في ربيع عام 1967، كانت سياسة الحكومة السورية تجاه حدودها مع العدو الإسرائيلي تتجه نحو الحرب؛ على الرغم من إدراكها لتفاوت القوة بين الجيشين، ومخاطر رد الفعل الإسرائيلي. وعلى الجانب الآخر، كان العدو الإسرائيلي قد فهم أن دمشق في طريقها إلى تطوير استراتيجيتها من مجرد رد الفعل على أفعاله العدوانية، إلى العمل العسكري شاملاً الاستخدام الواسع لسلاح الطيران. وفي الوقت الذي كان يكرر فيه جمال عبد الناصر أن الحرب مع إسرائيل لتحرير فلسطين لابد وأن يسبقها توحيد الجيوش العربية، كانت سوريا تتخذ موقفًا صداميًا؛ فقد صرح حافظ الأسد، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في سوريا، أنه من الضروري توجيه ضربة تأديبية لإسرائيل، ورأى أن الوقت قد حان لشن معركة التحرير.
ويبدو أن نبوءة حافظ الأسد قد تحققت؛ إذ اندلعت “حرب حزيران” في 5 يونيو عام 1967. وبعد أقل من أسبوع، فرضت الولايات المتحدة وقف إطلاق النار في 10 يونيو. انتهت جولة من الصراع العربي الإسرائيلي، واستولى جيش الدفاع الإسرائيلي على سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية بالإضافة إلى القدس الشرقية. وقد بدأ غزو هضبة الجولان في 9 يونيو، بدون قتال يذكر بين القوات الإسرائيلية والقوات السورية التـي سمعت بخبر هزيمتها قبل وقوع القتال. في أقل من أسبوع. غيرت إسرائيل الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، فيما أصبح على الدول العربية التعامل مع واقع الهزيمة.
في أغسطس من العام نفسه، التقى زعماء الدول العربية ليعلنوا “اللاءات الثلاثة: لا للتفاوض ولا للصلح ولا للاعتراف.” في قمة الخرطوم. على نحو جعل من المواجهة العسكرية أمرًا حتميًّا. في سبتمبر 1970، انتخب الرئيس أنور السادات خلفًا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وفي نوفمبر من العام عينه، قام حافظ الأسد بحركة تصحيحية، تولى على إثرها رئاسة سوريا، وكان لصعوده أثر إيجابي على استقرار بلاده منذ استقلالها عام 1946. ونتيجة لذلك الاستقرار، نجح الأسد في تعزيز المصالح السياسية لسوريا، وتحويلها إلى دولة إقليمية مؤثرة في الشرق الأوسط. وكان الصراع العربي-الإسرائيلي حاضرًا بقوة على الأجندة السياسية السورية.
الطريق إلى حرب تشرين
كانت استعادة الجولان على رأس أولويات الأسد الذي كان وزيرًا للدفاع عند سقوطه. ولهذا اتجه إلى تعزيز القدرة العسكرية السورية، وقد ازداد عدد الجيش من 70 ألف جندي إبان اندلاع حرب حزيران 1967 إلى 170 ألف جندي في 1973. كما زود الاتحاد السوفيتي الجيش السوري بمعدات حربية متطورة، مما حسّن من قدراته في أسلحة المدفعية والمدرعات والدفاع الجوي. وكان ثاني أهدافه هو الحرص على بناء علاقات التعاون مع الدول العربية، وخاصة مصر، وتوحيد الجبهة العربية التي ستمكنه من التصدي للعدو الإسرائيلي في ساحة المعركة التالية.
نشط التعاون بين مصر وسوريا، وخاصة بين عاميّ 1972 و1973، على الرغم من أن العلاقات الثنائية كان يشوبها أحيانا التوتر الذي كان نابعًا من فشل الاتحاد بين مصر وسوريا تحت راية الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 الذي انسحبت منه سوريا عام 1961، فضلاً عن اتهام بعض الأصوات المصرية للنخب العسكرية السورية الحاكمة بسوء التقدير الذي أدى إلى انفجار الصراع في حرب 1967. لكن صعود السادات والأسد عام 1970 إلى السلطة فتح عصرًا جديدًا بين البلدين. كان القائدان مصممين على تجاهل بقايا الماضي من أجل مصلحة بلديهما، وبدأ الكلام عن خوض حرب ضد إسرائيل، واتفقا على أن القيام بحملة عسكرية هي وسيلة لخلق عملية سياسية من شأنها استعادة الأراضي المحتلة من العدو الإسرائيلي منذ نكسة حزيران، كما أن تغيير موازيين القوى في المنطقة سيسمح بتبدل الحالة من الضعف والمهانة إلى الندية والمعاملة بالمثل.
كان الأسد أكثر تحمسًا من السادات الذي مشغولاً حينذاك بتنسيق اقتراح السلام الكامل الذي قدمه مفوض الأمم المتحدة جونار يارنج عام 1971، إلا أن هذه المبادرة فشلت لاعتراض كلٍ من إسرائيل والولايات المتحدة على شروطها. ومن ناحية أخرى، رفض الاتحاد السوفيتي تقديم المزيد من الدعم العسكري لمصر، مما دفع السادات إلى طرد المستشارين العسكريين السوفييت والعمل على تعزيز جيشه لتجديد المواجهات مع إسرائيل. من هنا، بدأت رغبتا الرئيسين المصري والسوري في التقاطع.
يقول السادات في مذكراته إنه التقى بالأسد في برج العرب قرب الإسكندرية في أبريل عام 1973م وأخبره بقراره دخول الحرب ضد إسرائيل، فرحب الأسد بالقرار خصوصًا بعدما حصلت سوريا من الاتحاد السوفيتي على أسلحة تستطيع بها مجابهة سلاح الطيران الإسرائيلي. وفي أغسطس لنفس العام، وقع قائدا القوات المسلحة المصرية والسورية، سعد الدين الشاذلي ويوسف شاكور، على ملف يحتوي على الاتفاقيات التي توصل لها الجانبان. على إثر هذا الاتفاق سافر وزير الدفاع السوري، مصطفى طلاس، وقائد القوات الجوية المصرية، حسني مبارك، إلى سوريا لإبلاغ الأسد بالاتفاقيات التي توصل إليها الجانبان، ومن المرجح أن يكون الموعد النهائي لدخول الحرب قد حُدد في هذا الاجتماع. كما نسق الملحق العسكري المصري في دمشق، محمد بسيوني، التعاون بين مصر وسوريا.
التحالف المصري-السوري على أرض المعركة
كان هدف سوريا واضحًا، وهو استعادة الأراضي السورية التي احتلها العدو الإسرائيلي عام 1967م. وذكر مصطفى طلاس، وزير الدفاع السوري، في مذكراته “مرآة حياتي”، خِطط السوريين للحرب على أساس تحرك عسكري واحد يصل إلى غرب نهر الأردن، ثم بناء جسر دفاعي لمنع إسرائيل من الهجوم المضاد الذي قد يدحر الجيش السوري من الأراضي التي ستستعيدها في هضبة الجولان.
لم تتفق سوريا ومصر على الخطط التكتيكية في الحرب، ولم تُناقشا أية تفاصيل أو استشارات ثنائية أو أهداف مشتركة بشأن الأهداف النهائية للحرب، أو حتى ما بعد الحرب. أبلغ الأسد السادات أن كل دولة لها كامل الحرية في تخطيط حملتها العسكرية بالطريقة التي تناسب جبهتها.
لكنّ الخلاف كان على الخطة المصرية القائمة على عبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف، ثم اتخاذ أوضاع دفاعية على بُعد 10 – 15 كيلومترات فقط شرق القناة، لأن حائط الصواريخ المصري لا يمكنه حماية القوات البرية لأطول من هذه المسافة. ومن ناحية أخرى، كانت الخطة السورية تعتمد على التقدم في عمق هضبة الجولان بهدف استعادتها. ولكي تتحقق الخطة السورية، كان لابد أن تستكمل القوات المصرية طريقها في عمق سيناء بعد العبور. يقول رئيس أركان الجيش المصري، سعد الدين الشاذلي، في مذكراته “حرب أكتوبر”، إن وزير الحربية المصري، أحمد إسماعيل، قدم خطة بديلة للسوريين، ووعد بالتقدم إلى عمق سيناء بهدف إقناع القيادة السورية بدخول الحرب.
في 6 أكتوبر 1973 الساعة الثانية ظهرًا، انطلقت الهجمات على الجبهتين السورية والمصرية. في اليومين الأوليين 6 و7 أكتوبر، حقق الجيش السوري انتصارات مبهرة وسريعة ومفاجئة، مخترقا الخط الدفاعي الإسرائيلي، المعروف بالخط البنفسجي، ومسيطرًا على أجزاء كبيرة من هضبة الجولان حتى وصل على بُعد عدة كيلومترات من ممرات نهر الأردن، واستولى على القاعدة العسكرية الإسرائيلية والمرصد في جبل الشيخ، كما صد سلاح الجو السوري الهجمات الجوية الإسرائيلية. هنا فاقت النجاحات تخطيطات السوريين. وتوقعت سوريا أن تقوم مصر بحملة عسكرية مماثلة، بموجب الاتفاق المسبق، أي الخطة التـي قدمها المشير إسماعيل؛ لتجنب خطر تركيز جيش الدفاع الإسرائيلي على الجبهة السورية. لكن الحملة العسكرية المصرية كانت محدودة.
من جهتها، فهمت إسرائيل أن الخطة الأساسية لمصر لن تتعدى هذه الكيلومترات، فوجهت تركيزها على مواجهة السوريين. إذ أن قرب الجبهة الشمالية من شمالي إسرائيل، في مقابل الصحراء الشاسعة التـي تفصل قناة السويس عن تل أبيب، تجعل التقدم السوري أكثر خطورة على “وجود” إسرائيل. وبالتالي، اتخذ الجيش الإسرائيلي قرارًا بتركيز الدفاع على الجبهة السورية بهدف تثبيتها، ثم الالتفاف لصد الجيش المصري.
مسار القتال في الجولان
برغم تقدم السوريين المبهر في أول يومين للحرب، إلا أنهم لم يعززوا تقدمهم بعبور نهر الأردن والتمركز في مواقع استراتيجية في المرتفعات الغربية للجولان. ويُرجح ذلك إلى عدة أسباب، أول هذه الأسباب ترجيح القتال العنيف مع الجيش المنسحب مما عطل تقدم القوات السورية. السبب الثاني قد يعود إلى عدم التخطيط الاستراتيجي من قبل هيئة الأركان لمثل هذا التقدم السريع، غير المتوقع، وصعوبة تعديل الخطة بشكل فجائي. أما السبب الثالث، فقد يرجع إلى توقع السوريين وجود كمين في الأراضي التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي.
في اليومين التاليين 8 و9 أكتوبر، وصلت قوات الاحتياط الإسرائيلية، وتمكنت من صد الهجوم السوري، ونجحت في إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بداية الحرب؛ فقد زُحزح الجيش السوري من جنوب هضبة الجولان، وتمركز الجيش الإسرائيلي في أماكنه السابقة، استعدادا لهجوم مضاد لدحر السوريين داخل الأراضي السورية وحتى الوصول برًا إلى دمشق. لم يكن الوصول إلى دمشق هدفًا دامغًا بالنسبة لإسرائيل، إذ لم تُخَصص قوات كافية لتنفيذ تلك المهمة، كما أنه لم يكن سهلاً بسبب شراسة مقاومة الجيش السوري ووصول قوات التدخل السريع العراقية للمؤازرة، فضلاً عن القوات المساندة من المغرب والسعودية والأردن وغيرها. إلا أن جيش الدفاع الإسرائيلي اخترق خط الدفاع الأول في هضبة الجولان، ووصل على بُعد 40 كيلومتر من العاصمة دمشق، وقصفت المدفعية الإسرائيلية ضواحي دمشق، بهدف الضغط على القيادة السورية لوقف إطلاق النار، بينما نجح الجيش السوري في صد الجهود الإسرائيلية لاختراق دمشق.
في يوم 16 أكتوبر، تفاجأ الأسد بطلب السادات تدخل الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، لإنهاء الحرب، ولتسوية الصراع العربي الإسرائيلي. وكان مبرر السادات أنه لم يعد يحارب إسرائيل وحدها، بل أيضا الولايات المتحدة بسبب الأسلحة التي زودت بها إسرائيل. لم يقتنع الأسد بمبرر السادات، ورأى أنه من الأفضل الاستمرار في القتال وتكثيفه، لأن الوضع العسكري على ضفتي القناة يدعو للتفاؤل. لكن تفاؤل الأسد لم يكن كافيا لتراجع السادات.
في يوم 20 أكتوبر، قابل وزير الخارجية الأمريكي، هينري كيسينجر، السوفييت لترتيب وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 22 أكتوبر. لم يقبل الأسد وقف إطلاق النار، واعترض على عدم تبليغ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي له بهذه الاتفاقية، كما شكك في نية السادات باستعادة أراضيه.
لكن الاختلافات السورية المصرية حول وقف إطلاق النار بدأت في الظهور مع بداية الحرب، فقد أبلغ السفير السوفييتي في القاهرة السادات رغبة الأسد في وقف إطلاق النار بوساطة سوفييتية مع نهاية اليوم الأول من المعركة بعد تحقيق سوريا لمكاسب مذهلة، لكن السادات رفض ذلك، لأن انتصارات الجيش المصري كانت لا تزال محدودة. طلب السادات من الأسد توضيح الأمر، فأنكر تمامًا. لكن السفير السوفييتي تواصل مرة ثانية مع السادات، فرجح الأخير أن يكون نفي الأسد كاذبا.
برر الأسد تلك الحادثة أنها مجرد سوء تفاهم. إذ كان الأسد مسؤولاً عن إبلاغ الاتحاد السوفييتي نية العرب دخول الحرب مع إسرائيل؛ بسبب توتر العلاقات بين موسكو والقاهرة. وفي رسالة الأسد للسوفييت، طلب تدخل الاتحاد السوفييتي لوقف إطلاق النار عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في حالة استعادة الدولتين لأراضيهما في ساحة المعركة. وبالتالي، بمجرد استقبال أخبار استعادة السوريين أراضيهم، قرر السوفييت المبادرة بطلب وقف إطلاق النار بمفردهم دون الرجوع للسوريين. لكن السادات لم يرض ذلك التفسير، واتهم سوريا بعدم الاكتراث لمصالح مصر.
من النكسة إلى الانتكاسة
على عكس الجانب المصري الذي عقد اتفاقية وقف إطلاق النار في 12 نوفمبر 1973، كان الجانب السوري مستمرا في الحرب حتى 31 مايو 1974 عندما وقع على اتفاقية فض اشتباك القوات. وإذا كان الجانب المصري استخدم الحرب كوسيلة لاستعادة أراضيه، لم ينجح الجانب السوري في استخدام الحرب في ذلك.
خرجت سوريا من حرب تشرين التحريرية وهي مقتنعة أنها وقعت ضحية حليفها المصري الذي اتفق مع الولايات المتحدة دون علمها ودون اعتبار لمصالحها. في منتصف السبعينات، اتجهت سوريا إلى تكوين جبهة مع لبنان والأردن ضد إسرائيل، وبعد توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، التي فهمها سوريا أنها جاءت على حساب مصالحها، بدأت في تكوين جبهة مع العراق ترفض السلام مع إسرائيل. لكن جهود الأسد لم تثمر، فقد تأزمت علاقاته مع الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتوترت علاقته بحزب البعث في العراق، كما أن الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت عام 1980 تسببت في خسارة الأسد دعم الجيش العراقي الذي كان يعتبره الأسد حليفا استراتيجيا إن تجددت المواجهة ضد إسرائيل، بسبب تحالف سوريا مع إيران أثناء تلك الحرب.
زيارة السادات للقدس في نوفمبر عام 1977 أضافت مبررا آخر يدعم وجهة النظر السورية في أن مصر هي السبب في انتكاسة حرب تشرين التحريرية، برغم روايات الجرأة والبسالة والانتصارات العسكرية.
لا يمكن حصر أسباب انتكاسة حرب تشرين على الجبهة السورية في ضعف التنسيق بين الجبهتين السورية والمصرية، فقد اتفق الطرفان قبيل الحرب على حرية التخطيط في ظل تطورات المعارك، كما لا يمكن اتهام جبهة على حساب الأخرى بالعمل لمصالحها فقط. وقد أدى عدم وضوح الأهداف المشتركة والخاصة من الحرب إلى تشويش الجبهتين. وفي حين لا يمكننا التشكيك في بسالة القوات السورية وأسبابها في الإحجام عن التقدم إلى عمق هضبة الجولان لاتخاذ مواقع دفاعية أفضل تمكنها من الحفاظ على المكتسبات التي حصدتها في اليومين الأولين. إلا أنه من المؤكد أن هذه الأسباب، وغيرها من الأسباب المجهولة حتى يومنا هذا، جعلت إمكانية استعادة الجولان المحتل خلال حرب تشرين التحريرية مهمة مستحيلة.