يقول جون كيندي «إن للانتصار ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة.» ما زالت هذه المقولة صحيحة، فيما عدا أنه من الصعب تعريف حدود الانتصار والهزيمة في السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، التـي أصبحت تمثل نموذجًا كلاسيكيًّا للانتصار الواضح، في جانب الحلفاء، والهزيمة النكراء، بالنسبة للمحور. تغير العالم كثيرًا منذ ذلك الحين؛ فقد اتسعت المساحة بين المنظورات المختلفة للنصر والهزيمة، وما يحدث فعليًا على الأرض.
تعد هذه المقولة هي الأساس الذي حاول فيه دومنيك جونسون أستاذ العلاقات الدولية بأكسفورد، ودومنيك تيرني أستاذ العلوم السياسية المشارك بكلية سوارتمور أن يستكشفا الجدل حول الانتصار والهزيمة في عدد من الصراعات الحديثة، التي لم تعد فيها نتائج الحرب واضحة كما كانت في الأيام القديمة. يقول تيرني وجونسون إن هذا الارتباك هو مجرد جانب من التغير المصاحب لطبيعة الحروب التـي أصبحت تجري في سياقات أكثر تعقيدًا وتركيبًا مما سبق.
في السابق، كانت الأوضاع على الأرض، أي الحقائق التـي أسستها الحروب، مثل وقوع أكبر قدر من الخسائر في جانب الخصم، أو إجباره على اتخاذ مسار معين، أو تدميره نهائيًا، هي الحاكم الوحيد لتأسيس خطاب الانتصار. أما الآن، أصبحت هناك عوامل ثقافية ونفسية وسياسية واجتماعية، هي ما يشكل “الرؤى” المختلفة التـي ينظر بها إلى نتائج الحروب.
للتدليل على ذلك يسوق الكاتبان في البداية حالتين متشابهتين للتدخل الأمريكي. كانت الأولى حادثة ماياجويز في ١٩٧٥ والتي كانت عملية للجيش الأمريكي فيما وراء الحدود الكمبودية لإنقاذ رهائن عسكريين وقعوا في يد الخمير الحمر. أدت العملية إلى مقتل عشرات الجنود الأمريكيين، ومقتل معظم الرهائن. أما الحالة الثانية، فهي معركة مقديشيو في ١٩٩٤، والتـي شهدت أيضًا مقتل عشرات الجنود الأمريكيين وانسحاب القوات الأمريكية من الصومال. على الرغم من النجاح السابق للتدخل الإنساني في حالة الصومال، فقد عدت الحادثة هزيمة مروعة. أما الحالة الأولى، رغم كارثيتها، فقد اعتبرت انتصارًا حتـى أن إدارة جيرالد فورد حاولت الترويج لها في الانتخابات الرئاسية التالية. في كلتا الحالتين، كانت النتائج المادية للمعركة متقاربة إلا أن ما تغير هو “المنظور” الذي نظر به إلى تلك المعارك، وعلى أساسه يتحدد النصر والهزيمة.
يقول المؤرخ الألماني فولفجانج شيفيلبوش: «إن الأمم لا تتقبل الهزيمة عندما تبنـي أساطيرها. بل تحاول جاهدة أن تجعل من المنتصرين خاسرين في الحرب التالية.» يجعل هذا المعنـى الانتصار والهزيمة وليدين لعملية تاريخية طويلة من بناء الأمم لتصوراتها عن ذاتها وعن تاريخها، وأكثر بكثير من مجرد حقائق مادية على الأرض. لا يتصور كثير من الأمريكيين إنهم انهزموا في حرب عام ١٨١٢ مع بريطانيا، على الرغم من إخفاقهم في مشروعهم الطموح لاحتلال كندا وتدمير الإنجليز لمعظم واشنطن وإحراقهم للبيت الأبيض.
إلا أن هذه التخيلات لا تبقى حبيسة التصورات الثقافية والتاريخية، بل يتعدى تأثيرها لأرض الواقع السياسـي. يقول جونسون وتيرني إن هذا التصورات سرعان ما يكون لها عواقب سياسية على القادة والساسة. فقد ربح كيندي كثيرًا من إدارته الحذرة لأزمة الصواريخ الكوبية، وعلى الرغم من انتصار الأمريكيين في هجوم تيت إلا أنه أدى إلى إعلان جونسون عدم اعتزامه الترشح في انتخابات ١٩٦٨. أما التحقيق الإسرائيلي في حرب أكتوبر ١٩٧٣ فقد أنهى حياة غولدا مائير السياسية، بينما أدت الحرب إلى دعم نظام الرئيس السادات في مصر.
وقد يتجاوز تأثير تصورات الانتصار والهزيمة ليصيب بعض المجتمعات بالصدمات وهو ما يتضح في ردود الفعل النفسية والثقافية على مثل هذه الأحداث. لقد أصبحت حرب فييتنام أقرب إلى العقدة التي لم ينته تأثيرها حتى اليوم في السياسة الأمريكية. كما أن هذه التصورات تتجاوز المجتمع الواحد لتأثر على العلاقات بين الدول. على سبيل المثال، كان لأزمة الصواريخ الكوبية، والهزيمة السوفيياتية “المتصورة” فيها دورًا في توسيع الشقاق بين الاتحاد السوفيياتي والصين. وكان من شأن حرب أكتوبر أن تقنع إسرائيل بمبدأ الأرض مقابل السلام، وهو المبدأ الذي قامت عليه العلاقات العربية الإسرائيلية منذ ذلك الحين.
ولا شك أن التصورات عن الانتصار والهزيمة تشكل القرارات المستقبلية للساسة. فقد كان لكارثة “سقوط الصقر الأسود” في مقديشيو دورها الحاسم في إحجام إدارة كلينتون عن التدخل في رواندا وإيقاف التطهير العرقي بها. هنا تكمن الخطورة في أن تنسـى الدول الدروس المستفادة من كل تجربة مريرة وتعيدها. وهو ما حدث بالفعل في حربي العراق وأفغانستان التـي شنتهما الولايات المتحدة، في تكرار دال على عدم فهم دروس حرب فييتنام.
تقدم دراسة جونسون وتيرني فحصًا لتصورات الانتصار والهزيمة في أحداث هي أزمة الصواريخ الكوبية وهجوم تيت وحرب أكتوبر ومعركة مقديشيو. وقد جاء التحليل بناء على نموذج مكون من ثلاثة انحيازات نفسية وثقافية هي أنماط التفكير السائد والأحداث البارزة والضغوط الاجتماعية. ويقول الكاتبان إن “الهزيمة” أو “الانتصار” النهائي” ليست إلا نتائجًا بين الحقائق التـي يخلقها الصراع وتلك التحيزات. ومع اتساع دائرة الغموض والشك التـي تحيط ببناء التصورات في السياسة الدولية، أصبح كل صراع مدفوعًا بنخب سياسية تسعى إلى التلاعب بتصورات الرأي العام، ومجذوبًا بالآليات الإعلامية. وفي كل الأحوال، يقف على هذه التصورات مصير الحكام والشعوب على السواء.