بصورتها الحالية، وتنامت العلاقات بين الدولتين إلى الحد الذي تمكنت فيه فرنسا من تحديد شكل السلطة في لبنان، وبالرغم من إعلان لبنان استقلالها في 8 نوفمبر 1943، إلا أن ذلك لم يمنع فرنسا من مواصلة حضورها في لبنان، وتطورت الأدوات الفرنسية في لبنان باختلاف الظرف التاريخي، في إطار السعي نحو الحفاظ على الإرث الاستعماري في لبنان بشكل خاص، وكذلك ترسيخ النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط من خلال البوابة اللبنانية.
أسباب تجذر فرنسا في لبنان
يرجع الارتباط الوثيق بين فرنسا ولبنان إلى تاريخ طويل من الانخراط، حيث لعبت فرنسا على عناصر قيام الدولة من حيث التركيز على اجتذاب المواطنين المسيحيين ، وشكل النظام السياسي ووضع حدود الدولة.
تاريخيا، شكل الموارنة -الذين يمثلون النسبة الأكبر- المدخل الرئيس أمام فرنسا لنقل حضورها إلى لبنان بمزاعم حماية المسيحيين، حيث تعهد الملك لويس التاسع منذ القرن الثالث عشر بحماية الموارنة باعتبارهم جزء من الأمة الفرنسية، ثم انطلقت البعثات التبشيرية إلى لبنان منذ عام 1578، وركزت على ترسيخ الفرانكفونية لاستقطاب أكبر عدد من اللبنانيين ومواجهة النفوذ البروتستانتي المتزايد.
ويمثل عام 1860 بداية التواجد العسكري الفرنسي في لبنان بدعوى حماية المسيحيين ضد الدروز، ومن هنا، أسفر التدخل الفرنسي عن قيام نظام متصرفية جبل لبنان الذي هو نواة الدولة اللبنانية المعاصرة، إلى أن جرى تقاسم أراضي الدولة العثمانية بين فرنسا وبريطانيا بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916، واستمر الانتداب الفرنسي في لبنان إلى أن حصل اللبنانيين على استقلالهم في 1943.
وفي الوقت الراهن، على الرغم من استقلال لبنان عن فرنسا، إلا أن الدولة اللبنانية لا تستطيع الانسلاخ عن القرار الفرنسي بصورة كاملة، ويرجع ذلك إلى الدور الفرنسي في العملية السياسية، على سبيل المثال توظيف العقوبات كأداة لتفكيك المشهد المعقد، لاسيما حينما قيدت فرنسا دخول مسؤولين لبنانيين إليها في 2021 لاتهامهم بعرقلة الجهود الرامية لإيجاد حل للأزمة السياسية والاقتصادية.
كذلك النفوذ الفرنسي في حشد المجتمع الدولي لأجل جلب الدعم والمنح المالية للمساعدة في حل الأزمة الاقتصادية في لبنان، والتي تدهورت مؤخرا بفعل عجز لبنان عن سداد ديونها:
دور فرنسا في حشد التمويل الدولي
تتبنى فرنسا في أغلب علاقاتها الخارجية مبدأ التعددية، أي تنسيق الجهود بشكل جماعي، وإشراك الدول المعنية، وفي ظل ما يربطها مع لبنان من تاريخ طويل، تحرص فرنسا على الظهور بشكل المنقذ لأجل ترسيخ التبعية اللبنانية إلى فرنسا، وظهر جليا في فترات التعثر المالي في لبنان، حيث قادت مسارا دوليا لأجل جلب التمويل اللازم لإصلاح الأوضاع.
مؤتمرات باريس 1، 2،3، في عهد الرئيس الفرنسي “جاك شيراك”، انعقد “باريس 1” في 2001 بمشاركة المفوضية الأوروبية والمؤسسات المالية الدولية، ثم مؤتمر “باريس 2” في 2002، وأخيرا “باريس 3” في عام 2007، الذي شارك فيه 40 دولة و14 هيئة دولية، كذلك رعت فرنسا مؤتمر سيدر 2018، وعقب انفجار مرفأ بيروت في 2020، سارعت بحشد الدول لأجل احتواء الأزمة، وتمكنت من جمع 250 مليون يورو من المساعدات، ثم انعقد مؤتمر باريس لدعم لبنان 2021 بمبادرة من فرنسا والأمم المتحدة من أجل تحريك مساعدة طارئة للبنان، وفي أبريل الماضي، وقعت فرنسا اتفاقية مع السعودية بقيمة 32 مليون دولار لدعم المشاريع الصحية والأمن الغذائي.
أشكال التدخل الفرنسي والتواجد في أزمات لبنانية
تكيفا مع السياقات التاريخية المختلفة، سنت فرنسا جملة من الأدوات التي تحول دون ابتعاد لبنان عن الاستراتيجية الفرنسية:
الفرانكفونية
من المعروف أن فرنسا من القوى الاستعمارية التي تحاول تغيير هوية المستعمرات وإسباغها بالأيدولوجية الفرنسية حتى تضمن ولاءها، وكرست فرنسا جهودا كبيرة لأجل تمرير مشروعها الثقافي في لبنان على يد التبشريين، الذين رفعوا شعار الولاء، أولاً، للطائفة، وليس للوطن!، بحيث عندما أعلنت الجمهورية اللبنانية استقلالها، كانت تضم على أراضيها أكثر من 400 مدرسة فرنسية، كما أصبحت اللغة الفرنسية لغة رسمية ثانية، والدور الأهم هو الذي لعبته فرنسا في تثقيف النخبة السياسية المسيحية في لبنان.
التدخل العسكري
تدخلت فرنسا عسكريا في لبنان في إطار قوات حفظ السلام للأمم المتحدة (MNF) في مارس 1978 بموجب قراري مجلس الأمن الدولي 425 و426، لمتابعة انسحاب اسرائيل من لبنان، ومساعدة الحكومة اللبنانية على استعادة سلطتها، وبعد حرب تموز 2006، زادت مهام البعثة لمراقبة وقف الاعتداءات، ودعم القوات اللبنانية في عملية الانتشار في جنوب لبنان، لضمان انسحاب القوات الإسرائيلية واستعادة السلام في المنطقة، وتشارك فرنسا بحوالي 2000 عسكري داخل البعثة، ومؤخرا، جدد مجلس الأمن مهمة قوات يونيفيل حتى نهاية الشهر الجاري.
التدخل في الأزمات
كانت فرنسا حاضرة في أغلب الأزمات اللبنانية، بحرص شديد على المشاركة في صنع القرار اللبناني
انفجار مرفأ بيروت
شكل الانفجار الذي تسبب في مقتل نحو 215 شخصا وإصابة مئات آخرين، مدخل جديد أمام فرنسا لإعادة بسط نفوذها في لبنان، حيث كان الرئيس ماكرون أول زعيم عالمي يزور بيروت، وبادرت فرنسا بإرسال المساعدات من المعدات الطبية والمؤن الغذائية، وفي زيارته الثانية بعد أيام، أعطى القادة اللبنانيين مهلة 15 يومًا لتشكيل حكومة جديدة لتحل محل حكومة تصريف الأعمال برئاسة “حسان دياب”، كما سلم القادة اللبنانيين ورقة مفاهيم لتكون خارطة طريق للبلاد.
أزمة تشكيل الحكومة
بدأت أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية في أغسطس 2020، عندما أعلن رئيس الوزراء اللبناني “حسان دياب”، استقالة حكومته عقب احتجاجات أعقبت انفجار مرفأ بيروت، وتقدم رئيس الوزراء المكلف “مصطفى أديب”، في تسمية مجلس الوزراء من جانب واحد في خطوة مثلت انتهاكًا لاتفاق الدوحة، وهنا استعان الرئيس اللبناني “ميشال عون” بفرنسا من أجل تجاوز المأزق.
الوساطة مع دول الخليج
أثناء توتر العلاقات بين لبنان والخليج أكتوبر 2021، مارست فرنسا دور الوساطة لأجل عودة تبادل السفراء بين لبنان ودول الخليج، لأجل الاستفادة من الدعم الخليجي في حل المشكلات اللبنانية وإعادة انخراط دول الخليج في لبنان.
الأطراف اللبنانية الداعمة لفرنسا في لبنان
تلاقت اتجاهات الموارنة في لبنان مع طموحات الإمبراطورية الفرنسية، واستخدم كلا الطرفين الدين لتحقيق أهداف سياسية، حيث تعاونت المارونية السياسية مع كل الفصائل لأجل تحقيق مصلحتها، كما ساهم الحضور الفرنسي في تغذية الطائفية وإفراز وتصعيد طبقة سياسية مارونية تتحرك وفقا للأيدولوجية الفرنسية، وكذلك اعتبرت القيادات المارونية، أنه قد اصبح لها حليف إقليمي، لأن لبنان البلد الوحيد في العالم العربي الذي استطاع فيه المسيحيون وخاصة الموارنة التمتع ببعض السلطة الحكومية.
وبطبيعة الحال، يمكن تصنيف الكتل السياسية الموالية لفرنسا في لبنان في إطار الأحزاب المارونية، على رأسها:
التيار الوطني الحر “جبران باسيل”
تستحوذ الأحزاب المسيحية في لبنان على الرصيد الأكبر من الحياة السياسية بسبب امتيازاتها العددية بقوة 18 حزب، وعلاقتها بالقوى الخارجية وعلى رأسها فرنسا، ويشكل التيار الوطني الحر برئاسة “جبران باسيل” من أهم الأذرع السياسية الموالية لفرنسا في لبنان، كما يحظى الحزب بقبول شعبي، وحصل على 17 مقعدا في البرلمان وفقا للانتخابات التشريعية الأخيرة، ويعتبر الرئيس الأسبق للحزب ورئيس الجمهورية الحالي “ميشيل عون” بمثابة رجل فرنسا في لبنان، حيث حصل على الحماية واللجوء السياسي من قبل فرنسا عقب الحرب الأهلية اللبنانية، وهناك، أعلن عن إنشاء التيار الوطني الحر في أغسطس 1999، ويحرص عون على الاستعانة بالقيادة الفرنسية في مختلف المواقف، لاسيما من أجل الضغط على بعض القوى لتمرير مصالح العونيين.
حزب القوات اللبنانية “سمير جعجع”
حصل حزب القوات اللبنانية برئاسة جعجع على أكبر كتلة برلمانية لصالح المسيحيين الموارنة بإجمالي 20 مقعد في الانتخابات الأخيرة، ويحاول جعجع مغازلة ماكرون للحصول على الدعم الفرنسي على حساب عون، حيث طلب دعم فرنسا للطلب الموجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة من أجل إرسال لجنة تقصي حقائق حول انفجار مرفأ بيروت، كما أعلن دعمه للمبادرة الفرنسية الخاصة بالإصلاحات وسرعة تشكيل حكومة.
كما استطاعت فرنسا من خلال القوة الناعمة في مختلف صورها، التأثير على الرأي العام اللبناني، والذي انعكس في زيارة ماكرون عقب أحداث المرفأ، حيث شكلت مبادرة المواطنين بجمع الأصوات البالغة 60 ألف توقيع بشأن عودة التدخل الفرنسي في لبنان صورة حية لمدى تعمق التأثير الفرنسي على المواطنين.
مستقبل العلاقات الفرنسية اللبنانية
يتوقف مستقبل العلاقات بين الدولتين على عدة متغيرات، على الصعيد اللبناني، من الصعوبة بمكان تقدير ما ستؤول إليه الأحداث، حيث شكلت خطوة تكليف “نجيب ميقاتي” بتشكيل الحكومة تطور إيجابي يدفع بمسيرة العملية السياسية، ولكن لبنان غارقة في جملة من الأزمات الاقتصادية التي تهدد بحالة من الغضب الشعبي وخروج المواطنين إلى الشارع، لذلك من المؤكد أن الطبقة الحاكمة حريصة كل الحرص على الانطواء داخل النفوذ الفرنسي باعتبارها الراعي الرئيسي لمؤتمرات المانحين الدوليين، كما يجب التأكيد أن فرنسا تحتفظ بقاعدة راسخة من النخبة السياسية الموالية، والذي يعني ضمنا أن تغيير الشخصيات لن يؤثر على الحضور الفرنسي في لبنان.
ومن الناحية الفرنسية، في ظل تدهور العلاقات بين فرنسا والدول الأفريقية التي أعلنت واحدة تلو الأخر رفض التدخل الفرنسي في شئونها، يبقي أمام فرنسا ضرورة توطيد علاقتها بلبنان، حتى لا تخسر فرنسا كامل مستعمراتها السابقة، خاصة وأن لبنان تشكل ساحة هامة للموائمة مع السنة وإيران وإسرائيل، وساعدت الجهود الفرنسية الأخيرة في لبنان خاصة التي أعقبت انفجار مرفأ بيروت في إعادة تلميع فرنسا كقوة دولية لها حضور مؤثر في الشرق الأوسط، والذي كان عامل رئيسي في فوز ماكرون في الانتخابات الفرنسية.
ومن هنا، يجب الإشارة إلى أن الدولة اللبنانية هي منتج فرنسي بامتياز، فمن الصعب، القول بإمكانية استقلال القرار اللبناني بعيدا عن دوائر صنع القرار في فرنسا، إلا إذا جرى تغييرات في الأسس التي أرستها فرنسا في الدستور والهيكل السياسي للدولة، وبذلك فإن لبنان في حاجة ملحة إلى تغيير جذري لبنية النظام السياسي التي أثبت مرارا فشلها في تكوين عملية سياسية شاملة تناسب جميع الأطراف، مما يمهد الانتقال إلى تحقيق عناصر الدولة الوطنية.