لا يشكل الغزو الروسي لأوكرانيا خروجًا عن أسس العلاقات الدولية التقليدية؛ حيث تنعكس القوة الاقتصادية على مدى حرية التحركات العسكرية لأية دولة. ومن هنا، اتخذت روسيا قرار الحرب بناء على تمكنها من التحكم في أسواق الطاقة العالمية. وقد شكلت العمليات العسكرية محفزًا جديدًا لأزمة الطاقة المتفاقمة أصلاً، وتكرارًا لتاريخ أزمات الطاقة المصاحبة لاندلاع النزاعات العسكرية والحروب في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية؛ وأشهرها أزمة النفط عام 1973. وعلى الرغم من الجهود الأوروبية الرامية إلى وقف الحرب من خلال التفاوض، وفرض العقوبات للضغط على روسيا، مع الحرص على تحييد قطاع الطاقة، إلا أن هذه الأحداث شكلت ضغوط مركبة على الطاقة في مختلف دول العالم.
على النقيض من الموقف الغربي، احتفظت الصين بموقف منفرد من الحرب تحكمه اعتبارات الشراكة مع روسيا، كما سارعت في ضمان النصيب الأكبر من الاستحواذ في سوق الطاقة الروسي بتوقيع اتفاقية “شراكة بلا حدود”، ووطدت علاقاتها بعقد جملة من الصفقات في مختلف موارد الطاقة (الفحم، والغاز، والنفط)، بما يعزل الصين عن أي ضغوط في الطاقة. وربما يرشحها للتعامل مباشرة مع أوروبا في صفقات توريد الغاز.
ملامح أزمة الطاقة الناتجة عن حرب أوكرانيا
لم تتوفر الظروف الكافية لأجل تحقيق التعافي الكامل من أزمة الطاقة العالمية -بفعل تداعيات جائحة كورونا، ثم عودة النشاط الاقتصادي مع انحسار الجائحة، حتى اندلعت الحرب الروسية لتشكل ضربة كبيرة لأسواق الطاقة العالمية، مدفوعة بالعديد من العوامل، أهمها:
- سيطرة روسيا على أسواق الطاقة: تحتل روسيا المرتبة الثالثة عالميًا في إنتاج النفط الخام، بإجمالي بلغ نحو 520 مليون طن في عام 2021. كما بلغ إنتاج الغاز الطبيعي الروسي 761 مليار متر مكعب، لتحتل المرتبة الثانية عالميًا. وتصنف روسيا الأولى عالميًّا في قائمة مصدري الغاز، والثانية عالميًّا في تصدير النفط، ما يمكن روسيا من التأثير في أسعار الطاقة في العالم بناء على التحكم في الطلب والعرض.
- تسليح الطاقة: تسببت الحرب الروسية في التلويح بإدراج ملف الطاقة ضمن أدوات الضغط والعقوبات من حيث تعطيل وتقليص الإمدادات، نظرا لأن أحد طرفي الحرب يهمين على سوق الطاقة العالمي، بينما الطرف الآخر يحتاج إلى روسيا في تأمين إمدادات الطاقة لديه. ووضع الصراع الاتحاد الأوروبي في موقف حرج باعتباره أكبر مستورد للغاز الطبيعي في العالم؛ حيث تؤمن روسيا وحدها 41% من احتياجات أوروبا من الغاز. وبالفعل أعلنت روسيا، مؤخرًا، وقف إمداد الغاز إلى بلغاريا وبولندا. كما أوقفت ألمانيا موافقتها على خط الأنابيب نورد ستريم 2 كإجراء أولي على الغزو، وتلاه قرار الولايات المتحدة وقف استيراد النفط من روسيا.
وتختلف أزمة الطاقة حاليا عن أزمة عام 1973؛ لأنها لا تتعلق فقط بالنفط، ولكن تشتمل على الغاز والنفط ومختلف صور الطاقة، ويمكن تشريح ملامح أزمة الطاقة بفعل الحرب الروسية في عدة صور:
- ارتفاع أسعار الطاقة: بلغ متوسط تكلفة البنزين في الولايات المتحدة بالفعل 3.54 دولار للجالون، مقارنة بـ 2.66 دولار العام الماضي، وارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بنحو 70 %، بينما ارتفع النفط الخام إلى 105 دولارات للبرميل بنسبة 21% للمرة الأولى، مع مخاوف بأن يصل إلى 300 دولار للبرميل وفقا للتصريحات الرسمية الروسية، كما يضيف الغزو الروسي ضغوطًا تصاعدية على أسعار الغاز الطبيعي المسال؛ حيث قفزت أسعار الغاز الطبيعي المسال الآسيوي إلى 37 دولار/ مليون وحدة حرارية بريطانية.
- التضخم: مع ارتفاع أسعار الوقود، وقعت الدول في أزمة اقتصادية لا متناهية، بسبب ارتفاع أسعار مختلف السلع والمواد الخام، وهو ما رفع معدل التضخم لاسيما في الولايات المتحدة التي اتجهت إلى امتصاص التضخم من خلال إقرار رفع سعر الفائدة في اجتماع الفيدرالي الأخير، الذي ستتلوه اجتماعات أخرى خلال العام الحالي والمقبل بغرص السيطرة على التضخم ورقع قيمة الدولار الأمريكي.
- تراجع القوة الشرائية للمستهلكين في آسيا: يهدد التضخم بمزيد من تقويض النشاط الاقتصادي. على سبيل المثال، في بنغلاديش، مع تكبد شركات النفط والغاز خسائر متواصلة، تستمر الحكومة في مواجهة الاختيار بين زيادة الدعم، أو زيادة الرسوم الجمركية، أو الاستغناء عن الوقود، وفي الفلبين، انخفضت قيمة البيزو بسبب ارتفاع التكلفة والواردات المقومة بالعملات الأجنبية. وبشكل عام تهدد الأزمة الحالية بتعميق أزمة سلاسل التوريد، وعرقلة التعافي الاقتصادي فضلاً عن تعثر الأسواق الناشئة.
ومع استمرار الحرب وتضييق الخناق في إمدادات الطاقة، اتجهت دول العالم نحو تحقيق مرونة الطاقة بتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، وطرح عدد من آليات التكيف؛ حيث تسعى التشيك وفرنسا وبولندا والمملكة المتحدة إلى إنشاء مفاعلات نووية جديدة، وكذلك التركيز على بدائل جديدة مثل عقد صفقات الغاز المسال، والتفكير في تسريع التحول نحو إمدادات طاقة أكثر كفاءة من أجل الابتعاد عن الوقود الأحفوري. وتعمل إيطاليا وهولندا والمملكة المتحدة على تسريع الجهود للاستفادة من طاقة الرياح.
هل تشمل العقوبات الغربية قطاع الطاقة الروسي؟
تستطيع ورسيا تغيير هيكل سياسات الطاقة في العالم بفضل مواردها الضخمة من الوقود الأحفوري. وعلى مدار عقود، ارتبطت الاقتصاديات الأوروبية بصورة أعمق بموارد الطاقة الروسية، بحيث أصبحت تعاني درجة عميقة من انكشاف الطاقة، وتعكس دلالة توقيت الغزو إدراك روسي كبير لمدى هشاشة أمن الطاقة في أوروبا في ظل إهمال طويل لسياسات التحول، والاعتماد على الطاقة التقليدية. كما تمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات في أوروبا، واتسم رد الفعل الغربي على الغزو الروسي بتصعيد أهمية العقوبات الاقتصادية على التدخل العسكري مع مراعاة ألا تؤثر على احتياجات أوروبا، وأخذت العقوبات اتجاهين:
- عقوبات مركبة: تفسر جملة العقوبات التي فرضها الولايات المتحدة والغرب على روسيا جراء العزو محدودية قدرة أوروبا على الاستعاضة عن الطاقة الروسية؛ حيث فرضت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حظرًا على تصدير الطائرات والسيارات، وتم حظر جميع الرحلات الجوية الروسية، كما فرضت عقوبات على أكثر من 1000 فرد وشركة روسية، بالإضافة إلى إبعاد روسيا من نظام Swift، وتجميد أصول البنك المركزي الروسي البالغة 630 مليار دولار.
- تحييد الطاقة: تكمن صعوبة الموقف الأوروبي في أنها تواجه خصم تحتاج إليه في تأمين ما يقترب من 50% من سلعها الاستراتيجية؛ حيث تستورد أوروبا حوالي 175-200 مليار متر مكعب من الغاز الروسي، وهو ما تبين من عدم قدرة أوروبا على فرض عقوبات على إمدادات الغاز الروسي، وأن الدولة الوحيدة التي حظرت جميع واردات النفط والغاز الروسية هي الولايات المتحدة لما تمتلكه من احتياطي استراتيجي، لذلك امتنع الاتحاد الأوروبي عن قطع الشحنات الروسية، كذلك لم تقم الهند بإدانة بشكل حاد الغزو الروسي، بل زادت مشترياتها من النفط الروسي على مدار شهري مارس وأبريل، كما أكدت اليابان إصرارها على إكمال مشاركتها في مشروع القطب الشمالي للغاز الطبيعي المسال 2 “arctic LNG 2”.
مؤخرًا دعا البرلمان الأوروبي لمناقشة خطط لحظر استيراد النفط والغاز من روسيا بنهاية العام الحالي. ومن الواضح أن هناك انقسام أوروبي حاد تجاه مثل هذه الخطط مع وجود معارضة ألمانية واضحة لإدماج قطاع النفط الروسي في العقوبات ومطالبة بعض الدول لاستثنائها من مثل هذه الخطط. وهو ما يعني أن الموقف الاقتصادي للقارة سواء في قطاع النفط أو غيره أصبح على المحك، ومن المؤكد أنه سيجلب معه مزيدًا من الانقسام داخل المواقف الأوروبية.
استجابة الصين
تحاول الصين السيطرة على أزمة الطاقة الراهنة في محاولة لمنع تكرار سيناريو أزمة وباء “كورونا،” مع مراعاة العديد من الاعتبارات بالتوازن بين أهداف المناخ والنمو الاقتصادي وأمن الإمدادات. وفي 22 مارس، أصدرت الصين خطتها الخمسية ال14 لنظام الطاقة الحديث، التي تضمنت خطط التوسع في الطاقة المتجددة بخطوات ثابتة، والتأكيد على أمن الطاقة كشرط مسبق للتنمية منخفضة الكربون، والتأكد من أن قطاع الطاقة لديه القدرة والمرونة الكافية للحماية من الصدمات خلال عملية الحد من الكربون. وأشارت الوثيقة أيضًا إلى بقاء الفحم كبديل دون أن تحدد حدود التوسع فيه.
وتمتلك الصين خبرة طويلة في التعامل التجاري مع الدول الواقعة تحت العقوبات؛ حيث تجاهلت مخاطر العقوبات الأمريكية، وتلقت 324 مليون برميل من إيران وفنزويلا في عام 2021. وعلى الرغم من استمرار العقوبات الأمريكية على صادرات النفط الإيرانية، استوردت الصين ما معدله اليومي 850 ألف برميل من النفط في عام 2021 وفقا لشركة TankerTrackers.
بالنسبة لتوريد الطاقة بين روسيا والصين، تمثل الصين أكبر مستورد للفحم الروسي بنسبة 25% من إجمالي الإنتاج. كما استوعبت الصين 20٪ من النفط الروسي. وتمثل روسيا ثالث أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى الصين، وعلى النقيض من الوضع في أوروبا، إلا أن العلاقات المتنامية بين الصين وروسيا، جعلت من الحرب فرصة كبيرة أمام الصين للاستحواذ على حصة أوروبا من الغاز الروسي، وتقوية الشراكة في مجال الطاقة من خلال:
- صفقات جديدة: تسعى روسيا لزيادة صادراتها من الفحم إلى الصين إلى 100 مليون طن، كما وقع البلدان صفقات جديدة للنفط والغاز بنحو 117.5 مليار دولار، حيث وقعت شركة غازبروم اتفاقية طويلة الأجل مع شركة CNPC لتوريد 10 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا عبر خط أنابيب جديد من روسيا إلى الصين “خط سخالين -3” لمدة 30 عام، كما وقعت شركة روسنفت صفقة مدتها 10 سنوات لتزويد الصين بـ 100 مليون طن من النفط عبر خط أنابيب كازاخستان والصين.
- خطوط جديدة: تناقش روسيا والصين حالياً 4 مشاريع أخرى لخطوط أنابيب الغاز، أهمها “Power of Siberia 2″ المقرر أن يربط روسيا بالصين عبر منغوليا، ويعزز التصدير إلى الصين بمقدار 50 مليار متر مكعب، بالإضافة إلى خط أنابيب Power of Siberia، لنقل الغاز من حقول ياقوتيا، بسعة 38 مليار متر مكعب سنويًا بحلول عام 2025.
الصين كبديل لاستهلاك الطاقة الروسية
تواجه مشاريع الطاقة الروسية مستقبلًا غير مؤكد، مما يدفع روسيا نحو تحويل صادرات الغاز الروسي مع أوروبا إلى الصين عملا بتجربة 2014، بعد ضم شبه جزيرة القرم، حيث سارعت روسيا إلى الصين بتوقيع اتفاقية لتسليم 38 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي على مدى 30 عام، بالإضافة إلى عقد استثمارات صينية لتطوير أول مشروع للغاز الطبيعي المسال في أقصى شمال روسيا.
وإلى جانب التحديات المتعلقة بالبنية التحتية لخطوط الأنابيب لتحويل تدفقات الغاز الطبيعي من الغرب إلى الشرق، تضع روسيا آمالا كبيرة على “Power of Siberia 2” المقترح عبر منغوليا ليربط الصين بحقول الغاز في شبه جزيرة يامال، في فتح الطريق لإعادة توجيه صادرات الغاز الروسي إلى الصين بدلا من أوروبا، كذلك مشروع “arctic LNG 2″، المقرر أن يبدأ تسييله في عام 2025، بإجمالي يصل 20 مليون طن من الغاز سنويا، كما تم الاتفاق بين الصين وروسيا على تمديد خط أنابيب سخالين-فلاديفوستوك، كما تحاول توسيع خطي السكك الحديدية إلى المحيط الهادئ BAM وTrans-Siberian لنقل الفحم.
ويتوفر فرصة ثمينة أمام الصين لشراء الأصول التي تخلت عنها شركات مثل BP و Shell وExxon Mobil بأسعار مميزة، وتبذل الصين جهود موسعة في تطوير قطاع الشحن البحري واللوجستيات، بهدف تعزيز قدراتها في بناء السفن القطبية، وكسارات الجليد الثقيلة وتصميمات ناقلات الغاز المحلية من فئة الجليد.
ختامًا.. تشكل الحرب الروسية الأوكرانية أبرز مثال لتفعيل مبادئ الجيواقتصادية، حيث وظف كلا من المعسكرين الروسي والغربي الأدوات الاقتصادية من أجل التأثير في مسار الحرب، وسعت روسيا إلى إعادة موضعة نفوذها في العالم من خلال ملف الطاقة، الذي شكل نقطة ضعف رئيسية بالنسبة للدول الأوروبية. وتؤكد الحرب على ضرورة تحقيق كل دولة استقلالها من سلعها الاستراتيجية وعلى رأسها موارد الطاقة، كما تحافظ الطاقة على موقعها كمتغير رئيس في صياغة المصالح الحيوية وتحديد طبيعة العلاقات بين الدول.