في كلمته أمام مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP26، المنعقد بغلاسكو بين 31 أكتوبر و12 نوفمبر 2021، دعا روبرت مارديني، المدير العام للجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، قادة ورؤساء لمزيد من الانتباه وتكثيف جهود مكافحة تأثيرات التغير المناخي خاصة في المناطق التـي تعاني من الصراعات. وذلك لكونها الأقل قدرة على التكيف والتأقلم على التغيرات المناخية، مما يجعل الوضع أكثر سوءًا عما سواها. أشّرت هذه الحقيقة على العلاقة الجدلية بين تغير المناخ واندلاع الصراعات، والتـي أصبحت محورًا رئيسًا في دراسات الأمن والسلام المعاصرة. وهو ما يستدعي البحث في مدى مسؤولية تغير المناخ عن اندلاع الصراعات في العالم.
قبل تناول الاتجاهات الرئيسة في هذا الصدد، تجدر الإشارة في البداية أن تغير المناخ كتهديد جاد للحياة على الأرض فد استغرق العديد من العقود، وما زال هناك من يشكك في “وجوده” فعليًّا خاصة في الحركات الشعبوية واليمنية وأصحاب المصالح الاقتصادية. وهناك من يشير إلى تغيرات مناخية حادة وقعت سابقًا دون أن تؤدي هذا الشعور العميق بالتهديد، يذهب هؤلاء إلى أن “التاريخ دائمًا ما يحدث على خلفية من تغير المناخ.”
إلا أنه من الضروري الإشارة في هذا السياق إلى نوعين من التغير المناخي؛ الأول الناتج عن تغيرات جيوفيزيائية وطبيعية، وهو ما يستغرق سنوات طويلة وعمليات معقدة ومتراكمة في الغلاف الجوي. والثاني هو الذي يحدث بسبب “التدخل البشري” أو استنزاف البيئة وتلويث الجو نتيجة الأنشطة البشرية. والنوع الثاني هو الذي يؤشر على خروج الأرض من حالة العصر الطبيعي “الهولوسين” إلى التأثيرات البشرية العميقة على تربة وغلاف الأرض “الأنثروبوسين.”
والنوع الثاني من تغير المناخ هو ما أشارت إليه المادة الأولى في اتفاقية الأمم المتحدة ﺍﻹﻃﺎﺭﻳﺔ ﺑﺸﺄﻥ تغير المناخ (UNFCCC)؛ فتغير المناخ هو التغير المرتبط بالنشاط البشري سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك يؤدي إلى تغير في تكوين الغلاف الجوي ويحدث بعض التقلبات المناخية الطبيعية. فإن الأنشطة البشرية تساهم في زيادة تركيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي؛ مما يسبب ارتفاع درجات حرارة الأرض مسببًا اضطرابًا في النظام البيئي.
تغير المناخ يسبب الصراعات / تغير المناخ مسئول عن الصراعات
يذهب هذا الاتجاه، والذي يمكن أن نطلق عليه الاتجاه الطردي، أن هناك علاقة مباشرة بين تغير المناخ ونشوب النزاعات. وفقًا لهذا الاتجاه، فإن ارتفاع درجة الحرارة، الناتج عن الاحتباس الحراري، يساهم في الضغط على الموارد وتدهور الأوضاع الاقتصادية ومن ثم إشعال الصراعات والنزاعات المسلحة خاصةً في المناطق الأفقر في العالم في الساحل الأفريقي والشرق الأوسط وغيرها.
قامت وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية (PNAS) بنشر دراسة بعنوان “الاحترار يزيد من مخاطر اندلاع حرب أهلية في إفريقيا” في 2009، وقام بهذه الدراسة مجموعة من الباحثين في جامعات أمريكية رائدة مثل جامعة ستانفورد وجامعة كاليفورنيا – بيركلي، وجامعة نيويورك، وجامعة هارفارد. واعتمدت هذه الدراسة في المقام الأول على تحليل البيانات ونماذج المناخ، وتوصلت إلى أن ارتفاع درجة الحرارة 1 درجة مئوية، التي يقابلها انخفاض في نسبة الترسيب أي هطول الأمراض، يزيد من وقوع الحرب الأهلية بنسبة 4.5% في نفس العام، وزيادة بنسبة 0.9% في العام التالي، لترتفع خطورة نشوب الصراعات المسلحة في المنطقة بنسبة 54% بحلول عام 2030. وفسرت ذلك بأن كل ارتفاع درجة مئوية يقابلها اتلاف إتلاف 10% – 30% من المحاصيل الزراعية في أفريقيا، والتي يعتمد عليها الفقراء في المناطق الريفية الأفريقية كمصدر دخل أساسي بنسبة تتراوح من 60% إلى 100%.
المثال الأبرز على لك الاتجاه هو الصراع في دارفور، والذي أطلق عليه بان كي مون، لأمين العام السابق للأمم المتحدة في 2007 “أول صراع مناخي في العالم.” في دارفور، أدى تناقص كمية المياه الناتج عن تغير المناخ إلى تجدد النزاعات الأهلية القديمة بين المزارعين والرعاة. وأكدت بعض الدراسات التي أعتمد عليه بان كي مون في وصفه على أن الصراع كان يزداد حدة في السنوات ذات الأمطار الأقل . وقد شهدت المنطقة انخفاضًا حادًا في كميات الأمطار المتساقطة منذ 1946 وحتى 2005 بنسبة تصل إلى 34% في شمال دارفور، متسببًا في الجفاف، وقلة الموارد مقابل عدد السكان، وتصحر أكثر من 100 كيلومتر مربع من الأراضي في اتجاه جنوب دارفور. وازداد الوضع سوءًا، وأصبح تأثير تغير المناخ أكبر، بوجود عوامل أخرى مثل الزيادة السكانية، واستغلال الغابات في الزراعة والمراعي، وبسبب تلك التدهورات، اندلعت عدة صراعات بين القبائل، وفي الثمانينات من القرن العشرين، شهدت دارفور موجة جفاف شديدة ومجاعة أدت إلى نزوح السكان. وكل هذه الأحداث كانت تمهيدًا لأزمة دارفور التي انفجرت في 2003، وتسببت في مقتل حوالي 300,000 إضافة إلى نزوح وهجرة أكثر من 2.7 مليون مواطن.
ويستشهد أنصار هذا الاتجاه أيضًا بالحرب الأهلية في سوريا كأكثر الحالات توضيحًا لوجهة نظرهم، فقد كانت موجة الجفاف الشديدة التي ضربت منطقة الهلال الخصيب والأردن وسوريا في 2010، بداية الاضطرابات في درعا وجنوبي سوريا الأكثر جفافًا. ومع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة معدلات البخر، عانت سوريا من التصحر والجفاف، الذي أدى إلى إتلاف المحاصيل، وزيادة معدلات الفقر عندما خسر أكثر من 800,00 مزارع دخله، وبالتالي عانت سوريا من ارتفاع في أسعار الطعام. وهو ما دفع المواطنين إلى الاحتجاج الذي استدعى مظالم أعمق، وتطور إلى عنف وحرب أهلية.
وعلى الرغم من هذه الصلات، إلا أن الاتجاه الطردي يعتبر متطرفًا في وصف العلاقة الإيجابية والمباشرة بين تغير المناخ واندلاع الصراعات. فمن الممكن أن تواجه إحدى المناطق معدلات أكبر في تغير المناخ لكن قدرتها السياسية والاقتصادية على التأقلم والمواكبة تجعل التأثيرات أقل من دولة أخرى تعاني من معدلات أقل في تغير المناخ لكنها لا تستطيع مواكبتها، خاصةً في الدول التي هي غارقة في الصراع والنزاع المسلح تفتقر القدرة على مواجهة تغير المناخ، وبالتالي قد تكون العلاقة عكسية. أي أن تدهور المؤسسات ووجود الصراعات يعوق جاهزية الدولة والمجتمع للتعامل مع التغيرات المناخية.
تغير المناخ لا يسبب الصراعات مباشرةً بل يحفزها.
على الصعيد الآخر، ترى بعض الاتجاه وجود علاقة “شرطية” بين تغير المناخ وتدهور الموارد والصراعات. يرى هذا الاتجاه أنه من المبالغة إلقاء مسؤولية الصراعات على تغير المناخ على نحو قد يحذف مسؤولية فواعل وعوامل أخرى، بشرية بالأساس. يعتبر هذا الاتجاه التغير المناخي عامل مساعد أو محفز للصراع يشترط وجود عوامل أخرى ليتفاعل معها..
ترى “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) أن تغير المناخ عامل رئيس في تحريك الصراعات والنزاعات المسلحة، لكنه قد يتفاعل مع بعض العوامل الأخرى ليزيد من حدة الصراع ، ومن هذه العوامل ندرة الموارد، وانخفاض مستوى الدخل، والانقسام الطبقي الحاد، وعدم كفاءة المؤسسات لحل الأزمات، والخلافات الطائفية والعرقية العميقة التي تبحث عن فرصة للانفجار، والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية الأخرى. وتتفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) مع هذا الاتجاه خاصةً بالتركيز على الصراعات القائمة بالفعل وتأثيرها على قدرة الدول في مواكبة والتأقلم مع تغير المناخ، مما دفعها إلى اتخاذ مؤتمر COP26 كمنصة لدعوة زعماء العالم إلى الاعتراف بأن الدول التي تعاني من الصراعات خاصةً مالي، أفغانستان، وجنوب السودان هم الأشد حاجة لاتخاذ الاجراءات المناخية اللازمة، وذلك لأن الصراع قد قلل من قوة وكفاءة المؤسسات في العموم، وفي مواجهة تغير المناخ بالخصوص.
تغير المناخ كمحفز للتعاون
يرى اتجاه ثالث أن توكيد العلاقة بين تغير المناخ والصراعات طرديًّا أو شرطيًّا قد يتجاهل وجود استجابة “تعاونية” بين الدول وداخل المجتمعات. فقد تضع الدول خلافاتها جانبًا ليحل محلها التعاون والتنسيق لمواجهة المخاطر المناخية والبيئية متجاوزة الحدود؛ وذلك بهدف التكيف معها أو لتخفيف من حدته.
فعلى الرغم من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، لكنهما متعاونين في ملف تغير المناخ. فخلال قمة غلاسكو (COP26)، صرحت كل من واشنطن وبكين، في إعلان مشترك نادر على تعاونهم سويًا لتطبيق اتفاقية باريس 2016 ومحاولة منع درجة الحرارة العالمية من الزيادة أكثر من 1.5 درجة مئوية، وذلك من خلال التنسيق سويًا في ملفات استخدام الطاقة النظيفة، وانبعاثات الميثان، ونزع الكربون. مما خلق فرصة للحوار المشترك في ملفات تربطهم سويًا بنفس المصير.
كذلك تتجه الدول المشاطئة لبحر الشمال خاصة بريطانيا وفرنسا وهولندا والنرويج لبحث التعاون بناء سدود شمالاً وجنوبًا للحد من تأثيرات ارتفاع منسوب مياه البحر الذي قد يهدد بإغراق بعض الدول والمناطق الساحلية خاصة هولندا.
ولا يقتصر الأمر فقط على الدول، بل تتعاون بعض الجماعات المحلية لتعزيز قدرتها في مواجهة المخاطر البيئية. على سبيل المثال، هدأت حدة النزاعات بين الجماعات المحلية بأحد مقاطعات كولومبيا عندما قامت الفيضانات في عام 2004، وبدل من التقاتل فضلوا التعاون سويًا لمنع أضرار الفيضانات.
الصراع والمناخ بين قمة غلاسكو 2021 واتفاقية باريس 2016
كانت اتفاقية باريس عام 2016 أيضًا مؤشرًا على إمكانية “التعاون الدولي” لمواجهة التغير المناخي. وقعت هذه الاتفاقية 175 دولة، وقد جاءت في الأساس لاتخاذ التدابير الوقائية لارتفاع درجات الحرارة، وضخ التمويلات المالية لدعم الدول النامية المتضررة من تغير المناخ، أما في الجزء الخاص بالأمن والصراعات، وقد جاء في ديباجة الاتفاقية ضرورة تعامل الدول مع “حماية الأمن الغذائي والقضاء على الجوع، ونقاط الضعف الخاصة لنظم إنتاج الغذاء في مواجهة الآثار السلبية لتغير المناخ.” في إشارة غير واضحة على إمكانية تحول الصراعات المناخية إلى أزمات سياسية واجتماعية.
بدأ هذا الاتجاه في الوضوح بشكل أكبر في مباحثات قمة غلاسكو COP26. كما اتضح في مناقشات وتصريحات المسؤولين الدوليين عن تأثير تغير المناخ على الأمن والسلام؛ وكذلك في مناشدات المسؤولين بضرورة رصد ومساعدة المناطق التي تعاني من تغير المناخ والصراعات. ومن بين هذه المناشدات كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الممثل الخاص للأطفال والنزاعات المسلحة، بالإضافة إلى كلمة أندرو هاربر، لمستشار الخاص لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين بشأن العمل المناخي، بشأن تأثير تغير المناخ على الهجرة واللجوء.
ختامًا، أصبح التغير المناخي بفعل التدخل البشري حقيقة واقعة، وهو ما يتطلب مجهودات على كافة المستويات الوطنية والدولية للتخفيف من تأثيره أو التكيف معه، خاصًة مع مخاطره التي تساهم في تعميق الأزمات التي تؤدي إلى أو تحفز قيام صراعات سياسية. ويمكن أن يعزز الفهم الجيد لهذه الظاهرة الأطر التعاونية المختلفة حيث الاستفادة في التعاون والتنسيق مع دول الجوار ومن خلال المنظمات الإقليمية والدولية لتحقيق الصالح العام بدلًا من الانخراط في الصراعات السياسية.