منذ بداية جائحة كورونا في 2019، أخذت الدول تتسابق في الوصول إلى اللقاح. بحسب تقرير التحالف العالمي للقاحات والتحصين (Gavi) حول تطوير لقاح فيروس كورونا في آخر تحديث في 5 يناير 2022، أن عدد اللقاحات في مرحلة التجارب غير سريرية قد وصل إلى 194 لقاح جاري اختبارهم في المعامل، بينما يوجد 23 نوعًا من اللقاح يتم تقديمه للجمهور بالفعل بتقنيات مختلفة. ونجد أن الصين ن طورت سبعة أنواع من اللقاحات ، أي ما يقرب من 30% من اللقاحات الحالية. تليها ثلاث دول طوروت ثلاثة أنواع من اللقاح وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وإيران. فيما لحقت كل من المملكة المتحدة، والهند، وألماينا، وكوبا، وتايوان، وكازاخستان بسباق تصنيع اللقاحات.
وبفضل سباق تطوير وتصنيع اللقاحات، تلقى 59.1% من سكان العالم جرعة واحدة على الأقل من اللقاح، ولكن من بينهم 8.9% فقط في الدول منخفضة الدخل. وذلك ما عبّر عنه أنطونيو غوتيريش – الأمين العام للأمم المتحدة “فالنجاح في الساحة العلمية يقابله فشل في التضامن”. وتثير هذه الحقائق العديد من التساؤلات حول آلية توزيع اللقاح وعن سبب التفاوت الملحوظ بين الدول المتقدمة والدول النامية. وأيضًا مخاطر تسييس التعاون الدولي بخصوص تقديم اللقاحات، وما قد يترتب على هذا التسييس من مخاطر اقتصادية.
قومية اللقاح: كيف يتم استخدام اللقاح سياسيًا؟
على الرغم من أن الصراع السياسي بين الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي كان على أشُده في ظل الحرب البادرة طوال النصف الثاني من القرن الماضي، إلا أنهما تجاوزا الصراع الأيديولوجي والجيوستراتيجي وتعاونًا بخصوص السيطرة على الأوبئة. فقد تشارك مركز السيطرة على الأمراض (CDC) الأميريكي ومعهد الاتحاد السوفيتي لتطوير الأمصال اللازمة للقضاء على مرض الجدري، خاصًة في الدول النامية ومنخفضة الدخل، وبحلول عام 1980، كان العالم قد تعافى من هذا المرض.
لكن مع غياب ضابط لإيقاع النظام الدولي في عالم ما بعد الحرب الباردة، يبدو أن سلوك الدول يتجه نحو مزيد من التنافس، وربما استخدام لقاحات وباء الكورونا سياسيًّا واقتصاديًّا، فيما تغيب المؤشرات على وجود تعاون دولي على إنتاج اللقاحات أو توحيد سياسات التلقيح؛ خاصة فيما يتعلق بالتوزيع العادل.
لا شك أن تطوير اللقاحات مع استمرار الموجات الوبائية يحقق مكاسب هائلة للدول المنتجة وكذلك شركات الأدوية الكبرى، إلا أن هناك ظاهرة سياسية ارتبطت بهذه العملية وهو ما يعرف ب”قومية اللقاح” “Vaccine Nationalism“. ويشير هذا المصطلح إلى سيطرة وملكية الدولة للقاح المُنتج على أرضها، ومن ثم تستخدم هذا اللقاح لخدمة مصالحها القومية، بغض النظر عن حقيقة أن استمرار موجات الوباء كفيلة بإلغاء أثر توفر اللقاحات على مستوى وطني. فالأوجب على الدول في هذا الحالة بالذات مد يد العون أو التعاون مع غيرها لضمان “التوزيع العادل للقاح.”
قد تكون قومية اللقاح مبررة في المراحل الأولى من تطوير وإنتاج اللقاحات وذلك لأن الكمية المعروضة من اللقاح لم تكن كافية. لكنّ العديد قد قامت بتخزين كميات كبيرة من اللقاحات؛ أو التعاقد مع الشركات لطلب كميات تتجاوز احتياجاتها الحالية. على سبيل المثال، عملت كندا على توفير خمسة أضعاف احتياجات سكانها، فيما عملت الولايات المتحدة وبريطانيا على مضاعفة طلبات اللقاح الخاصة بسكانها. الأخطر من هذا أن الاتحاد الأوروبي عمل على وضع قيود تصدير اللقاحات خارج بلاده ومنح دول سلطة الاعتراض على الصادرات خارج الاتحاد.
ساهمت كل هذه السياسات في تأخير وصول اللقاح للعديد من الدول النامية ومنخفضة الدخل. وعلى الرغم من الفجوة في عدد المتلقيين لجرعة واحدة على الأقل بين الدول منخفضة الدخل، مثل جنوب السودان التي تلقى 2% فقط من شعبها جرعة واحدة على الأقل، والدول ذات الدخل المرتفع مثل ألمانيا التي حصل 73.9% من شعبها على جرعة واحدة من اللقاح على الأقل، إلا أن مظاهر التفاوت مستمرة.، كما أن معظم الدول الأفريقية عليها أن تنتظر حتى بداية العام 2023 حتى يتم تلقيح معظم مواطنيها. في المقابل، أعلنت العديد من الدول عن بداية توفير جرعة ثالثة تحفيزية من أنواع اللقاح المختلفة، مما يعكس زيادة الإنتاج والعرض أكثر من المرحلة السابقة.
وقد حذرت منظمة الصحة العالمية من تسييس توزيع اللقاحات ومن قومية اللقاح. وجاء في كلمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريش أمام قمة الصحة العالمية الأخيرة في برلين والمنعقدة في أكتوبر 2021 أن سوء توزيع اللقاح من شأنه أن يلغي أي أثر إيجابي للقاحات المتوفرة، مع حقيقة أن ثلاثة أرباع اللقاحات قد ذهب للدول عالية ومتوسطة الدخل. كما أن “اكتناز اللقاحات” يضع الجميع أمام مخاطر انتشار متحورات جديدة من الوباء، ومزيد من الضغط على النظم الصحية والمآسي الاقتصادية.
وإلا سوف ينتشر الفيروس بشكل أسرع، وتزيد احتمالية ظهور متحورات جديدة منه. وهذا كان السبب الرئيسي وراء إنشاء مبادرة الوصول العالمي للقاحات كوفيد-19 “COVAX”، وهو اتحاد بين منظمة الصحة العالمية، والتحالف العالمي للقاحات والتحصين “Gavi”، وتحالف ابتكارات التأهب الوبائي “CEPI”، واليونيسف. تسعى هذا المبادرة لتوفير 6 مليار جرعة للدول الفقيرة، والوصول بنسبة التلقيح العالمية إلى 70% بحلول منتصف 2022. وتحاول المبادرة الانتقال إلى “عالمية اللقاح” “Vaccine Internationalism” كنموذج بديل للتعاون الدولي بدلاً من قومية اللقاح.
التمييز في الاعتراف بأنواع اللقاح
فضلاً عن “قومية اللقاح” كنمط لتسييس اللقاح، يمتد التسييس أيضًا إلى اعتراف بعض الأطراف الدولية بلقاحات معينة ورفض لقاحات أخرى لاعتبارات سياسية. فيما وافقت منظمة الصحة العالمية على 23 نوع من اللقاح، لم يعترف الاتحاد الأوروبي إلا بخمسة منهم. فتعترف الوكالة الأوروبية للأدوية باللقاحات الآتية: (1) اللقاح الأميريكي “كوميرناتي” المعروف بـ “فايزر”، (2) و “جونسون” المشهور بـ “لقاح جونسون آند جونسون”، (3) ولقاح “نوفافاكس” الأميريكي، (4) ولقاح “موديرنا” المُطور من شركة موديرنا الأميريكية، (5) وأخيرًا “لقاح أكسفورد–آسترازينيكا” البريطاني. والغريب أنه على الرغم من اعتراف الاتحاد الأوروبي باللقاح البريطاني “استرازنكا” لكنها ترفض الاعتراف بلقاح “كوفيشيلد” الذي تم تصنيعه في الهند، على الرغم من أنه نفس اللقاح البريطاني كيميائيًا والاختلاف هو دولة التصنيع. وتعارض هذه السياسات دعوات منظمة الصحة العالمية الدول للاعتراف بجميع أنواع اللقاح المُصدق عليها من المنظمة، وذلك تجنبًا لإقامة أنظمة تمييزية للسفر.
بينما يعتقد البعض أن التمييز في الاعتراف بأنواع لقاح معينة قد يعرقل إجراءات السفر فقط، لكنه قد يُستخدم دبلوماسيًا واقتصاديًا للتضييق على دول أخرى. مثال على ذلك التمييز الدبلوماسي الذي تعرض له الوفد الروسي في دورة الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا عن مجلس الفيدرالية في سبتمبر 2021، فقد تم تحجيم حركة الوفد في المدينة الفرنسية “ستراسبورغ؛” وذلك بسبب عدم اعتراف الإتحاد الأوروبي بلقاح “سبوتنيك V” الروسي. وصرّح السكرتير الصحفي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف أن تأخير الاعتراف بلقاح “”سبوتنيك V” من قبل الاتحاد الأوروبي لا يُعد إلا تمييزًا عنصريًّا.
وقد يكون التمييز في اللقاح بشكل أقل مباشرةً مثل استخدام وسائل الإعلام المختلفة. فيعد الإعلام أحد الأدوات التي تستخدمها الدول للترويج للقاح معين خاصةً اللقاح الأمريكي “فايزر” و “موديرنا،” وأيضًا اللقاح البريطاني “أكسفورد-أسترازينيكا”. وفي المقابل التشكيك في اللقاحات الأخرى خاصةَ الصينية والروسية، وعدم إعطاءهم قدر مناسب من التوعية والتغطية الإعلامية. في المقابل، اتهم الغرب كلًا من الصين وروسيا بقيادة حملات لتشويه أنواع اللقاح المُنتجة في أميريكا والدول الأوروبية.
لماذا لا يجب استخدام اللقاح سياسيًا واقتصاديًا؟
يعتقد البعض أن عدم المساواة في اللقاح واستخدامه لأغراض سياسية يرفع من نسب التردد في آخذ اللقاح “Vaccine Hesitancy”. فالشعوب المتوفر لها التطعيم، حتى لو واثقة من اللقاح كمنتج، فستثير عملية التوزيع غير عادلة والتي لا تتسم بالشفافية شكوكهم وثقتهم في الحكومة نفسها التي توفر لهم اللقاح، بل وستفقد الثقة في النظام العالمي ككل. كما أن استمرار الترويج لمعلومات وشائعات مضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بشكل عام تؤثر على رغبة المواطنين في تلقي اللقاح، وذلك يهدد استمرار تفشي الفيروس وتحوره، فيعتقد العلماء أن ظهور المتحور الجديد “أوميكرون” هو نتيجة لتوزيع اللقاح البطئ وغير المتكافئ.
إضافةً إلى ما سبق، فإن عدم التوزيع العادل للقاح والاستمرار في تبني سياسة “قومية اللقاح” قد يعرض الاقتصاد العالمي إلى أزمة عالمية خطيرة، وستخسر الدول المتمسكة بقومية اللقاح ك أعدت مؤسسة راند الأوروبية دراسة بعنوان “التكلفة الاقتصادية العالمية لقومية لقاح كوفيد-19” في عام 2020. هدفت الدراسة إلى التنبؤ بحالة الاقتصاد العالمي في حالات مختلفة تخص توفير وتوزيع لقاح كورونا . وتوصلت الدراسة إلى أن في حالة عدم توفير اللقاح للدول منخفضة الدخل سوف يخسر الاقتصاد العالمي حوالي 153مليار جنيه إسترليني سنويًا من الناتج المحلي الإجمالي. والدول مرتفعة الدخل نفسها سوف تعاني من الخسارة حيث سيخسر الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة سويًا ما يقرب من 65 مليار دولار سنويًا. وهذا يرجع إلى أن العالم معتمد على بعضه البعض، فإن الدول مرتفعة الدخل تعتمد على استيراد المواد الخام من الدول النامية، مثل استيراد الولايات المتحدة لمواد البناء من البرازيل وإطارات السيارات من آسيا، فإذا انتشر الوباء في أحد تلك البلدان، وأصبحت العمالة غير قادرة على الإنتاج، سوف تتضرر مصالح الولايات المتحدة وتتعطل صناعاتها.
إن انتهاء الجائحة الآن ليس مرتبط بوجود اللقاح فقط، ولكن بعدالة توزيعه وتوفيره لكل الدول منخفضة، ومتوسطة، ومرتفعة الدخل. وتشكل حالة الوباء وضعية فريدة في النظام الدولي حيث تتماهي المصلحة الوطنية المتمثلة في ضرورة توفير اللقاح للمواطنين مع المصلحة الدولية المتمثلة في ضرورة ضمان توفير اللقاح لمعظم سكان العالم. إلا أن الإشكالية تنبع من حقيقة عدم وجود آليات مركزية في النظام الدولي لتحقيق هذا التماهي. ويبقى أن على المنظمات الدولية كافةً تكثيف جهودها في دعوة الدول المنتجة للقاح لتصدير وتوزيع كميات كافية من اللقاح للدول منخفضة الدخل، أما الدول غير منتجة للقاح فيمكن أن تقدم الدعم المادي لشراء جرعات اللقاح. وبالفعل تتزايد الدعوات لصندوق النقد الدولي لتمويل الدول النامية لتكون قادرة على شراء اللقاح.