بانتهاء انتخابات مجلس الشيوخ المصري فشل حزب النور السّلفي في حَسم أي مقعد لصالحه في ظل مُشاركة رمزية له في السّباق مُمثلة في 16 مُرشحًا فرديّا يُمثلون صَفوته الحِزبيّة في 9 مُحافظات تُمثل أغلبها مَركز ثِقله الصّلب- تاريخيّا وتَنظيميّا ودَعويّا- ليدخل أربعةٍ منهم الإعادة دون قُدرة أي منهم على تحقيق مقعد لتكون المحصلة النهائية لتلك الحالة السياسية الإسلامية في هذه الانتخابات “لم ينجح أحد”، وهو ما يدفع باتجاه التساؤل حول طبيعة الموقف الشعبي من الإسلاميين كفاعلين سياسيين في المشهد الآني.
يظل الحضور السياسي لتوجه ما مرتبط بثلاث مُتغيرات رَئيسية؛ سياسية، اجتماعية، تنظيمية تملك تَفاعُلاتها القُدرة على التّحكم في مِساحات ذلك الوجود وفاعليته، وهو الأمر الذي ينسحب على الفاعلين الحزبيين ذي المرجعية الدينية خاصة ذي الوجود الرّسمي على النحو التالي.
أولاً: المُتغير الاجتماعي
ويتمثل في طبيعة التّغييرات التي تُشكّل نَظرة الرأي العام تجاه الحالة الإسلامية السّياسية، حيث يَصعُب الفَصل بين الحُضور السّياسي والاجتماعي لأي حالة إسلامية في ظل الإستفادة السّياسيّة من مِيراث ذلك الحُضور الاجتماعي الخيري والتّديني.
فلم يقتصر تداعيات الصراع السياسي بعد 3 يوليو على مسألة الحكم فقط وطبيعة حضور الإسلاميين في الحياة السياسية بعد حظر جماعة الاخوان المسلمين وداعموها – وما رافق ذلك من إختفاء للناشط الاسلامي الحركي في المجتمع- بل امتد الأمر إلى موقع الدين ورموزه عامة في الحياة اليومية للأفراد، وبالتالي كان لذلك انعكاسات على بنية التّدين وتَحولاتها لدى القِطاعات الشّبابية التي اشتبكت مع لحظة الصّراع تلك أو تشكّل وَعيها في ظلاله.
حيث كان للصراع القائم تداعياته اليومية في نظرتهم إلى منظُومة الدين خطابًا ورُموزًا وسياقًا وحضورا سياسيّا وذلك في ظل كل من التّغييرات الجِيليّة الحَادثة في المُجتمع على مَدار هذه السّنوات، إضافة إلى اختلاف مصادر بناء التّدين التقليدية.
يُشير الموقف الرسمي([1]) إلى أن نمط التدين القويم والمُستهدف هو “التّدين الحَقيقي الخالص لوجه الله وليس التّدين الشّكلي أو النَفعي أو السَياسي… كما أن الأخطر من التّدين الشكلي “التدين الّسياسي” وهو “الذي يتخذ الدين مجرد وسيلة و مطيّة للوُصول إلى السُلطة من خلال استغلال العواطف الدّينية وحُب الناس”.
في ضوء تلك السنوات نُشير إلى أن هناك العديد من التّغييرات التي لحقت بحالة التّدين التّقليدية تلك على مُستوى مَصادرها المُنتجة، ثم طبيعة عِلاقة الأجيال المُعاصرة بحالة المعرفة الدينية، إضافة إلى المضمون الدّعوي المُقدم، وكان له انعكاساته أيضا على طبيعة النظرة المُجتمعية لحضور الفاعلين الدينيين سياسيّا حيث أن الرؤية شبه الغالبة لعُموم المُجتمع ترى المُكون الإسلامي وَاحدًا دون إختلافات داخليّة مركزية، وعليه فالجميع نموذجا مُتجددا للإخوان المسلمين. بالإضافة إلى أن الوعي الشعبي قد بات يعلم بوجود ولاءات عابرة للدولة لدى التنظيمات الإسلامية، وهو ما أفرز حالة من النفور والانسحاب الشعبي عن تلك التنظيمات التي كان متماهياً معها من قبل.
في المقابل يَعجز عُموم قواعد التّيار الإسلامي على التّفاعل مع المُعطيات القَائمة ولا يرون بديلًا عن الكُمون انتظارا لتغيير ما قد يحدث حيث لا يزال لديه تصور ذاتي بأن الأمر لن يّستمر، وسوف يعاود الحضور الإسلامي لسابق مكتسباته المُتحققة.
وعليه فلا داعي لإحداث تغييرات حادة في تصوراته ومرتكزات وُجوده أو طرح آليات جديدة للعمل في ظل إمكانية التعايش مع تلك التّغييرات عبر الانخراط في مُمثل قَريب شَكلاً من انتمائِهم ويَحظى بقُبول رَسمي.
يأتي ذلك على الرغم من عُمق التّداعيات التّنظيمية في الحالة الإسلامية الحركية والتي أنتجتها الأزمة السّياسية والتي تَحول دون إحداث أيّ تَغييرات كبيرة في المدى المنظور تتوافق مع تلك التّصورات الذّاتية خاصة في ظل الانقاسامات الداخلية في تلك التنظيمات- حول القيادة، وتكتيكات الحضور- فضلاً عن خَلخة الكَثير من الرّكائز الفِكرية الرّاسخة لجميع تلك المكونات في ظل تّجربتها السّياسية المُباشرة بعد 2011 وهو ما أدى لتفاوت التنظير الراسخ في وعيهم عن الواقع المُعاش وعَجز مُحاولاتهم لإحداث موائمات وقتية عن الصمود أمام التغييرات الكبرى وهو ما دفع نحو تصدعات داخلية في غالب مكونات الحالة الإسلامية يحول عُمقها دون القدرة على تجاوز أزمات التجربة.
فعلى الرغم من مرور سنوات على إقصاء غالب الحالة الإٍسلامية السياسية من الحياة السياسية غاب أيّ تَنظير حَقيقي قادر على الإشتباك مع سابق تجربتهم ومُراجعة وتقويم نتائجها أو تحجيم تداعياتها.
ثانياً: المُتغير التنظيمي
ثقل أي حزب سياسي نتاج بنية إدارية ومشروع سياسي وكوادر تنظيمية قادرة على الحشد والتعبئة لمُجتماعاتها تجاه دعم حزبها، ومحصلة تفاعل تلك العوامل تظهر مؤشراتها في الإستحقاقات الإنتخابية.
وبالنّظر إلى حال حزب النور الممثل الإسلامي الوحيد في المشهد السياسي رسميّا نجده يعاني من عدة أزمات داخلية تحول دون تجاوز ضغفه السياسي الحالي.
بالنظر إلى البنية الإدارية نجد استمرار قيادات الحزب الرئيسية دون تغير عبر استمرار التجديد لها بناء الولاء الشخصي لها تجاه مرجعية الحزب الدعوية الممثلة في جماعة “الدّعوة السّلفية السّكندرية” ولشيخها الأبرز والأحكم تنظيميّا د. ياسر برهامي، مع تراجع بعض الأسماء القيادية التي برزت عبر السّنوات كبسام الزرقا عبر عملية إحلال وتبديل في الصفوف التالية – وهي مفترض من تفرز القيادات المُحتملة- وفقا لمعيار الرضاء المشايخي عن الأداء والأشخاص دون أي مُسببات سياسية تقدم لتبرير تقديم شخص وإبعاد آخر. وهو ما يعني أن بوابة التّصدر الإداري يتم وفقا لحجم الولاء المُقدم لشيوخ الحِزب ومدى رضائهم في المقابل عن ذلك الولاء من عدمه.
هذه الأوضاع الإدارية أدت إلى إخفاقات في جوانب حيوية أخرى مُمثلة في إفتقاد تلك القيادات إلى الرؤية الواضحة تجاه طرح وتَفعيل مَشروع الحزب السياسي الذي يتم حشد القواعد تجاه تَحقيقه والعمل على جَذب داعمين خارجيين يحملون بعض التوافق تجاه هذا المشروع.
فباعتبار الحزب حزبًا إسلاميّا تم تسويق مواقفه الدّاعمة لمشروع الدولة الجديدة وإستمرار إعلان الولاء له على أساس أن يكون الحزب الطرف الديني في المعادلة السياسية المصرية ففي إطار سعي الشيوخ نحو استيعاب غضب القواعد على موقفهم من العزل الإشارة إلى وُجود تَوافق أو قُبول بتكرار نموذج محمد بن عبد الوهاب مع الأمير محمد بن سعود وفق تحالفهم الذي بدأ منذ سنة 1744م لتأسيس المملكة السعودية.
وهو مالم يتحقق عمليا في ظل التضييقات التي لحقت بالنشاطات الدعوية لشيوخ الدعوة السلفية بسبب الإجراءات التنظيمية التي أوجدتها وزارة الأوقاف لتنظيم الخطابة والدروس الدينية والأنشطة الدعوية بالمساجد، وضوابطها.
وبالتالي لم يتمكن الحزب من طرح أي مشروع سياسي -إسلامي أو غير إسلامي- لتعظيم مساحات وجوده المجتمعي، عبر حشد داعمين من الكتل الإسلامية السائلة الغير مؤطره حزبيّا، أو فرص تحالف سياسي مع غيرهم من القوى السياسية.
على الجانب الآخر لتك الأوضاع كان طبيعيّا أن تَنسحب أزمة غياب الرؤية الشاملة للحزب وقياداته ومشروعه على قواعد الحزب بقياداته الوسطى والدنيا، والتي تأثرت بتلك الأجواء ما أدى إلى انسحاب الكوادر التنظيمية من إدارة الحزب ودخولها في عزلة على صورتين؛ “إختيارية” بناء على رغبة ذاتية من الشباب بالابتعاد عن أي ممارسة سياسية في ظل تباين الأوضاع نتيجة الإحباط الشخصي من المشهد السياسي ومواقف جميع الأطراف، فضلا عن الصّراعات التّنظيميّة التي بدأت في الظُهور، كذلك مُمارسات القيادة تجاه المشروع الإسلامي عامة وإدارة التّنظيم خَاصة، فضلاً عن عدم كفاءة المُتصدّرين في العَملية السّياسيّة والتّحفظات المُتراكمة على أدائهم ومَواقفهم، وغِياب قيادة يُمكنها إدارة المَشهد بفاعلية، وحشد داعمين.
وهناك عزلة “إجبارية” وتكون بقرار تنظيمي نتيجة مواقف مُحددة للحيلولة دون وجود أي فرصة لتكرارها، وهو ما تعرض له بعض نجوم حزب النور – بمرور السنوات- نتيجة التحفظ على الأداء العام لهم وما يسببه بالتالي من خصم للواقع التنظيمي المتحقق، كما هو الحال مع نادر بكار المتحدث الرسمي لحزب النور فضلاً عمّن تلاه من وجوه شبابية كمتحدثين للحزب كشريف طه.
ثالثا: المتغير السياسي
ويتمثل ذلك المُتغيّر في طَبيعة النّظام الحَاكم والمُختلف في مُدخلاته عمّا سَبقه من أنظمة في ظِل سِياقات وُجوده وترسيخه. أتى نظام 3 يوليو في لحظة صراع سياسي واجتماعي ضد الحالة الإسلامية المُمثلة في جماعة الإخوان المسلمين وانتهت بعزلها عن الحكم وبدء إعادة تشكيل الحياة السياسية عبر وضع مجموعة من المُحددات العامة التي على الجميع أن يتحرك في ضوئها، دون أي رغبة في وجود مساحات تحمل قدر من التّمرد على سلطة الدولة ومصالحها العُليا لهدفين؛ أولهما سعي النظام الحاكم نحو تجاوز التجربة السياسية للإسلاميين ومنع فرص تكرار أزماتها، عبر العمل على تحجيم مساحات تمددهم في المجال العام -الرسمي وغير الرسمي- أيضا تحمل مُدخلاته تصورًا يتعلق بقابلية جميع المُكونات الإسلامية على ممارسة العنف ووحدة هدفهم تجاه إقامة الدولة الدينية.
وعلى الرغم من دَعم تام لقطاع إسلامي -كحزب النّور- للنظام القائم إلا أنه يظل مُرتبط بضرورات اللّحظة التّاريخية التي يَتم فيها مُواجهة الإخوان المُسلمين وحُلفائها ورغبة الدولة في تَجاوز سَرديّة الحَرب على الإسلام التي غذّتها الإخوان المُسلمين -وحُلفائها من الإسلاميين -عَقب عَزلها من الحُكم.
إلا أن حزب النور ظلّ عمليا على الهَامش بلا ثِقل سياسي أو مَزايا مُتحققه له من قِبل النّظام، وبلا قُبول وتَعاون معه من قِبل القُوى السّياسيّة الرئيسة. ومع عدم التّصعيد المُباشر ضده إلاّ أننا نجد الكثير من أدوات الدولة تعمل باستمرار على تحجيم وجوده العملي. يبدو ذلك في أزمة تصاريح الخطابة لشيوخ الدعوة السلفية، فضلا عن التحفظ السياسي من قبل الأحزاب والتكتلات السياسة على التعاون مع الحزب في الانتخابات البرلمانية أو التكتلات السياسية بالبرلمان مع المطالبات المستمرة بحلّه باعتباره حزبًا قائمًا على أساس ديني، وهو سلوك يعكس الرغبة في عدم دمج الحزب فعليّا في أي معادلة سياسية قائمة.
ولإعادة تشكيل موازين القُوى السياسية كان الاهتمام بهندسة وجود تلك القوى عبر تغيير النظام الانتخابي بهدف إعادة فرز فاعلين سياسيين مدنيين بعيدًا عن إفرازات وأدوات الحالة الإسلامية الحركية التقليدية، وهو ما عكسته لاحقا نتائج مجلس النواب 2015 حيث حصل الحزب على 11 مقعدا وبعد ذلك يفشل الحزب تماما في تحقيق أيّ مِقعد في 2020 في حواضنه الاجتماعية الرئيسة، وهو الأمر الذي يُتوقع تكراره في انتخابات مجلس النواب القادمة.
وفي ظل ما سبق ومع تعدد المؤثرات التي تتحكم في الحضور السياسي لأي قوى حزبية نجد أن الحالة الإسلامية السياسية لا تزال تعاني من أزمات رئيسة تحكم حضورها الحالي وتدفع باتجاه إستمراره حيث؛
لا يزال سابق الأداء السياسي للتيار الإٍسلامي بمختلف تنويعاته لا يزال عاملا مؤثرا بالسلب على أي حضور سِياسي مُستقبلي محتمل لأي من مُكوناته في ظل إستمرار أزماته الداخلية -الفكرية والتنظيمية- والتي تحول دون أي تطوير مع المستجددات السياسية، فضلا عن عدم توافر القدرة لديه على إعادة بناء علاقته بالمجتمع وتبديد مخاوفهم من سابق أطروحاتهم وممارساتهم تجاه الدولة والحريات العامة .
كما تظل قدرة أي حزب إسلامي قائم أو محتمل على الحضور والتّطور السياسي مرتبط بفصله الحقيقي بين الدعوي والسياسي وبناء كوادر حزبية وفقا لمحددات تنظيمية وإدارية واضحه بعيدة عن منطق الولاءات القبليّة أو الرُؤية الذّاتيّة المَشايخيّة الحاكمة لإدارة التنظيمات الدينية التقليدية حيث يكون فيها التّمكن الشرعي مُقدما على أيّ قدرات إدارية عند أي ترقي تنظيمي.
ومع أهمية النظر في مختلف محددات العملية الانتخابية كطبيعة النظام الإنتخابي، وترسيم الدوائر، وشبكة التحالفات السياسية والاجتماعية كعوامل مؤثرة في نتيجة أي استحقاق انتخابي إلاّ أن ذلك لا يحول دون النظر في طبيعة المزاج المجتمعي تجاه الفاعلين السياسيين ومدى قدرته على فرز التوجهات المتنافسة وبالتالي حسم التصويت لفرد/حزب/توجه. وعليه فالموقف المجتمعي يشهد تغيييرا فعليا تجاه الحضور الإسلامي كفاعل سياسي عبّرت عنه نتائج حزب النور في تجربتي مجلس النواب 2015 ومجلس الشيوخ 2020 والذي لا يزال يُعيد مسببات نتائجه إلى النظام الانتخابي دون النظر إلى تقييم طبيعة التغييرات في نظرة المجتمع له والتي أفقدته قواعده الداعمة في برلمان 2012.
[1] – مخاطر الإلحاد وسبل المواجهة،(القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب،ط1/ 2020)، ص 10، 12