عند التعرض لمستقبل العمل العربي، يمكن الإشارة إلى نوعين من أشكال التعاون العربي؛ النوع الأول هو التعاون الفني والتقني، والتجاري والنقابي، والذي تمثله اتفاقات التعاون بين ممثلي الحكومات العربية المختلفة وكذلك الجماعات المعنية والنقابات الفنية، مثل المحامين والأطباء والمهندسين والمعماريين، والأدباء والكتاب وغيرهم. ومن المتوقع أن يتزايد النمو المضطرد لأشكال التعاون المختلفة بفعل النمو الاقتصادي واتساع نطاقات الاستثمارات، وتشابك المصالح والحاجة إلى نقل الخبرات من بلد لآخر/ وكذلك تطور التقنيات التـي ستسرع من عمليات التواصل والتفاعل في الفضاء الافتراضـي بين مختلف الجماعات والنقابات وا.
أما النوع الثاني، فهو القائم على التفاهم السياسـي المشترك بين الدول العربية حول ملف إعادة الأعمار في الدول التـي تعاني من الصراعات الأهلية. قد يبدو الحديث عن إعادة الإعمار في المنطقة مبكرًا خاصة مع استمرار معظم الصراعات على الأرض، وهشاشة العمليات الانتقالية في بعض البلدان، أو ربما تراوحها بين الأزمة والأخرى. إلا أن هذا الملف قد طرح من بداية الصراعات، إذ أنه عامل رئيس لتحقيق التسوية النهائية والشاملة للصراعات.
ليست إعادة الإعمار بمجرد عملية بناء مادي لما تهدم أثناء الحروب، أو مجرد مد طرق قد انقطعت؛ بل هو عملية سياسية اقتصادية بامتياز تتم من خلالها إعادة تشكيل الاقتصاد الوطنـي في إطار الجهود السياسية لتسوية النزاعات. باعتبارها عملية سياسية اقتصادية، فإنها تشمل إعادة توزيع الموارد الناتجة عن الحرب من مغانم وخسائر على الأطراف على حسب الوضع النهائي للصراع. إنها تعبر عن الاتجاه نحو الانتقال من تسوية الصراع إلى تحويله.
ومن ثم، ليس النجاح مضمونًا في إعادة الأعمار. ففي بعض الحالات مثل العراق، بعد ٢٠٠٣، كان البلد نهبًا للتدخل الخارجي والفساد الداخلي، وهو ما أدى إلى هشاشة التكوين السياسـي. وعلى الرغم من مساهمة جهود الإعمار الإقليمية في نهوض الاقتصاد اللبناني في أعقاب الحرب الأهلية، لم يؤد إعادة الإعمار إلى إصلاح الإطار السياسـي القائم على الطائفية والمحاصصة، وظل البلد مأزومًا بالأسباب التي أدت إلى الحرب الأهلية سابقًا وتهدد وجوده حاليًا.
حاليًا، تبدو الحاجة إلى إعادة الإعمار في المنطقة أكثر إلحاحًا بسبب تزامن وتداخل الصراعات الأهلية في المنطقة. وعلى الرغم من أن الأطر الوطنية، مثل درجة وجود مؤسسات وعملية سياسية فعالة، وتأثير موارد النفط والتمويل، ستحدد الكثير من نتائج الإعمار في بلدان العراق وسوريا واليمن وليبيا، فإن التفاعلات الإقليمية سيكون لها تأثير موازِ. فمن المحتمل أن يكون إعادة الإعمار ساحة للتعاون الاقتصادي الإقليمي، أو ربما ساحة لإعادة إنتاج الصراعات. وتوجد حاليًا العديد من المؤشرات التـي تدعم المسار الأول، مثل حاجة الدول الخليجية إلى تنويع اقتصاداتها، وبالتالي تسعى إلى الإسهام في اقتصادات العراق وسوريا واليمن من خلال الاستثمار في قطاع البنية التحتية والطرق والموانئ والطاقة، وعدم قدرة القوى الإقليمية على القيام بأعباء إعادة الإعمار وحدها. فإيران وتركيا غير قادرتين اقتصاديًّا على تمويل إعادة الإعمار في سوريا. خاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في كلا البلدين؛ في الوقت الذي ترى فيه روسيا ضرورة مساهمة دول الإقليم لدفع الاقتصاد السوري قدمًّا.
أما مسار التصارع على إعادة الإعمار فيعززه ضعف الأطر السياسية في البلدان الأربعة. والإطار الأكثر استقرارًا يوجد في العراق، لكنه يخضع للعبة التأثير بين الولايات المتحدة وإيران، والتدخل التركي. وما زالت العملية السياسية في ليبيا غير ناضجة وهشة. وحتى لا تستطيع الحكومة السورية مد حركة المصالحة إلى كافة المناطق والفئات، مع وجود جزء كبير من الشعب السوري في الخارج، وعدم القيام بإصلاحات حقيقية في النظام السياسي. أما اليمن، فيعاني من حالة انقسام حادة. كل هذه الأوضاع تجعل إعادة الإعمار انعكاسًا لمدى قدرة النظام الإقليمي على التوافق أو التصارع.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى “عمل عربي مشترك” أو ربما “مشروع مارشال عربي” لإرساء الاستقرار في العراق وسوريا واليمن وليبيا، من خلال مفهوم التكامل الاقتصادي. كان الاقتصاد الأمريكي عند إطلاق مشروع مارشال لمساعدة دول غرب أوروبا في موقف قوي يساعد على منح معونات دون مقابل. أما الاقتصادات العربية، حتـى النفطي منها، ما زالت في مرحلة انتقالية تستدعي التكامل من خلال الاستثمار المشترك الذي يعود بالفوائد الاقتصادية والتشغيلية على كل من المستثمر والمضيف، فضلاً عن تعزيز قاعدة العمل العربي المشترك على أساس اقتصادي وسياسـي أكثر قوة.
تبدو حالة العراق هي الأفضل مع وجود مصادر لتمويل إعادة الإعمار متمثلة في عوائد النفط، ووجود عملية سياسية ومؤسسات تحظى باستقرار نسبـي، وأخيرًا، نجاح القيادة الحالية في بناء تفاهم مع مختلف القوى الإقليمية. وفي هذه الوضعية، يحتاج العراق إلى استثمارات عربية في قطاع الطاقة الكهربائية لإعادة تأهيل محطات إنتاج الوقود، وتشغيل مصافي النفط، وإعادة تأسيس الصناعات التحويلية. أما سوريا، فما زالت حالة شائكة خاصة مع وجود عقوبات غربية على النظام الحالي، قانون عقوبات قيصر الأمريكي الصادر في ٢٠٢٠. وهو ما قد يحبط أية محاولات عربية للتعامل المباشر مع دمشق فيما يتعلق بإعادة الإعمار.
لقد كان مشروع الوصل الكهربائي المصري- الأردني للبنان عبر سوريا، المتفق عليه في سبتمبر ٢٠٢١ بمثابة نقطة اختبار لهذا القانون. فقد وجدت واشنطن ضرورة تقييد العمل بالقانون من أجل تخفيف الأزمة الاقتصادية التـي يمر بها لبنان، وكذلك لقطع الطريق أمام الدعم الإيراني للبنان. وبالتالي، فإن اتجاه الدول العربية لبناء مشروعات للاستثمار في سوريا، قد يقنع واشنطن بعبث محاولة إسقاط نظام البعث في سوريا من خلال العقوبات.
تتشارك ليبيا مع العراق في وجود موارد نفطية لتمويل إعادة الإعمار. إلا أن البلد يعاني من ضعف شديد في بنية مؤسساته الاقتصادية قبل الحرب الأهلية، المعتمد بالكامل على إعادة توزيع أرباح الريع النفطي، فضلاً عن سيادة أنماط اقتصاد الحرب من تهريب للبشر والسلاح والسلع عبر الحدود. وسيتوقف نجاح إعادة الإعمار في إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي تعيد تأسيس الاقتصاد الليبـي على أساس الاستثمار في البنية التحتية وتضمين كافة المناطق. وتبدو ليبيا أكثر استعدادًا لاستيفاد العمالة العربية خاصة من مصر وتونس، وهو ما سيمنح الدولتين مصادر تمويل هائلة. وقد يكون للشركات المصرية نصيب هائل من إعادة تأهيل البنية التحتية خاصة الطرق الواصلة بين المدن الليبية المترامية.
أما اليمن، فتنقسم حظوظه في إعادة الإعمار بين الشمال والجنوب. يبدو جنوب اليمن المطل على خطوط التجارة العالمية أكثر جذبًا لاستثمارات القوى الراغبة في تأمين طرق التجارة والموانئ وعلى رأسها الإمارات، والصين. أما شمال اليمن، الأفقر في موارده، فسيظل في حاجة إلى التمويل الخليجي. وهو ما سيتوقف على نهاية فعلية للحرب وإعادة تشكيل النظام السياسـي على نحو توافقي.
لذا، لن تكون المساعدات كافية لإنجاح إعادة الإعمار في المنطقة. كما أنها غير كفيلة ببناء قاعدة للعمل العربي المشترك، الذي ينبغي له أن يعاد على أساس سياسي قوي قادر على تحييد التأثير السلبي للتناقضات الداخلية التي كشفت عنها وعمقتها الصراعات.
ومن ثم، فالسيناريو الأفضل هو تقديم الدعم السياسـي لإعادة الإعمار، من خلال بناء توافق بين الدول الأكثر تأثيرًا حول ضرورة إنهاء الصراعات أو على الأقل إنهاء مظاهر العنف والتقسيم. يتلو هذا ضرورة تقديم عن الدعم التقنـي والاقتصادي، بدلاً من التركيز على الأرقام وحدها. مع العلم، أن الإخفاق في إعادة الإعمار لن يعنـي سوى إعادة تدوير أسباب الصراع، وإنتاجه بأشكال أخرى؛ ما قد يهدد استقرار بقية دول المنطقة. ويمكن أن تستغل أطر التعاون العربي القائمة بالفعل مثل الجامعة العربية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق النقد العربي لحشد الاستثمارات العربية المطلوبة في الجانب الاقتصادي من إعادة الإعمار. ويمكن للمؤسسات نفسها بالتعاون مع الهيئات الوطنية أن تحدد القطاعات الأكثر احتياجًا للاستثمار والتطوير، والإمكانات المحلية المتوفرة، ومساحات التعاون الأكثر احتمالاً بين البلدان العربية.