مثّلت تجارب الإسلاميين في الحُكم بمستوياته المختلفة في العديد من الدول العربية طوال العقد الأخير وتطوراتها مُؤشرا جوهريّا على عدم قدرتهم على مسألة الحكم فكرًا وبشرًا، وذلك في ظل مُدخلاتهم المعرفيّة القائمة، والتي أنتجت بتراكم السنوات أزمات مركزية مُتداخلة ذات منحى جدلي تماهى فيه الإلهي بالبشري، المُطلق بالنّسبي، الغَيبي بالواقعي. وعلى الرّغم من مُختلف أدبياتهم المُتراكمة على مَدار عقود والتي تُنظّر لفكرة الدّولة الإسلامية كمشروع سياسي يُستهدف تَحقيقه وتهيئة سياقات استمراريته، إلاّ أننا في المقابل عند إتاحة الفرصة السياسية أمامهم وجدنا إلتباس في السلوك السياسي تجاه مسألة الدولة نتيجة الفجوة المركزية بين الأدبيات والواقع العملي، وهو ما عكسه أدائهم السّياسي الذي حمل عِدّة أزمات هيكلية في التّصورات تجاه “الدولة” وسُبل التّفاعل معها ما أدى إلى أزمات سياسية ومُجتمعية مُتعددة المُستويات كتداعيات لتلك الأطروحات.
أولا: التّصور المُستهدف للدولة
على الرّغم من التّأصيلات التي قدّمها مُنظري التّيار الإسلامي -بمختلف تنويعاته- لمعالم المشرع الإسلامي المُستهدف على مدار عقود إلاّ أنّها ظلّت جَدلاً نظريّا مع تنازع داخلي حول رُؤيتين جَدليتين تتعلق بالنّظرة إلى “طبيعة الدولة” المنشودة ما بين أنها دينية أم مدنية، حيث خَلُصت غالب التّيارات الإسلامية إلى النظر إلى دولتهم المُستهدفة باعتبارها دولة مَدنية دون الالتفات إلى وضع تصور عملي لنموذج قابل للتطبيق عبر آليات عمل حيث لم يتجاوز الأمر نمط القواعد العامة ذات المنحى الأخلاقي والتي تستهدف الإشارة إلى أن أهداف النظام السياسي الإٍسلامي هو تحقيق الشريعة الإسلامية ، ما يعني وقتئذ أن باقي احتياجات المجتمع ستتحقق تلقائيا أو بسهولة.
في سنوات الصحوة السياسية للإسلاميين بعد 2011 لم تُقدّم أيّا من الأحزاب الإسلامية القائمة تصورا مُحددًا أو مُحكمًا لشكل الدولة المستهدفة، ولا لكيفية تطبيق أي منها للشريعة حيث تباين طرحها لتفعيل ذلك. لم تختلف أطروحاتهم عن غيرهم من التيارت السياسية في تصورها للنظام المستهدف عمليا، حيث تراوحت أطروحات أحزاب الإسلاميين ما بين مُختلف أشكال النظم السياسية القائمة مع إشارات عامة إلى السعي نحو دولة عصرية على الأسس الحديثة، تحترم التعايش السلمي بين المواطني وتقوم على تعدد المؤسسات والفصل بين السلطات كما هو الحال مع حزبي “الوسط”، “النور”. وفيما يتعلق بالتّصورات التّفصيلية لشكل الدولة في برامج تلك الأحزاب ونظامها السّياسي المُستهدف تَحقيقه، نجد أنه أتى استنادًا إلى تصور تلك الأحزاب- ومن ورائها تَنظيماتها الدّعوية- لحجم ثقلها في الشارع السياسي ومدى قدرتها على الحصول على كتلة تصويتية كبيرة من عدمه، وبالتالي فرص سيطرتها بالتبعية على مراكز الحكم الرئيسية كرئيسي الدولة والحكومة في ضوء سيطرتها على الشارع، وبناء على ذلك كان يتم طرح النموذج الأمثل “لهم” كشكل للدولة والنظام السياسي المستهدف. كذلك طبيعة شبكات تحالفهم السياسي.
بدا ذلك في طرح حزب “الحرية والعدالة”- المُمثل السّياسي للإخوان المُسلمين- بتبنى النّظام البرلمانى في ظل قُدرة الجماعة القوية على الحشد التّصويتي وثقلها الإجتماعي الذي يُمكّنها من الحَشد الإيجابي لصالحها، أيضا تأثرت الأطروحات المُقدمة بشبكة تحالف بعض هذه الأحزاب مع القوى الإسلامية الأكبر وهو ما بدا في طرح أحزاب السلفية الحركية- حزبي “الأصالة”و”الفضيلة”- القريبة سياسيّا من المَسار السّياسي للإخوان المسلمين في تلك السنوات. حيث طالبوا بنظام برلماني.
هذه الطرح لشكل الدولة الإسلامية ارتبط به طرح آخر مُتباين حول مرجعيتها وموقع الشريعة فيها وكيفية تطبيقها فحزب “الوسط” أكد في برنامجه أن أفكاره تنبُع من قيم الحضارة العربية الإسلامية، ولم يُعلن صراحةً المرجعيّة الإسلامية حيث اختار الاهتمام بالمضمون وليس بالشكل. أيضا حدث توافق سلفي على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدّر الرئيسي للتشريع. وتأكيد حزب الإخوان المسلمين على أن “مقاصد الشريعة الإسلامية” التى تهدف إلى تحقيق الضروريات والحاجيات والتحسينيات، تُمثل السياسة الحاكمة فى تحديد أولويات الأهداف والسياسات والاستراتيجيات.
ثانيا: القدرة على التطبيق
تتطلب القدرة على تطبيق تصور سياسي ما عدة عوامل تمكن صانع القرار السياسي من تنفيذ تصوره ذلك، ومن أبرز هذه العوامل:
1- وجود منظومة فلسفية لشكل الحكم
بالنظر إلى المشروع الإسلامي نجده أطروحه فكرية أكثر منه برنامج عملي فكما سبق وأشرنا ظل الطرح لتصور الدولة نظريا أكثر منه عمليا، مع غياب النّموذج القابل للتطبيق أو التهيئة للتطبيق. وهو ما بدا في برامج وممارسات الأحزاب الإٍسلامية في مصر – عبر سنوات 2011-2013- حيث توزّعت في غالب جوانب المشهد السياسي عبر أحزاب تُمثل أغلبية وأحزاب معارضة في بعض الوقت كذلك إدارة المشهد السياسي والتنفيذي عبر موقع رئاستي الدولة والوزراء.
2- مدى استيعاب المؤسساتية في للدولة وموقعها من النظام السياسي
في ضوء المُمارسه نجد افتقاد التيار الإسلامي لهذا الإستيعاب في نظر ته إلى الدولة وشئونها حيث:
أ. غلب منطق إدارة الجماعات على ممارساتهم في الحكم: فانتهجوا نفس الوسائل المعتاد عليها في التّنظيم كمهام على الأعضاء تَنفيذها. وكمثال نجد تَضاعُف حجم الأعمال الرعائية لجماعة الإخوان المسلمين عبر تكثيف “قِسم البر” بالجماعة نشاطاته لامتصاص غضب المجتمع نتيجة الوضع الاقتصادي المُتأزّم والمُستمر فترة حكم محمد مرسي، وللحفاظ على كتلتها السائلة – إسلامية وغير إسلامية- الداعمة لها، دون العمل على توجيه مؤسسات الدولة لتنفيذ مهامها وتذليل العقبات وتفعيل أدوات الدولة العقابية في حال وجود تقصير.
ب. التّحفظ على المنظومة المُؤسساتية القائمة بدعوى عَدم شرعيتها: يبدو ذلك الموقف السّلفي من المُؤسسات النَقديّة والمالية القائمة، ورفض التعامل مع أدواتها المالية والإجرائية المختلفة دون النظر في آليات عملها وموقعها من النظام الدولي.
3- وجود كوادر يمكنها التطبيق
أي مشروع قابل للتطبيق بكفاءة يحتاج كوادر قادرة على ذلك، فبالنظر إلى واقع الإٍسلاميين نجد إما غيابهم عن المُستويات التّنفيذية الرّفيعة في الهيكل الإداري لمُختلف أجهزة الدّولة أو ابتعادهم تمامًا عن الجهاز الإداري. وهذا نتاج السياسات الأمنية المتعاقبة على مدار العقود الماضية والتي حالت دون تصعيد كوادر لديها انتماء حركي في صدارة الهرم الإداري تجنبا لأي استقطابات أو اختراقات يكون لها تأثير على أداء الحكومة . وفي أوقات أخرى كان يتم المنع تمامًا من إلحاقهم بالوظائف العامة ما دفعهم إلى تكثيف النشاط ضمن القطاع الخاص. وفي حين وجد بعض التكنوقراط ذوي المهارات الفنية المرتفعة في العديد من المجالات إلا أن كفائتهم تظل نظرية كمتخصصين أكاديميين تكونت مهاراتهم من خارج الجهاز التنفيذي وهو ما حال من وجود فرص عملية. لينتج عن كل ذلك إخفاق التّيار الإسلامي في تسيير العَمل في الجهاز الإداري للدولة ما عمق من أزماته مع مختلف الوزارات وهو ما أنتج بالتالي أزمات مُجتمعية مُتعددة.
4- وجود سياق سياسي ومُجتمعي يدعم التجربة
مع غياب المشرع السياسي المستهدف تحقيقه كان الحل أمام غالب القوى الإٍسلامية لتجاوز ذلك تعميق الخطابات الهوياتية وما رافقها من جدل حول تطبيق الشريعة ودسترتها لضمان إستمراريتها السياسية، وهو ما كان عاملا مؤثرا في غياب التوافق المجتمعي حول الإسلاميين في ظل الانقسامات التي أثارتها هذه الخطابات ومُمارسات مُنتجيها عبر إبرام توازنات وقتية هشّة مع القوى السياسية القائمة من وقت لآخر ـ دون إشراكهم عمليا في المشهد السياسي، ما وسّع الفجوة بين مختلف الأطراف السياسية القائمة. وهو ما حال دون توافق أو دعم للاسلاميين حيث أرجعوا ذلك إلى الدولة العميقة وبقايا عهد مبارك الرافض للتعاون معهم في حين كانت الرؤية المقابلة تتمثل في الممارسات الإستعلائية والإستقطاب والإستبعاد الديني للتيار الإسلامي.
ثالثا: تداعيات التطبيق
على الرغم مع أزمات الإسلاميين تجاه فكرة الدولة وتفاعلهم مع مؤسساتها نجد أن ما ساهم في تعميق أثر هذه الإخفاقات يعود إلى طبيعة السلوك السياسي المُنتهج تجاه مسألة الحكم بصورة عامة وهو ما حال دون العمل على تجاوز تلك الاخفاقات وهي في جوهرها ذات أبعاد فنية وإدارية لافتقادهم المهارات اللازمة والتي كان يمكن تجاوزها مرحليا عبر تعاون مع خبرات مؤهلة لذلك في حال وجود تّصور استراتيجي لكيفية تجاوز ذلك الإخفاق. لكن حال دون تحقيق ذلك طبيعة السلوك السياسي لعموم القوى الإسلامية والذي اتّسم بامتلاك الحقيقة المطلقة فهم بمثابة أصحاب الحق الإلهي المُطلق والجماعة المؤمنة، وذلك في مقابل النسبية التي تحكم الأيدلوجيات السياسية التي تمثل المرجعية للمختلف القوى المنافسة. رافق الزّخم السّياسي الإسلامي في مصر أزمات ثقة لدى قطاعات مجتمعية مُختلفة في ظل حالة الخوف التي خلّفتها الممارسات والخطابات. فقد دفع غياب المشروع السّياسي مع حالة السيولة في المشهد الحركي إلى تضخيم خطاب الهوية في ظل الرغبة الإسلامية في إثبات الذات السياسية. عبر ممارسات “شعوبية” تستهدف إظهار قوتهم العددية كوسيلة لإثبات وترسيخ قوتهم السياسية، كذلك حضورهم المجتمعي وحدود تأثيرهم.
كما حمل سلوكهم السّياسي في مواجهة الأخر – قوى مجتمعية/أحزاب سياسية- سمتًا إستعلائيّا في ظل رُؤيتهم الذّاتية لحِراكهم “السّياسي” الذي رأوه “مُقدسًا” في ظل التّماهي الحادث بين الإسلام والتّنظيم وأفراده، حيث أخذ هذا الحراك بالتبعية حصانة، فهو يستهدف تحقيق التمكين الإلهي وبالتالي هو أكثر نقاءً وصدقًا من باقي المشروعات والأيدلوجيات السّياسية الوضعية القائمة. وهذا أدى إلى نزعة فردية في المُمارسة تُعلى الإسلامي على غيره وإبن التنظيم على من سواه. وذلك يعود إلى المكون السلفي الغالب على مرجعية قُوى الإسلام السّياسي والقائم بالأساس على فكرة “الدليل الشرعي” نجد اليقينية في كل تصرفات الإسلاميين، فممارساتهم هي الدين المُطلق طالما معهم الدليل، ما يُنتح بالتالي حالة من الاستعلاء العَقدي” على مُخالفيهم – سواء كانوا إسلاميين من غير جماعاتهم، أو عموم المُسلمين– حيث هم الدين أو على أقل تقدير الأقرب للتمسك بصحيح الدين، ويمتد ذلك ضِمنا على سلوكهم السياسي أو الاجتماعي أو الشخصي. وهذا أدى لتراكم التوتر وفقدان الثقة بين القوى السياسية ومن ثم غابت فرص وجود تحالفات سواء في مرحلة الحكم أو مابعد الحكم.
في ضوء ما سبق نجد أن الإشكالات التي أبرزتها الممارسة السياسية للإسلاميين تظل قائمة وقابلة لتكرار في ظل ثبات المدخلات الفكرية دون تطوير حقيقي وانفتاح فكري وتنظيمي يسمح بذلك. وعلى الرغم من حالة الإخفاق السياسي والمجتمعي الذي نال مشرعهم وصورتهم في المجتمع والذي يتطلب العمل على مراجعة وتنقيح وتطوير مدخلاتهم وما يتعلق بمشرعهم. حيث نجد إستمرار التصور الذاتي للتجربة التيار الإسلامي الحركي للدولة والعمل السياسي كما هي رؤيتهم دون تغيير في ظل إستمرار آلية التفاعل المعتادة مع أزماتهم عبر تحويل مسببات أزماتهم المختلفة إلى ثنائيات مطلقة ذات صبغة إقصائية كالخير والشر الإيمان والكفر بما يُؤشر على إستمرارية الأزمة السّياسية والاجتماعية عبر خِطابات إقصائية تعمق سلوكيات الآخر الإقصائية بالمثل. وذلك في ظل وحدة التّصور الغالبة والجامعة لثلاثية المقدس والمُطلق والغيبي في شخوص وممارسات التيار الإسلامي -على تجاذباته وصِداماته الدّاخليّة- مع إحالات جوانب الإخفاق العملي لممارساته إلى الآخر -غير الإسلامي، غير المسلم- محليا وعالميا، المتآمر على أصحاب العقيدة الصحيحة ومشروعهم الأصوب الأحق بالوجود والاستمرارية.
وعليه.. يظل المستقبل السياسي للتيار الإسلامي مُرتبطا في جانب رئيسي منه بتغيير مدخلاتهم الفكرية حول طبيعة تصورهم الفلسفي لفكرة الدولة والتعامل معها علميا وهنا سيكون البحث عن مدى وجود تمايز له من عدمه عن غيره من المشرعات السياسية القائمة.