أثارت العلاقة بين تغير المناخ والتدهور البيـئي، والصراعات العديد من التساؤلات منذ مطلع الألفية؛ إذا بدا أن انتشار الصراعات الدولية والحروب الأهلية والإرهاب والتطرف العنيف إلى جانب التفاقم المتوقع لتأثيرات التغير المناخي يمثلان أهم المتغيرات المستقبل البشري إلى جانب التقدم التكنولوجي. إلا أن العلاقة بين تغير المناخ واندلاع الصراعات والحروب ليست علاقة خطية بل وتتحقق في إطار مركب من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحلية والدولية على السواء. ويعد الإرهاب، والتطرف العنيف أحد أشكال هذه العلاقة المركبة بين التغير المناخي والعنف السياسـي، بكافة أشكاله.
ليس من الحتمي أن يؤدي التغير المناخي، وما يؤدي إليه من تصارع على الموارد، إلى اندلاع الإرهاب على نحو مباشر، إلا أنه من المؤكد أن يساعد على خلق الظروف المواتية لازدهار الجماعات الإرهابية في مناطق الصراعات؛ خاصة مع تدهور الأطر المؤسسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وتفاقم الفشل المحلي والدولي في التعاطي مع تداعيات مثل الجفاف، والفيضانات، والتصحر، والاحترار. ولا ريب أن الدول الأكثر عرضة لمثل هذه التداعيات، خاصة في العالم الثالث، هي أيضًا الأكثر عرضة لتداعيات عدم الاستقرار السياسـي والعنف والإرهاب. وبتعقب البلدان التـي تعاني من هذا الخطر المزدوج في أفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط، يمكننا القول إن العالم يشهد حزامًا من الاحترار والعنف وهو ما سيفرض نفسه على الجهود الدولية الرامية لمكافحة الإرهاب. من منظور الأمن الإنساني، نجادل في هذه المقال أن التغير المناخي يعمل كمضاعف لتهديدات الإرهاب؛ إذا يعمق الأسباب البنيوية التـي تؤدي إليه، ونتخذ من منطقة الساحل الأفريقي نموذجًا لدراسة العلاقة المركبة بين التدهور البيئي والتطرف العنيف.
التغير المناخي والعنف والأمن الإنساني
أصبح التغير المناخي على رأس أجندة العمل الدولي مع تفاقم تداعياته وتسارع الجهود الدولية لاحتوائها. لقد أصبحت هذه القضية هي التحدي الأكبر الذي يشغل الأجيال الحالية والقادمة. وعلى الرغم من أن هذه التداعيات تصيب معظم الكوكب، بأنماط مختلفة تؤدي إلى الضغط على الموارد في ظل زيادة عدد السكان، إلا أن الدول الأفقر والهشة هي الأكثر عرضة للتداعيات الأسوأ التـي يؤدي إليها الاحتباس الحراري. تذهب بعض الدراسات إلى وجود معاملات رقمية بين ارتفاع درجات حرارة الكوكب ومستويات العنف السياسـي. وفقًا لهذه الدراسات، فزيادة الحرارة بنسبة ٠.٥ درجة سيلزية في البيئة المحلية قد يضاعف من مخاطر عدم الاستقرار واندلاع الصراعات بنسبة ١٠ إلى ٢٠٪.
في ظل وجود أسباب اقتصادية وثقافية بنيوية تشكل هشاشة البنية السياسية، يمكن أن يؤدي التغير المناخي إلى العنف خاصة على الأمن الإنساني للمواطنين بأشكال عديدة محورها الضغط على الموارد وسوء إدارة الأزمات البيئية.
- الإضرار بأمن الغذاء: يؤثر التغير المناخي مباشرة على إنتاج وتوفر وإمكانية حصول السكان على الطعام على نحو مستقر وبكفاءة أعلى. على سبيل المثال، يؤدي ارتفاع منسوب البحر، والمناخ الحاد المتراوح بين موجات الجفاف والفيضانات إلى تناقص القدرة على إنتاج الغذاء لمعظم السكان. وهو ما يؤدي إلى تصاعد التنافس على الموارد الضيقة، وبالتالي زيادة احتمال اللجوء إلى العنف. وما زالت بعض البلدان، مثل نيجيريا وتشاد والسودان، تشهد من حين لآخر امتدادات للصراعات القديمة بين الرعاة والمزارعين الذين يتنافسون على أراضـي جديدة يمكن استغلالها نتيجة موجات الجفاف الطويلة، وهو ما يؤدي إلى صرعات مسلحة بين الجانبين. في بعض الأحيان، أودت الصراعات بحياة الكثيرين بما يفوق ضحايا الجماعات الإرهابية.
- الإضرار بالأمن المائي: الصراع حول الموارد المائية هو عامل مشترك بين كافة تداعيات التغير المناخي. وقد ساد القول مع بروز قضايا التغير المناخي أن الصراعات المستقبلية ستدور في الغالب حول موارد المياه؛ سواء كنا نتحدث عن صراعات أهلية، أم صراعات بين الدول. وفي الحالة الأخيرة، تبرز قضايا إدارة المجاري المائية الدولية، ونزاعات مثل أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وأثيوبيا والتـي تهدد باندلاع صراع إقليمي تتجاوز آثاره الجيوسياسية منطقة حوض النيل أو القرن الأفريقي.
- لاجئو المناخ: سواء كانوا نازحين داخل البلد الواحد أم خارجه؛ حيث أصبحت تدفع الكوارث الطبيعية ونقص الموارد السكان إلى التحرك بحثًا عن ملاذات آمنة. في الواقع، تمتد هذه الظاهرة إلى الآلاف السنين، إلا أنها اكتسبت أبعادًا سياسية في ظل سياسات الهجرة واللجوء في العقود الأخيرة، خاصة من الجنوب إلى الشمال. حيث أصبحت قضية تتماس مع “الأمن القومي” وزيادة المخاطر الأمنية، فضلاً عن تهديدات الهوية الوطنية. فلنلاحظ مثلاً، تأثيرات موجات الجفاف على حركة الهجرة من أفريقيا جنوب الصحراء والساحل إلى أوروبا ومن أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة، وتأثير ارتفاع منسوب مياه البحر على دلتا البنغال، وزيادة لجوء البنغال المسلمين إلى الهند منذ عقود.
- زيادة العنف ضد المرأة والأقليات: تشير أدبيات تغير المناخ إلى أن النساء والأقليات واللاجئين هم الأكثر تأثرًا بالعنف الناتج عن شح الموارد. تشير بعض التقارير إلى تسارع وتيرة العنف المنزلي والجنسـي الموجه ضد النساء في المناطق الأكثر عرضة للإفقار بفعل تداعيات التغير المناخي، حتـى ضمن البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة. كذلك تربط كثير من الجماعات اليمينة البيضاء المتطرفة بين تدهور البيئة والأقليات من الملونين والسود والمهاجرين باعتبارهم دخلاء، أو خطرًا على مجتمعات الرفاهة؛ حيث ترى هذه الجماعات أن البيض هم الأحق بها؛ لأسباب دينية أو تاريخية متصورة.
تغير المناخ كمضاعف للتهديدات الإرهابية
بالنظر إلي ما سبق من علاقة التغير المناخي بتسارع وتيرة العنف وعدم الاستقرار السياسـي، يمكن القول إن تغير المناخ يعمل كمضاعف لمخاطر الإرهاب Threat Multiplier وليس سببًا مباشرًا له؛ حيث يغذي البيئة الملائمة لتوسع وانتشار الجماعات الإرهابية والمتطرفة؛ خاصة في ظل إخفاق الدول المعنية في علاج الأسباب البنيوية المولدة للعنف. ويضاعف التغير المناخي من تهديدات الإرهاب من ثلاثة نواحٍ:
- الانكشاف السياسـي: حيث تصبح البلدان المصابة بشح الموارد الطبيعية، وسوء إدارة مقدراتها الطبيعية والبشرية أكثر عرضة للانقسامات على خطوط طائفية وإثنية وجهوية. وأبرز أشكال هذا الانكشاف هو ضعف قدرة الدولة، كجهاز للحكم والإدارة على الولوج إلى مواطنيها، وهو ما يجعلهم أكثر ميلاً إلى الانتماءات دون القومية، أو الانضمام إلى جماعات انفصالية وراديكالية قد تنجح نسبيًّا في توفير الخدمات والأمن، ومن ثم مقارعة شرعية الدولية بشرعيات بديلة. بهذا، تصبح الدولة عاجزة عن إدارة الصراع الاجتماعي بين السكان الأصليين والوافدين، أو بين الرعاة والمزارعين.
- التجنيد: توفر مخاطر التغير المناخي فرصًا للجماعات المتطرفة والإرهابية لاستغلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للاجئ المناخ أو النازحين أو المتضررين، وتجنيدهم في صفوفها أو كسب دعمهم. لقد أثبتت الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة في الشرق الأوسط قدرتها على التجنيد من خلال التفاعل المباشر أو من خلال الدعاية الإلكترونية على استغلال استياء قطاعات من مجتمعات المنطقة والناتجة عن سياسات الحكومات. أنماط التجنيد نفسها نجدها في محاولة هذه التنظيمات تجنيد المهاجرين إلى أوروبا، سواء الفارين من الصراعات أو من الكوارث الطبيعية، كما سنجدها في مناطق أكثر تأثرًا بتداعيات تغير المناخ مثل الساحل الأفريقي والصحراء الكبرى. لقد تمكنت جماعات مثل بوكو حرام هذه الأزمات لمد نفوذها من شمال نيجيريا إلى بلدان مثل تشاد والكاميرون من خلال استهداف الفئات الأكثر تضررًا.
- دعم الأيديولوجيات المتطرفة: حيث تدعم الجماعات المتطرفة سرديتها الدينية أو القومية من خلال تأطير التغير المناخي وتداعياته؛ نقص الموارد والإفقار والصراعات الاجتماعية، باعتبارها تجسيدًا للغضب الإلهي أو عدم توافق المجتمعات الحديثة مع “الفطرة” أو “الطبيعة الأم” أو “الإفساد البشري في الأرض” وغير ذلك من خطابات غيبية تؤكد شرعية ما تسعى إليه هذه الجماعات من إحداث تغيير جذري ليس فقط على المستوى السياسـي، بل الاجتماعي والثقافي وربما الدينـي.
تشير بعض الأدبيات أيضًا إلى وجود علاقة دائرة بين الإرهاب والتغير المناخي؛ فتفشـي العنف السياسـي والجماعات الإرهابية سيؤدي حتمًا إلى تهديد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المنوط بها إنتاج سياسات ملائمة للتصدي إلى التغير المناخي؛ وبالتالي تقويض قدرة المجتمع على التكيف أو التصدي مع تداعيات التغير المناخي. يتضح هذا في سياسة تخصيص الموارد لمعالجة التهديدات المختلفة؛ حيث يؤدي الإرهاب إلى “تشتيت” جهود الدول المعنية بمكافحة تأثيرات التغير المناخي، فتخصص مزيدًا من الموارد الأمنية والاقتصادية لمكافحة الجماعات الإرهابية. وهذه هي الحالة السائدة في بلدان الجنوب، خاصة في الشرق الأوسط. ففي السنوات الماضية، حازت جهود دول المنطقة للقضاء على الجماعات المتطرفة مثل داعش والقاعدة والتنظيمات التابعة لإيران على القدر الأكبر من الموارد التـي كان من الواجب تخصيصها لمكافحة تداعيات التغير المناخي التـي تحيق بالمنطقة وتهددها أمنها المائي والغذائي، وبرامج التنمية فيها.
الإرهاب والمناخ في الساحل الأفريقي
تمثل منطقة الساحل الأفريقي ساحة لتضافر مخاطر التغير المناخي والتهديدات الإرهابية على السواء؛ حيث يتعاظم تأثير التغير المناخي على المنطقة بنسبة 50% مقارنة ببقية مناطق العالم، وعانت المنطقة في الربع الثاني من القرن العشرين أسوأ موجة من الجفاف الذي أدى إلى مزيد من التصحر والجفاف، في الوقت الذي تشهد فيه دول المنطقة أعلى معدلات للنمو السكاني؛ والمتوقع أن يتضاعف حجم السكان ليصل إلى 170 مليون نسمة بحلول العام 2050. في ظل هذه العوامل البيئية تشهد المنطقة صراعات أهلية وعدم استقرار سياسـي وتفشـي للجريمة المنظمة بين المنطقة الممتدة من شرقي إلى غرب أفريقيا، خاصة تهريب البشر، والمخدرات والأسلحة؛ في الوقت الذي تضاعف عدد الأسر المعرضة لمخاطر التهجير والنزوح 20 ضعف، والمعرضة لخطر الجوع بمعدل ثلاثة أضعاف في آخر عامين.
جذب هذا التضافر انتباه المؤسسات الدولية المعنية بمكافحة المخاطر الأمنية الجديدة، خاصة في مثلث مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وفقًا للأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، فإن المنطقة تشهد آثارًا متسارعة للتغير المناخي بما يدعم الأيديولوجيات المتطرفة التـي تستغل الفقر والتخلف الذي يتسبب فيهما التصحر لتوسيع نفوذها في المنطقة. إلا أن بعض الاتجاهات ترى أن أزمة المنطقة ليست في تعاظم مخاطر التغير المناخي بقدر ما تنبع من فشل دول المنطقة في التعامل مع مخاطر تآكل المساحات الخضراء ونقص الغذاء وتآكل الأراضـي الزراعية والفشل في حماية الحياة البرية.
لقد اتجهت النخب الحاكمة في معظم بلدان المنطقة إلى الاهتمام بالزراعة على وجه الخصوص على حساب مزارع الحيوانات، وبالتالي الرعاة الذين بدأوا في خسارة أراضيهم بناء على هذه السياسة. ومع انهيار الثقة في نظم التحكيم التقليدية فضلاً عن الأجهزة القانونية والقضائية في هذه البلدان، بدأ أصحاب المزارع الحيوانية في طلب الحماية. وهنا برز دور الجماعات الجهادية التـي احترفت استغلال النزاعات السائدة بين الجماعات المحلية حيث تأخذ في التأكيد على أنه صراع بين المهمشين في مواجهة النخب المرتبطة بالاستعمار السابق وبالغرب.
في بوركينا فاسو، حدث السيناريو نفسه عندما استغلت الجماعات الجهادية النزاعات القائمة رعاة الحيوانات وأجهزة الحفاظ على الغابات والحياة البرية. وتمكنت هذه الجماعات من تقديم نفسها على أنها حامية أمن المزارعين والقادرة على توفير الأمن والعدل لهم في مواجهة الحكومة. ومن الملاحظ أن هذه النزاعات قد منحت الجهاديين الفرصة لتجنيد عدد كبير من الرعاة المستائين من سياسة الحكومة؛ خاصة موظفي حماية الغابات.
وتمثل مالي حالة نموذجية لتضافر مخاطر التغير المناخي وتعظيمها للتهديدات الإرهابية. تعاني البلاد من حالة عدم استقرار وانقلابات عسكرية كان آخرها في العام الماضـي؛ في الوقت الذي انتقلت فيه جماعات مثل جبهة تحرير أزواد، والقاعدة في المغرب الإسلامي وأنصار الدين والتوحيد والجهاد في غرب أفريقيا للعمل في شمالي مالي حيث تغيب الحكومة بشكل شبه كامل. استدعى هذا الوضع قيام الأمم المتحدة بنشر قوات لحفظ السلام، في الوقت الذي تحاول فيه مجموعة دول الساحل المعروفة بG5 التدخل لحفظ السلام، فيما تعمل القوات الفرنسية على مكافحة تأثير الجماعات سابقة الذكر، وتحجيم تأثيرها لئلا يمتد لبقية المنطقة. إلا أن الاحترار المتزايد الذي تتعرض له البلاد، وزحف الصحراء على الشمال، والحالة المضطربة لدلتا نهر النيجر تحول دون هذه الجهود.
تمثل الزراعة ٣٩٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمالي، وقد أدى تناقص هطول الأمطار إلى تهديد المزارعين والرعاة على السواء وتهديد آلاف الأسر بالجوع. وفقًا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم للسلام الدولي، فقد دفعت هذه الحالة بعض الأسر إلى الزج بأطفالها إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة سواء كانت متمردة أم إرهابية لتوفير مصادر دخل جديدة مع انهيار القطاع الزراعي. كسب عدد من القياديين الجهادين مثل أمادو كوفا قائدة كتيبة المدينة في وإبراهيم وجعفر ديكو زعيما أنصار الإسلام سمعتهم المحلية من خلال انتقاد السياسات الحكومية التـي عمدت تهميش وقمع مجتمعات المزارعين على حدود سهول السافانا.
خاتمة
على الرغم من استمرار الجدل الأكاديمي حول طبيعة تأثير التغير المناخي على الصراعات والعنف، بما في ذلك نشاطات الجماعات الإرهابية، إلا أنه من المؤكد أن هذا التأثير سيتضح بشكل أكبر في العقود القادمة؛ خاصة في حال فشل المجتمع الدولي والحكومات الوطنية في التصدي لمخاطر تغير المناخ. ومع ذلك، فمن الضروري التأكيد أن تداعيات التغير المناخي خاصة في حزام الفقر والعنف الممتد عبر الجنوب العالمي لا تتعاظم إلا من خلال فشل في إدارة الأطر السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما ينبغي إيلاء العناية الكافية إليه تجنبًا لتمدد حالات العنف المجتمعي والسياسـي والتصدي للأيديولوجيات المتطرفة التـي ترى في هذه الأزمات فرصًا لتعظيم مكاسبها وترسيخ وجودها.