تَستند تَنظيمات العُنف إلى ركائر مركزية مُتداخلة تتعلق بـ”الفرد“و “السّياق“و “البيئة“، وهو ما يُقيم التّنظيمات أو يُنهيها. وعليه، فمختلف برامج مكافحة التطرف تتفاعل مع تلك العوامل وإن اختلفت التّفاصيل وأوزان كل عنصر من وقت لآخر ومن تجربة لآخرى. ويتم النّظر إلى”الفَرد” وبحث سُبل إدماجه في تَنظيم من عدمه-وفق مُواصفات مُتعدّدة تتعلق بتكوينه النّفسي والفِكري والاجتماعي.
أما “السّياق” فيتعلق بالعوامل المُغذّية لبقاء التّنظيم سواء المشروع المُستهدف تحقيقه، أو مُسببات الظهور والاستمرارية أو الاختفاء بأسبابها السَياسية أو الاجتماعية التي تُحيط بالتّنظيم ومَساراته المتنوعة.
في حين تتمثل “البيئة” في المُحيط الذي يؤثر بالإيجاب والسّلب على التّنظيم، وهو ما يَتمثل في النّطاق الجُغرافي ومُواصفاته والذي يَندرج تحته بحث فُرص الاختفاء والتّمويه من عدمه وحواضنه الاجتماعية.. إلخ.
ومع تعاظم اهتمام الدولة المصرية بالتنمية العمرانية والاشتباك بكثافة مع أزمة العشوائيات في السنوات الماضية جنبًا إلى جنب مع المواجهات العسكرية والأمنيّة القائمة للتّنظيمات الإرهابية، فإن ذلك يَطرح تساؤلاً حول قدرة ذلك المسار التنموي على تفكيك ومكافحة حالة التّطرف أَفرادًا وجَماعات؟
أي علاقة بين المناطق العشوائية والتّطرف؟
تُعرّف “المناطق العَشوائية” على أنها “المناطق المتهالكة والقديمة الواقعة داخل المدينة أو مُستعمرات واضعى اليد التى تحتل أطراف المدن خارج المُخطط العمرانى والتى تعانى من عدم الاعتراف بها ..”. وتنقسم على صورتين؛
- المناطق غير المخططة: وهي “التي لم يتم إنشاؤها وفق مخططات تفصيلية أو مخططات تقسيم الأراضى ولا تخضع للاشتراطات التخطيطية والبنائية، وتتكون غالباً من مبانٍ مقبولة إنشائيًّا مبنية على أراضى زراعية ذات ملكية خاصة، ويتم إمدادها بالمرافق عند اكتمال بناء المنطقة.
- المناطق غير الآمنة: وتتضمن المناطق التي تتعرض لظروف تهدد حيا ة الإنسان، والمناطق ذات السكن غير الملائم، والمناطق التى تهدد الصحة العامة، والمناطق التى يفتقد القاطنون بها إلى الحيازة المستقرة.
مع تنوع أسباب التطرف والإرهاب ما بين مسببات سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية وأيدلوجية، نجد أن عنصر “الفقر” من ضمن العوامل الدّافعة للتّطرف والمُغذية له، في ظل ما يَرتبط به من انعدام للفرص الاجتماعية والاقتصادية في التعليم والرعاية ومُختلف الخدمات. لذا، تُمثل بالتبعية المناطق العشوائية إحدى البُؤر المُغذيّة للجَريمة والتّطرف في ظل معدلات الفقر المرتفعة بها، كما تَحمل السّمات الخاصة بتلك المناطق قيمة مُضافة لأيّ تَوجه تنظيمي عَنيف نتيجة:
- غياب الخدمات عن تلك المناطق وحالة الحنق على الدولة وغيرها من الأزمات اليومية، والتي يُمكن لأي فكرة مُتطرفة أن تعمل على إستخدام وتوجيه حالة الغضب تلك لأهداف تنظيمية عبر الاستخدام “المباشر” في جذب كوادر صلبة، أو “غير المباشر” في أعمال لوجستية في أي مُمارسة مُتطرفة.
- الظروف الاقتصادية المُتدنيّة، وانخفاض مُستوى التّعليم والأميّة وغياب مَصادر عَمل وتزايد مُعدلات الجريمة وانتشار الأعمال غير الشرعية؛ حيث يُوفّر كل ذلك بيئة حَاضنة تَحمل سِمات تَطرف يَسهل استخدامها ضمن أيّ نَشاط متَطرف سَواء عبر الاستخدام “المُباشر” لبعض السّكان بجذبهم فِكريّا بدوافع تَطهريّة، أو مَكاسب زعامة وترقّي اجتماعي، أو الاستخدام غَير المُباشر بمُقابل ومَزايا عَينيّة وشَراكات اقتصادية.
- كما أنها مَناطق مُتعددة جُغرافيًّا وإن كانت تاريخيّا على هامش تخطيط المدن إلا أنها أًصبحت بمرور الوقت قريبة من الكثير من المناطق الحيوية، الأمر الذي يُسهل عمليات الرّصد وسرعة الحركة وسهولة التخفي، رغم أي رقابة أمنية. يقول أحد سكان العشوائيات “الشوارع مليانة بلطجية ومدمنين، والإرهابيين بيستخبوا في المنطقة، لأن صعب جدا الشرطة تقبض عليهم.. فيه أماكن أصلا متعرفش عربيات الشرطة تدخلها”.
تُشير إحدى الدّراسات الميدانية إلى أن “الفقر وسوء الأحوال المعيشية يؤدي للتطرف والإرهاب بنسبة 80.33%. كما أن اتجاه بعض أهالي المنطقة العشوائية للتطرف والإرهاب بلغ نسبة 52% تقريبًا. وتأتي دوافع ذلك من وجه نظر سكان العشوائيات أنفسهم -حسبما تُشير الدراسة- حيث أنهم-أي السكان- على علم بتحركات غيرهم والغرض منها، وأشاروا إلى عامل الشراء بالمال يأتي في المقام الأول بنسبة 42.77% ، أما عامل الفقر فبلغ نسبة 16.98% ، ويمثل دافع “الحفاظ على الدين” نسبة 15.05%. أما عامل سوء الأوضاع المعيشية فيبلغ نسبة 11.32%.
وبالنظر إلى التوجه للتطرف وفق مؤشر الفئة العمرية -تضيف الدراسة- فإن الأعمار من 15-30 تتوجه للتطرف بنسبة 94.83%، والأعمار من 20-30 تتوجه بنسبة 91.14%، والأعمار من 31-40 تتوجه بنسبة 84.81%، والأعمار من 41-50 تتوجه بنسبة 69%، الأعمار أكثر من 50 تتوجه بنسبة 34.38%. وهو ما يجعل مدخل “التّنمية” -بمختلف أنماطها- مدخلًا جوهريّا للمعنيين في مُكافحة التّطرف.
الدّولة المصرية والعشوائيات
تُقدم سياقات تدشين الجمهورية الجديدة تَفسيرًا لذلك الاهتمام الكبير الذي تم توجيهه لمَسار التّنمية على اختلاف مكوناته، وفي مقدمته المناطق العشوائية، وذلك في ظل التحدي المركزي المُمثل في الحرب على الإرهاب الذي نشط في أعقاب إنهاء تجربة الاخوان المسلمين في الحكم.
في 21فبراير 2016 أطلق رئيس الجمهورية عبد الفتاح السّيسي “استراتيجية التّنمية المُستدامة – رؤية مصر 2030 لتكون بمثابة خطة عمل الدولة المصرية على مدار خمس عشر عامًا والتي ركّزت على الأبعاد الثلاثة الأساسية للتنمية المُستدامة والتي تشمل البعد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
أولت هذه الاستراتيجية المناطق العشوائية اهتمامها؛ حيث فصّل المحور العاشر والمتعلق ب”التنمية العُمرانية” من رؤيته لكيفية مُكافحة ظاهرة العَشوائيات والمَناطق غير الآمنة وذلك عبر عِدّة عناصر أساسيّة أبرزها وضع إطار متكامل اقتصاديًّا واجتماعيًّا لتنمية تلك المناطق، مع مراعاة تنفيذ برامج لتأهيل وتنمية قدرات السكان الثقافية والإجتماعية للتكيف مع المناطق المطورة والمحافظة عليه، ورفع كفاءة تنفيذ القوانين الخاصة بمنع ظهور عشوائيات جديدة عن طريق إمداد الجهات المَعنية بتَنفيذ القانون بالوسائل الفنيّة والتكنولوجيّة والأمنيّة اللّازمة لمُواجهة تَزايد الأبنية والمَناطق العَشوائية المُخالفة في المُستقبل. ووضعت الاستراتيجية لذلك الهَدف ثلاث خطط خمسية يتم فيها تنفيذ برامج تطوير التنمية العمرانية.
بدت نتائج تلك الاستراتيجية في حجم نشاط “صندوق تطوير العشوائيات” الذي أنشئ في 2008، وتغير اسمه في 2021 إلى “صندوق التنمية الحضارية وإنشاء المجتمعات العمرانية” اتّساقًا مع التّطور الحادث في ذلك الملف. إضافة إلى برامج ومُبادرات مكافحة الفقر المختلفة مثل برنامج “تكافل وكرامة”، أنشطة صندوق “تحيا مصر”، مبادرة “حياة كريمة” وغيرها.
وفق تقرير سابق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء “تبلغ الكتلة العمرانية في الجمهورية نحو 417 ألف فدان ومساحة العشوائيات فيها 37.5% حتى 2فبراير 2014. تُمثل المناطق العشوائية الغير مخططة 97.1% من إجمالي المساحات العشوائية و26% من الكتلة العمرانية بالمدن. أما المناطق غير الآمنة فتمثل 2.9% من إجمالي العَشوائيات و1.1% من الكتلة العمرانية بالمدن..
وبحسب التقرير فإن المناطق غير الآمنة تبلغ 422 منطقة على مستوى الجمهورية منذ عام 2010 وانخفضت في 2014 إلى 364 في فبراير 2014 نتيجة التطوير أو الإزالة”. وانتهى الصندوق من تطوير 315 منطقة غير آمنة حتى في يونيو2021.
الإرهاب والمَشروعات التّنمويّة
مع التّعارض القائم بين التّنظيمات الإرهابية ومُختلف صُور التّنمية في إطار حِرصها على تَفكيك صُورة الدّولة في المُجتمعات التي تتمدد فيها، تَحرص هذه التَنظيمات على استهداف مُختلف المشروعات الحيويّة والبنى التّحتيّة- بجانب باقي صُور الاستهدافات الأخرى تجاه الأفراد- لتأجيج الغَضب بين الدول وشعوبها والاستفادة التَنظيمية من ذلك الغضب وإعادة توجيهه لصالح التنظيم.
وهو ما عبّرت عنه أدبيات “داعش” والتي أشارت في إطار دعوتها لتكوين مجموعات جهادية صغيرة – المفارز الأمنيّة- أن أهميّتها تنبع من “كونها تعمل في المناطق الحيوية الآمنة للعدو- أي الأنظمة- فتُجبره على إنفاق كمٍّ كبيرٍ من إمكاناته الماديّة والماليّة والبشريّة على إعادة تَحصينها، ومنع هذه المفارز من إعادة العمل فيه.
وفق مُختلف مُمارسات تَنظيمات العُنف على اختلاف مُسمياتها نجد الحرص على استهداف مُختلف المنشآت الحيوية على مدار السنين؛ فتارخيا كان من ضمن ما خَطّطت له الإخوان المسلمين في مصر عام 1965- تنفيذ تفجيرات محطات الكهرباء، وغيرها من الأماكن الاستراتيجية، وانتهجت نفس التّوجه في سنوات ما بعد 2013
فوفق كُتيب “فقه المُقاومة الشّعبية للإنقلاب” في 25 يناير2015 والصادر عن الهَيئة الشّرعية للجَماعة كأحد التّنظيرات الشرعية للمرحلة أشاروا إلى أن “الأصل في المنشآت العامة أنها ثروة للوطن لا يجوز الاعتداء عليها، لكن إذا كان الغالب على هذه المنشآت أنها أذرع ضاربة للإنقلابين فالاعتداء عليها جائز مع ملاحظة فقه المآلات”.
ومع نشاط التّنظيمات الإرهابيّة في سيناء بعد 2011 كانت المُحاولات الدّائمة لاستهداف البنية التّحتية الأساسيّة القائمة بها من خطوط غاز وكهرباء ومحطات مياه واستهداف المدنيين العاملين بتلك المشروعات. كذلك استهداف خط الغاز الطبيعي الواصل من سيناء إلى الأردن.
وفي نفس الإطار، يأتي هجوم “ولاية سيناء” على إحدى محطات رفع المياه بمنطقة شرق القناة حيث أسفرت المواجهات عن استشهاد ضابط و10 جنود وإصابة 5 أفراد وذلك في 8 مايو 2022. وإقليميا نجد استهداف جماعة الحوثيين في اليمن الدوري لمُنشآت حيوية في المملكة العربية السعودية كشركة أرامكو، ومحطات الكهرباء، وغيرها. أيضا حرص فروع تنظيم الدولة على استهداف الكثير من المناطق الحيوية في البلدان التي تتواجد بها بصورة دورية.
لذا وأمام تَحدي الإرهاب في مصر وحمايةً لمسار التّنمية النّاشئ شدّد المُشرّع على حماية المنشآت العامة في ظل الاستهدافات الإرهابيّة لبعضها، وهو ما بدا في القانون رقم 136 لسنة 2014 وتعديلاته التي أُقرّت في أُكتوبر 2021؛ حيث تلتزم القوات المسلحة بمُعاونة الشّرطة بحماية المُنشآت العَامة والحيوية بما في ذلك مَحطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقول البترول وخطوط السكة الحديدية وشبكات الطرق والكباري وغيرها من المُنشآت والمرافق والممتلكات العام. وتخضع الجرائم التي تقع على تلك الأماكن لاختصاص القضاء العسكري. إضافة لقانون مكافحة الإرهاب الصادر بقانون رقم96 لسنة 2015.
ختامًا؛ يعكس العرض السابق انتباه الدولة المصرية إلىى الطّبيعة المُركبة لظاهرة التّطرف، لذا كان اهتمامه بتفكيك ركائز العُنف المركزية -الفرد، السّياق، البيئة- باستخدام سياسات تَنمويّة مُتنوعة بجانب السّياسات الأمنية والعسكرية، بهدف تجاوز السّياقات المُغذية لحالة العُنف. وهو ما بدا في اشتباكه مع أزمة الإسكان خاصة العشوائي منه – كأحد أبرز أزمات المجتمع- والتي يُمثل بقائها مُغذيّا لحالة التّطرف في ظل طبيعتها التي تمثل بيئة حاضنة قائمة أو مُحتملة لمُختلف التّنظيمات والتي يُمكن إستخدام تلك المناطق وأزماتها لتفخيخ الدّولة من أسفل، عوضاَ عن أن عشوائية تلك المناطق وكونها غير مخططة فإنها تُعتبر أشبه بالنقاط العمياء للأجهزة الأمنية عند محاولتها التعامل مع تهديد مُحتمي داخل تلك المناطق.
إن كان الخيار الأمني والعسكري قادرًا على تَفكيك بنية التّنظيمات الإرهابيّة في المَدى القَصير، فإن تفعيل برنامج شامل للتّنمية بصورها المختلفة يُضعف من بيئة تكوين العنف ومن ثم فرص استمرار أو استحداث تَنظيمات عُنف على المَديين المُتوسط والطّويل الأجل.
إلاّ أنّه ومع الخُطوات التي تم اتخاذها تجاه العشوائيات نُشير إلى أهمية أن تتمتع المناطق السكنية الجديدة التي تم توطين سكان العشوائيات بها بنقاط جذب مُمثلة في مُستوى مَعيشة ذي جودة مَقبولة فيما يتعلق بالخَدمات المُختلفةبصورة تتناسب مع دخولهم، فضلاً عن توافر فُرص عَمل في مُحيطها تتناسب مع طبيعة ومهارات السكان للحيولة دُون تَحويل تلك التّجمعات إلى عَشوائيات جديدة. فقد تدفع أزمات المعيشة فيها ببعض السكان نحو تأجير وَحداتهم السّكنية- بصورة غير رسمية- الأمر الذي يَجعل من تلك المَناطق نِقاط جَذب للمُتطرفين، وملاذًا للمُطاردين، خاصة وأنها قد تَكون في مَناطق عُمرانية جَديدة لم تَكتمل خَدماتها، وبَعيدة إلى حَد ما عن المُتابعات الأمنية الدّورية.