يدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جيدا أن ولايته الثالثة ستكون الأصعب في مشواره السياسي، ويعلم أكثر من غيره قدر التحديات والصعوبات التي تنتظره لإخراج البلاد من أزمة اقتصادية عاصفة، وربما غير مسبوقة، طيلة فترة حكمه.
فالرئيس التركي يواجه تحديات فورية وعميقة في ولايته الثالثة يتصدرها الاقتصاد المتراجع والذي ألقى بظلاله على الحياة اليومية للأتراك بارتفاع نسبة التضخم والبطالة وتراجع قيمة العملة المحلية.
وحصل أردوغان على 52.8 بالمئة من الأصوات مقابل 47.82 بالمئة لمنافسه كمال كليتشدار أوغلو في انتخابات حسمتها الجولة الثانية.
وما أن وضعت معركة الانتخابات أوزارها اتجهت الأنظار صوب الاقتصاد وبات السؤال هل ينجح أردوغان في إعادة اقتصاد بلاده للقوة التي كان عليها في ولايته الأولى؟.. وهل تتغير البوصلة؟.
لم تتأخر الإجابة.. فسريعا كانت البوصلة تتغير، وحمل يوم 20 يونيو/حزيران 2023 خطوة تؤشرللسير في طريق مختلف، فقام البنك المركزي برفع أسعار الفائدة بواقع 250 نقطة أساس لتصل إلى 17.5%.، وهي أول زيادة في أكثر من عامين.
وتحمل الخطوة توقيع الفريق الاقتصادي التركي الجديد الذي تولى مهامه بعد إعادة انتخاب أردوغان، رغم أن الأخير مدافع عن مبدأ أسعار الفائدة المنخفضة.
ولندرك تاريخية الخطوة دعنا نعود للوراء قليلا، فخلال السنوات الماضية، انتهجت حكومة رجب طيب أردوغان سياسة غير تقليدية تمثلت في خفض أسعار الفائدة، لكنها ساهمت في ارتفاع معدل التضخم وارتفاع تكلفة المواد الغذائية وغيرها من السلع الضرورية.
وبدا جليا أن تلك السياسات أضعفت قيمة الليرة التي انخفضت بنسبة 80 بالمئة تقريباً مقابل الدولار خلال السنوات الخمس الماضية.
ويبدو أن الرئيس الفائز بولاية ثالثة قد أدرك أخيرا أن السياسات المالية غير التقليدية وغير المستدامة، تحمل مخاطر مستقبلية بتزايد معدلات التضخم والضغوط الكبيرة على العملة المحلية.
ويراهن أردوغان في ولايته الجديدة على تغيير البوصلة والسير نحو تحول كبير وعميق في إدارة المشهد الاقتصادي بتعيين محمد شيمشك وزيرا للخزانة والمالية، فضلا عن اختيار حفيظة إركان، محافظا للبنك المركزي.
ويشتهر شيمشك بتطبيق اقتصاد السوق الحر، خلافا لما سار عليه أردوغان منذ بداية الأزمة الاقتصادية.
أما حفيظة إركان، فنظر لها على نطاق واسع أنها ستغير السياسات الحالية وبدأت بالفعل برفع أسعار الفائدة بعد خفضها لسنوات، وكلها إشارات إلى تحول في بوصلة السياسات الاقتصادية التقليدية التي انتهجتها حكومات أردوغان خلال السنوات الماضية وأثبتت فشلها، أو على الأقل، عدم نجاعتها في إخراج البلاد من الأزمة.
وتترقب أسواق المال والمستثمرين إجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصاد التركي وتعزيز التنافسية وتشجيع الاستثمارات، وتأمل في اتخاذ إجراءات لتحسين بيئة الأعمال وتشجيع الابتكار وتعزيز القطاعات الاقتصادية المختلفة.
وحاولت حكومة أردوغان الجديدة بالفعل الإفصاح قليلا عن نهجها في السنوات القادمة، على لسان جودت يلماز، نائب الرئيس التركي، الذي قال إن الحكومة تركز على التضخم، وستراجع برنامجها الاقتصادي متوسط المدى، وتعالج السياسات النقدية والمالية في الأشهر المقبلة.
وقال يلماز، الذي ينظر إليه أيضا على أنه شخصية مؤيدة لآليات السوق، “سنجري تحديثا لبرنامجنا متوسط المدى في الأشهر المقبلة”، والبرنامج سيتناول سياسات نقدية ومالية وإصلاحات هيكلية.
وذهب أبعد من ذلك بالإشارة إلى أن الحكومة “ستفعّل سياسات بهدف خفض التضخم من ناحية، وكذلك ستفعّل أسياسات لتقليل أثر التضخم على شرائح كبيرة من المجتمع من ناحية أخرى”.
وأدت سياسات غير تقليدية اتبعها الرئيس، رجب طيب أردوغان، في السنوات القليلة الماضية إلى انخفاض حاد في قيمة الليرة، مما دفع بالتضخم إلى أعلى مستوى في 24 عاما ليسجل 85 بالمئة العام الماضي.
أبرز نقاط الضعف بالاقتصاد التركي
تراجع قيمة الليرة بالتأكيد هو مرآة للأزمة، وليست الأزمة نفسها، فالبلاد تعاني من أرقام اقتصادية هي الأدني منذ نحو ربع قرن، فمعدل التضخم ارتفع إلى أكثر من 85 في المئة، وهو الأكبر منذ 25 عاما.
فالبلاد تعاني من معدلات تضخم مرتفعة وعجز في الموازنة العامة، مما يعرض الاقتصاد للضغوط ويقلل من الثقة الاقتصادية.
وبحسب أرقام صادرة عن البنك المركزي التركي، فقد بلغ إجمالي الدين الخارجي للقطاع الخاص 170.2 مليار دولار، وبلغ إجمالي الديون الخارجية قصيرة الأجل للقطاع الخاص، باستثناء القروض التجارية، 9.1 مليار دولار.
تلك الأرقام تجعل تركيا أمام تحديات فيما يتعلق بمستوى الدين العام والاعتماد على التمويل الخارجي، وهذا يزيد من التعرض للمخاطر الاقتصادية والتقلبات في سوق العملة.
نقطة الضعف الأكبر هي البطالة والتوظيف، حيث تواجه تحديات في خلق فرص العمل الكافية، ووصلت معدلات البطالة في تركيا إلى 10.2 في المئة، وفق معهد الإحصاء التركي الذي أجرى مسحا شاملا للبلاد.
نقاط القوة في الاقتصاد التركي
غير أن الاقتصاد التركي يرتكز على نقاط قوة لعل أبرزها:
1 – موقع جغرافي استراتيجي: فتركيا تحتل موقعًا جغرافيًا هامًا بين القارتين الأوروبية والآسيوية، مما يعزز دورها كمركز تجاري وممر للتجارة الدولية.
2- قاعدة صناعية قوية: تمتلك البلاد قاعدة صناعية متنوعة وقوية، مع تطور قطاعات مثل السيارات والملابس والإلكترونيات والمواد الغذائية.
3- القطاع الزراعي: لديها قطاع زراعي قوي يشمل إنتاج الحبوب والفواكه والخضروات والمنتجات الزراعية الأخرى، مما يدعم قوة قطاع الزراعة ويسهم في التصدير.
4- السياحة: وجهة سياحية شهيرة بفضل تاريخها الغني وثقافتها المتنوعة ومناظرها الطبيعية الجميلة، وهذا يساهم في توفير العملة الصعبة وتعزيز القطاع السياحي.
إصلاحات هيكلية عميقة
ويبقى التحدي الأكبر الذي ينتظر حكومة الرئيس التركي الجديدة متمثلا في خلق إصلاحات هيكلية عميقة في الاقتصاد، بما في ذلك التحكم في التضخم، وتعزيز الثقة في الليرة وتحقيق التوازن في الموازنة، كما يتطلب ذلك العمل على تعزيز القطاع المصرفي وتحسين بيئة الأعمال وزيادة الاستثمارات.
ويمكن تلخيص الإصلاحات المطلوبة في تلك النقاط:
1 – الإصلاحات النقدية والمالية.. يتعين إجراء إصلاحات شاملة في النظام المصرفي لتحسين إدارة الديون والمصروفات العامة، وتحسين الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد المالية.
2- تحسين بيئة الأعمال.. يجب تحسين بيئة الأعمال وتقليل البيروقراطية وتطوير البنية التحتية، وتوفير الدعم والتشجيع لريادة الأعمال والاستثمارات الداخلية والخارجية.
3- تنويع الاقتصاد.. تحسين الصادرات، وتطوير القطاعات الرئيسية مثل السياحة والزراعة والتصنيع والخدمات اللوجستية، وتشجيع الاستثمارات في هذه القطاعات.
4- تعزيز التعليم والبحث العلمي.. تطوير المهارات اللازمة للعمالة المحلية، وذلك لتحسين إنتاجية العمالة وتعزيز الابتكار والتطوير التقني.
5. تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد.. تحسين المساءلة في القطاعين العام والخاص، وذلك لتحسين الثقة في الحكومة والاقتصاد التركي بشكل عام.
6. تحسين العلاقات الخارجية.. السير نحو التعاون الدولي في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمارات، وذلك لتوفير فرص جديدة للتعاون الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام.
ويتعين أن يسير ذلك جنبا إلى جنب مع توفير الاستقرار السياسي والتعاون الدولي، فيمكن أن يلعبان أيضًا دورًا هامًا في تحسين الظروف الاقتصادية، ومن المهم أيضًا أن يتم اتخاذ الإجراءات الملائمة للتعامل مع التحديات الاقتصادية والمالية القائمة، وتنفيذ الإصلاحات اللازمة بشكل سريع وفعال.
فنجاح حكومة أردوغان الجديدة يبقى مرهونا بتغيير البوصلة، وخاصة ملف تراجع قيمة الليرة، وعلينا مراقبة التطورات والقرارات الاقتصادية والمالية المتخذة في الأشهر القادمة لتقييم تأثيرها على الاقتصاد التركي.
– معهد الإحصاء التركي
– وزارة التجارة التركية
– البنك المركزي التركي