كان وما زال التنبؤ أو التوقع “Forecasting” ضرورة لصياغة صناع القرار لخياراتهم السياسية. ويتمثل التنبؤ في طرح إجابات وسيناريوهات عن أسئلة تدور حول ما يمكن حدوثه في المستقبل المنظور بالاستناد إلى بيانات ومعلومات وخبرات سابقة. وبناءً على هذه العملية، يتم التخطيط واتخاذ القرارات. وتتراوح الأسئلة التي يتعامل معها صناع القرار ما بين هل سيتقبل الرأي العام قرار أو سياسة معينة؟ كيف سترد الدولة “أ” على هجوم الدولة “ب”؟ وغيرها من قضايا مفتوحة النهاية.
في ظل تعدد الخيارات، تزداد حاجة صناع القرار إلى “التوقعات” و”التنبؤات” الأكثر احتمالاً، لكنهم دائمًا ما يفتقرون للأدوات الفعّالة والدقيقة لتحقيق ذلك بالإضافة إلى بعض التحديات المرتبطة بالتحيز وعدم الموضوعية. كما أن هناك ضغط “الحاجة الماسة” و”الوقت المحدود،” فضلاً عن التشوش الناتج التدفق الهائل للمعلومات والبيانات.
على الرغم من تعدد مصادر التنبؤ المؤسسـي، أصبح التنبؤ من خلال حشد المصادر تيارًا سائدًا في دراسات الاستشراف. وفي هذا السياق، يلقي تقرير “الاحتفاظ بالنقاط: اقتراب جديد للتنبؤ الجيوسياسي” “Keeping Score: A New Approach to Geopolitical Forecasting” الضوء على إمكانية تكثيف المصادر الجماهيرية والمفتوحة في بناء التنبؤات الحكومية. يُنشر هذا التقرير ضمن ضمن مشروع “التكنولوجيات الصاعدة والسياسة العالمية”. وقد شارك في إعداده مجموعة من الباحثين في المركز وهم مايكل هورويتز، وجوليا سيوكا، ولورين كان، وكريستيان روهل. وهو من إصدار مركز بيري هاوس ورلد “Perry House World” بجامعة بنسلفانيا للبحث العلمي والتبادل الدولي.
أزمات التنبؤ المؤسسي
يوجه المؤلفون هذا التقرير إلى مؤسسات حكومية مختلفة مثل الأجهزة المخابراتية بشكل عام، ومجلس الأمن القومي الأميريكي، ووزارة الدفاع، وكذلك الكونجرس، وغيرها.
التنبؤ بشكل عام هو جزء لا يتجزأ من عملية صنع السياسات. فكل من يصيغ سياسة عامة أو سياسة خارجية يقوم بتوقع النتائج المترتبة عليها وعلى السياسات البديلة. وبناء على هذا، يؤكد المؤلفون على أهمية استخدام وتطوير نُظم دقيقة لتقييم التنبؤات المختلفة بضوابط وقواعد للتقليل من التحيز.
جاءت جائحة كورونا وما تبعها من اضطرابات، كما أوضح المؤلفون، لتحيي من جديد جهود تطوير نُظم التنبؤ وتؤكد على أهميته، مثلما حدث في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001؛ فالعالم لم يكن مستعد لمواجهة تلك الجائحة استعدادًا كافيًا. وبسبب ذلك، تعمل الآن الهيئات المعنية على تحسين نُظم وأدوات التنبؤ كخطوة استباقية لمنع أو مواجهة الوباء القادم. رأى المؤلفون إن الاقترابات التقليدية في التنبؤ مثل التحليل الكيفي وكذلك التحليل الكمي للبيانات تتسم بعدم دقتها وشيوع احتمالية التحيز. وبالتالي فهي ليست كافية، وتحتاج لتقنية أخرى لتدعمها، وهي التنبؤ الجيوسياسي كثيف المصادر.
ماهية التنبؤ الجيوسياسي
على الرغم من قصور التنبؤ المبني على تحليل البيانات الكمية “Quantitative Forecasting،” إلا أنه لا يخلو من أهمية في تعزيز طرق العمل الاستخباراتي كما أنه يسهل عملية التواصل والتفاهم بين المحللين وصانعي السياسات. وواحد من أهم التحليلات الكمية في مجال التنبؤ هو التنبؤ الجيوسياسي.
يعرّف التقرير التنبؤ الجيوسياسي “Geopolitical Forecasting” أنه المقدرة على توليد تنبؤات قابلة للدحض، وتختص تلك التنبؤات بالأحداث الجيوسياسية. ويتم التعبير عن تلك التنبؤات باستخدام أدوات كمية مثل الاحتمالات “Probability”، ويتم تقييم وترقيم وتسجيل نقاط لتلك الاحتمالات.
وعلى الرغم من أن التحليل الكمي عن أفضلية التوقعات سوف يقلل من التحيز بالفعل، لكنه لا يمكن الاعتماد والوثوق في القيمة بشكل مبالغ فيه؛ حيث دائمًا ما يساء استخدام الأرقام وعدم إدراك دلالتها بشكل كامل لأنها كما سبق وتوصيفها بالصندوق الأسود. وبالفعل من خلال التوصيات المُقدمة قد تتفادى الحكومات هذه المعضلة، لكن أي خلل، سوف ينتج عنها نسبة خطأ أكبر وثقة أقل.
وقد بذل المؤلفون مجهود في توضيح خصائص نُظم التنبؤ الفعّال، وذلك للوصول للتوقعات الأكثر مطابقة للواقع. ويمكن إبراز تلك الخصائص التي ذُكرت طوال التقرير كالآتى:
أولًا الفرضية أو السؤال قابل للدحض “falsifiable”: وهو يعني أن فرضية التنبؤ يمكن اختبارها باستخدام بعض الأدوات لتكون النتيجة إما صحة أو خطأ الفرضية بطريقة موضوعية مثل “هل ستطلق إيران صاروخا باليستيًا عابرًا للقارات (ICBM) قبل 1 يونيو 2022؟” على عكس فرضيات الأدوات الأخرى التي تحمل نوعًا من الغير موضوعية والمعيارية، مثل “هل ستصبح إيران أكثر عدوانية بحلول عام 2022؟”
ثانيًا عدم الشمولية أو الكمالية: على الرغم من تأكيد المؤلفين على أهمية نُظم التنبؤ الجيوسياسي كثيف المصادر، لكنهم أكدوا على أنه ليس بـ “عصاة سحرية” التي سوف تنتج توقعات صحيحة وتطلع على المستقبل، ولكنه أداة تكميلية أو داعمة للطرق التقليدية. فعلى سبيل المثال، يتم تقييم التوقعات الناتجة عن خوارزميات التعليم الآلي “Machine-Learning” باستخدام الاستراتيجيات الكمية للتنبؤ. وعلى الصعيد الآخر، البيانات الناتجة عن التنبؤ كثيف المصادر قد تُعد هي نفسها مصدرًا لتغذية خوارزميات التعليم الآلي، الذي يقوم عليه الذكاء الاصطناعي.
ثالثًا التعبير عنه بمجموع نقاط “Score”: يؤكد المؤلفون على ضرورة التعبير عن التوقعات وتقييمها بأسلوب كمّي، وذلك على حسب تتبع وحفظ مجموع النقاط “Keeping Score”. والنقاط هنا تشير إلى “تقييم مدى تطابق توقعات المرء مع النتائج الفعلية”
مميزات التنبؤ الجيوسياسي كثيف المصادر
لتعزيز عملية صناعة القرار، يقدم التنبؤ الجيوسياسي عدة مزايا للمؤسسات المعنية:
أولًا، الإنذار المبكر والإجراءات الاستباقية: يعزز التنبؤ الجيوسياسي الكمي من نُظم الإنذار المبكر، وذلك من خلال ترتيب التوقعات حسب نسبة احتمالية حدوثها. فإن تحويل المخاطر إلى تعبيرات رقمية سوف تسهل على صانعي القرار تتبع وتحديد التهديدات. وبالتالي، في حالة في وجود أي خطر متوقع مثل كارثة طبيعية، أو وباء، أو نزاع ما، ستستعد الحكومة لمنعه أو مواجهته للتقليل من خسائره كإجراء استباقي قبل وقوع المشكلة.
ثانيًا، تفادي التحيز: الاعتماد على مجموع النقاط لكل محلل، سوف يجعله يتفادى ملاحقة ميوله خوفًا من خسارة النقاط. وعلى صعيد آخر، سوف يعمل جاهدًا لأجل طرح توقعات مبنية على أساس علمي وبيانات، وبذلك لن يكون هناك مجالًا واسعًا للتحيز والتفضيل الشخصي. وهذا لا يعني أن النتائج ليست قاطعة أو غير قابلة للنقاش، بالعكس يمكن للمحللين أن توضع تلك التنبؤات محل المناقشة والنقد، وهو ما يثبت قدرتهم على التحليل واستياعبهم للموضوع، وبالتالي يمكن الوصول لنتيجة أفضل.
ثالثًا، تسهيل عملية اتخاذ القرار: قدم المؤلفون منهجية استخدام مجموع النقاط وذلك يكون القرار مُتخذ على أساس هذا التعبير الرقمي. أي أن صاحب عدد النقاط الأكثر غالبًا ما يعتمد في تحليله على حقائق ليصل إلى نتائج أقرب إلى الواقع. وهم من أطلق عليهم التقرير اسم ” Superforecasters” أو المتنبئين الفائقين.
ما هي تحديات وعيوب تطبيق النُظم الكمية المتقدمة للتنبؤ؟
عرض المؤلفون خلال التقرير العديد من العقبات والتحديات التي قد تواجه الحكومة في إدخال وتطبيق نظم التنبؤ الجيوسياسي كثيفة المصادر، بالإضافة إلى العيوب والسلبيات المحتمل ظهورها عند تطبيقه، ويدلل على ذلك خبرات سابقة في مجتمع الاستخبارات الأمريكي مثل “The Intelligence Prediction Market”، ويمكن تلخيصهم في النقاط الآتية:
أولًا، العقبات البيروقراطية: يعتمد التنبؤ الجيوسياسي كثيف المصادر على مشاركة التوقعات والبيانات، وهذا يتنافى مع القيم والسياسات البيروقراطية التي تعتقد أن سر نجاح المهام هو السرية أو الرسمية، وبالتالي سوف ينظروا إلى هذه المبادرات بعين الشك.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ظهور نظام جديد يعتمد على التكنولوجيا والبيانات قد يهدد النظام الحالي في المؤسسة. فالبيروقراطية معتادة على نوع معين من المهام تنفذه، في حالة ظهور ما هو جديد، سوف يحظى من يستطيع التعامل معه بأهمية أكبر من المسئوليين الحاليين، وهذا يهدد منصبهم. وذلك قد يُعتد حافزًا أقوى للوقوف أمام مبادرات تجميع المصادر الجديدة.
ثانيًا، عدم الثقة: قد يواجه التنبؤ المبني على البيانات الكمية شكًا وعدم ثقة في مدى صحته بشكل عام. وذلك لأن الأرقام قد يُساء استخدامها خاصةً أنها بالنسبة للبعض، كما وصفها المؤلفون، تشبه “الصندوق الأسود” الذي يحتاج إلى متخصصين وخبراء لفك شيفراته وحل ألغازه؛ وهو ما يزيد من تعقد وصعوبة العملية.
ثالثًا غياب الحوافز المادية: لم يلق المشاركون أي حوافز أو مكافأت مادية في مقابل مشاركتهم بتوقعاتهم. فلا يوجد هناك تشجيع لهم أن يتعلموا نظامًا جديدًا مادام المقابل ثابت.
رابعًا عدم اعتبار التنبؤ جزء من المهمة الوظيفية: كثير من المحللين يتعاملون مع البيانات والمعلومات المختلفة ليقدموا تحليلًا سواء كميًا أو كيفيًا لها، دون اعتبار أن تقديم التوقعات جزءًا من عملهم مدعين “هذا ليس عمل”، فمن الصعب اقناعهم باستخدام تقنية معقدة تعتمد على مصادر كثيفة.
إدماج التنبؤ الجيوسياسي الكمي في أجهزة الدولة
سعي التقرير إلى إدماج مناهج وأدوات التنبؤ الجيوسياسي ودمجها في قطاعات الدولة خاصًة الأجهزة المخابراتية، وكذلك الأجهزة الحكومية مثل الكونجرس ووزارة الدفاع. وذلك من خلال الآتي:
أولًا، ضرورة الإلزام وصدور أمر رسمي: فمن وجهة نظر المؤلفين، يجب أن يُصدر من الحكومة أمر رسمي بضرورة الاستعانة بالتنبؤ كثيف المصادر في التقارير التحليلية خاصةً المخابراتية لتدعم نتائج أدوات التنبؤ التقليدية ولتفادي التحيز والميول الشخصية. وعلى سبيل المثال، يمكن إصدار تعليمات بضرورة إرفاق النسبة المئوية للاحتمالية “probability” لكل سيناريو أو توقع تم التوصل إليه بالطرق التحليلية التقليدية.
ثانيًا، توفير برامج تدريبية متخصصة: أي صدور التوجيهات الرسمية لن يكون واقعيًا إلا بعد توفير برنامج تدريبي في “تقييم الاحتمالات والانحياز المعرفي،” بالإضافة إلى التمرين على صياغة الأسئلة بطريقة مناسبة حيث تكون قابلة للدحض. وسوف يكون الهدف الأول من هذه البرامج هو تحسين مجموع النقاط للمحللين كمؤشر أداء رئيسي.
ثالثًا، تيسير المهمة بتبادل المعلومات: يوصى التقرير بضرورة خلق منصاب مفتوحة لمشاركة التوقعات المختلفة وذلك كنوع من التسابق والتحفيز لتطوير نُظم التنبؤ، إضافة إلى ذلك فهو سيعزز من البيانات والمعلومات المتاحة لتحويل الاحتمالات لمعلومات مفيدة يمكن اتخاذ قرارات على أساسها. وفي هذه المنصات يمكن تنظيم مسابقات تعتمد على مجموع النقاط كنوع من التحفيز على إنتاج توقعات أكثر دقة وأقل تحيزًا.
رابعًا، تشجيع وتحفيز المحللين: كما استعرضنا من قبل أن هذا النوع من أنظمة التنبؤ هو سهل تقيمه لأنه يعتمد على النقاط، ليس فمن السهل التشجيع على المناسبة من خلال تكريم أفضل محللين حاصلين على أول مراكز بأعلى مجموع من النقاط. كما أن متابعة الفرد لأداءه ومعرفة تقييمه بشكل مستمر سيجعله يطور من مهاراته أكثر ويبحث عن المصادر التي ستجعل توقعاته أكثر دقة وأعلى في مجموع النقاط.
خامسًا، دمج التنبؤ كثيف المصادر بالطرق التقليدية: كما سبق وذكر، فإن التنبؤ كثيف المصادر ليس وحده قادرًا على إنتاج توقعات مطابقة للواقع. ولكنه أداة فعالة سوف تزيد من فعالية وقوة الطرق التقليدية. لذا، فيجب أن يفهم المحللون أن الطرق التقليدية الذين يتقونها بالفعل ليس بلا جدوى، بالعكس هي أساسية لكنها غير كاملة.
ختامًا، بالطبع أصبح للتحليل الكمي للبيانات أهمية كبيرة في يومنا هذا خاصةً بسبب ما نشهده من تطورات تكنولوجية يوميًا في مجالات الذكاء الاصطناعي، والبيانات الكمية، وإنترنت الأشياء، وما إلى ذلك. وبناءًا على ذلك أصبح للبيانات دورًا مهم في كافة المجالات. لكن تبقى هناك تحديات عديدة في التطبيق مشّكلة خطرًا على دقة النتائج. لذا، فيجب على الحكومات وأجهزة الدول أخذ هذا المنهج في الاعتبار مع دمجه بالطرق الكيفية في تقدير التوقعات، وأن يكون الهدف الأول والأخير هو نتائج أقرب إلى الواقع مُعبر عنها بقيمة دون تحيز أو ميول شخصية.
وبالرغم أن التقرير موجه لصانعي القرار، ألا إنه قد يناسب الباحثيين المهتمين بالدراسات الاستشرافية. فهو قيّم العديد من نُظم التحليل الكمي والكيفي، وقدّم نموذجًا أكثر دقة قد يستفيد منه الباحثون في حالة حصولهم واطلاعهم على بيانات كافية لإجراء نماذج التنبؤ كثيف المصادر.