لا تدر مبيعات الأسلحة والتكنولوجيا المرتبطة بها مجرد أرباح مادية، بل تساهم في بناء تحالفات بين الدول المتعاقدة، وكثيرًا ما كانت مصادر التسلح أكبر مؤشر على التحالف بين الدول. تدور دبلوماسية السلاح أو الدبلوماسية العسكرية حول هذا المعنـى حيث تتجه الدول إلى تحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية من تصدير الأسلحة والتكنولوجيا المتطورة وعمليات التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
تعتبر هذه الدبلوماسية هي أداة إسرائيل الأقوى في بناء علاقات قوية مع كثير من القوى الدولية خاصة الناشئة والصاعدة، وتلك التـي تبعد عن نطاق تأثيرها المباشر في الشرق الأوسط؛ أي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. بل إن جزءًا أساسيًّا من تحالف إسرائيل مع القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة أصبح قائمًا على الإفادة من التكنولوجيا المتطورة التـي تتفوق فيها إسرائيل، فضلاً عن العوامل الثقافية والتعقيدات التاريخية الأخرى. وعلى الرغم من نجاح السلاح الإسرائيلي في تحقيق إنجازات دبلوماسية لإسرائيل مع العديد من القوى الدولية، إلا أنه لم يكن الأداة الأنجح في حالات أخرى كثيرة.
تطور صناعات الدفاع الإسرائيلية والتصدير الضروري
كانت حرب أكتوبر ١٩٧٣ نقطة تحول رئيسة في تطور صناعة الأسلحة الإسرائيلية. أدركت تل أبيب بعد الحرب، التـي كانت أكبر كارثة قومية تتعرض لها إسرائيل منذ نشأتها، استحالة الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة أو غيرها في تأمين بقائها، وأن عليها بناء ترسانة من الأسلحة المتطورة التـي تضمن تفوقها النوعي على جيرانها من العرب الذين يتفقون عليها في القوة البشرية. وبالتالي أصبح الابتكار والاعتماد على الذات ضرورة للبقاء. بدأت إسرائيل منذ منتصف السبعينيات تطوير نظم تسليحها الخاصة، فطورت طائرة الكافير بناء على الميراج الفرنسية، بعد سرقة أسرارها من عميل سويسري، وظهرت للمرة الأولى دبابة الميركافا، وصواريخ غابريال البحرية، وبنادق العوزي.
الأهم من هذا إطلاق جيش الدفاع لبرنامج “تالبيوت” عام ١٩٧٩، والذي يستهدف انتقاء أهم العقول الإسرائيلية في مجال الرياضيات وعلوم الفيزياء والفضاء وتجنيدها لتطوير التكنولوجيا اللازمة للصناعات العسكرية في قطاعات الطيران والمدفعية والمشاة والاستخبارات. تأسس البرنامج الذي حظي بالسرية لسنوات طويلة على يد شاؤول ياتسيف وفيليكس دوثان الأستاذين بالجامعة العبرية بالقدس، بعد أن نالا موافقة من رئيس الأركان رافايل إيتان. وما زالت الجامعة العبرية تستضيف البرنامج، ويحظى برعاية مباشرة من سلاح الجو الإسرائيلي.
أدى هذا إلى إحداث ثورة في صناعة الأسلحة الإسرائيلية؛ وشهد العقد التالي صعود العديد من الشركات الناشئة المرتبطة بمجال الدفاع. وتنفذ هذه الشركات الصغيرة تعاقدات مع ثلاثة شركات كبرى؛ هي شركة صناعات الطيران والفضاء الإسرائيلية IAI، المؤسسة في ١٩٥٣ والمملوكة للدولة، وشركة نظم ألبيت، وهي شركة دولية مقرها إسرائيل تم تأسيسها في ١٩٦٦، ومتخصصة في نظم الدفاع الإلكترونية، ورافايل لنظم الدفاع المتقدمة، التـي تم تأسيسها كفرع للبحث والتطوير في ١٩٤٨، إلى أن تحولت لشركة مساهمة في ٢٠٠٢.
لا يعد جيش الدفاع الإسرائيلي هو الزبون الأول لدى هذه الشركات، فهو في النهاية جيش صغير، وفيما عدا استراتيجية الردع التـي يمتلكها، فعملياته محدودة. لذا تنشط إسرائيل في تصدير الأسلحة المتطورة، حتـى تبقى خطوط الإنتاج مستمرة وتظل أسعار السلاح منخفضة لجيش الدفاع. وعلى العكس من الشركات الكبرى في هذا المجال مثل لوكهيد مارتن التـي تصدر ٢٠٪ من إنتاجها للخارج، تصدر شركة صناعات الطيران الإسرائيلية IAI حوالي ٧٤٪ من إنتاجها، وهي نسب مرتفعة للغاية.
وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم للسلام الدولي SIPRI عن تجارة الأسلحة العالمية في الفترة ٢٠١٥-٢٠١٩، تحتل إسرائيل الدولة ذات الثمانية ملايين نسمة المرتبة الثامنة في العالم من حيث تصدير السلاح، حيث ساهمت ب٣٪ من مجمل صادرات الأسلحة العالمية، بزيادة تقدر ٧٧ عن الفترة ٢٠١٠-٢٠١٤. وكان حجم صادرات الأسلحة الإسرائيلية هو الأعلى في تاريخها. وتعد الهند أكبر مستوردي السلاح من إسرائيل بنسبة ٤٥٪، تليها أذربيجان بنسبة ١٧٪ ثم فييتنام بنسبة ٨.٥٪. ولا يعنـي هذا أن إسرائيل قد وصلت لدرجة الاكتفاء من التسلح، فهي ما زالت تستورد تكنولوجيات دفاعية معينة من الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا. ومع ذلك، تبقى إسرائيل هي الأولى في العالم من حيث نسبة تصدير السلاح بالنسبة للناتج القومي، وأن الفترة الأخيرة قد شهدت طفرة في تصدير إسرائيل لنظم المراقبة الإلكترونية والتحكم عن بعد، وشاركت بتوسع في تدريب أجهزة الشرطة، وتوفير تكتيكات قمع التمرد.
على العكس من أية دولة أخرى، تحول السلاح الإسرائيلي من مجرد أداة للدفاع الذاتي لآلية ضرورية لتحقيق مكاسب دبلوماسية، وأداة للضغط وربما لتعديل مواقف القوى الدولية، والأهم من هذا تحقيق استراتيجية الالتفاف حول الجوار العربي المعادي. وإلى حد بعيد نجحت هذه الاستراتيجية في استمالة قوى دولية، كانت ناقدة فيما سبق لإسرائيل؛ على رأسها الصين والهند وروسيا.
الصين وإسرائيل والموازنة مع الداعم الأمريكي
أعلنت كلا من بيجين وتل أبيب إقامة علاقات دبلوماسية كاملة في ١٩٩٢، كان هذا منطقيًّا بعد انعقاد مؤتمر مدريد ثم تطبيع العلاقات الأردنية الإسرائيلية، وانخراط منظمة التحرير في مفاوضات أوسلو، فلم يكن ضروريّا للصين أن تتخذ موقفًا معاديًا لإسرائيل. في الواقع، كان هذا القرار نتاج سنوات سابقة من التعاون الإسرائيلي الصيني السري لسنوات طويلة ارتكز على المجال العسكري.
كانت بداية العلاقة في فبراير ١٩٧٩ عندما حطت مجموعة من مسؤولي الدفاع الإسرائيليين أقدامها في بيجين للمرة الأولى. وذلك في زيارة سرية تكتم عليها الطرفان خوفًا من تسرب أخبارها إلى الولايات المتحدة. كانت هذه العلاقات مفيدة للطرفين. فالصين تحت قيادة دينغ شياوبينغ كانت منخرطة في إصلاحات لمرحلة ما بعد ماو والثورة الثقافية. أما بالنسبة لإسرائيل، فقد أدى سقوط الشاه في إيران إلى البحث عن سوق جديدة للسلاح الإسرائيلي. كان مفتاح السر في هذه العلاقة رجل الأعمال اليهودي شاؤول إيزنبرغ أحد الناجين من الهولوكوست والفارين إلى شرق آسيا حيث تمكن من بناء إمبراطورية مالية مقرها شانغهاي.
تعرف إيزنبرغ، والذي كان على معرفة بمختلف أنواع الأسلحة الإسرائيلية التـي ساهم في عقد صفقاتها في بلدان أخرى في شرقي آسيا، على احتياجات الحكومة الصينية، وعرض على حكومة تل أبيب قائمة من الصواريخ والرادارات والمدافع والمدرعات. حازت القائمة على موافقة رئيس الوزراء مناحيم بيغين ووزير الدفاع عزرا وايزمان. إلا أن التفاوض للتوصل إلى اتفاق استغرق عامين، لأسباب ثقافية وتنظيمية، حتـى وصلت أول شحنة من قذائف الدبابات في ١٩٨١.
فتحت هذه الصفقة الباب أمام تل أبيب لإقامة علاقات أعمق مع القطاعات المدنية في الصين، خاصة قطاع الزراعة. وافقت الصين علنيًّا في ١٩٨٥ على إصدار تأشيرات لخبراء الزراعة الإسرائيليين، كما سمحت بإعادة فتح القنصلية الإسرائيلية في هونج كونج. ومع إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في ١٩٩٢، تضاعف حجم التجارة بين الطرفين من ١٠٠ مليون دولار إلى ٨ مليار دولار خلال العقدين التاليين.
إلا أن هذه العلاقات العسكرية جوبهت بانتقادات واسعة من قبل واشنطن التـي خشيت من امتلاك الصين لتكنولوجيا عسكرية أمريكية من خلال الأسلحة الإسرائيلية. عبرت حادثتا الفالكون والهاربي عن حدود قدرة إسرائيل عن الإفادة من قدراتها العسكرية إزاء الصين. اتفقت بيچين وتل أبيب في ١٩٩٩ على توريد الأخيرة لنظام فالكون للتحكم والإنذار المبكر المحمول جوًا AEWC&C Phalcon. وهو نظام متقدم قامت بتطويره شركة إيلتا المتعاقدة مع شركة صناعة الطيران التابعة للحكومة الإسرائيلية، قادر على استهداف العشرات من الأهداف في وقت واحد حيث يتكون من أجهزة رادار واستخبارات إلكترونية متعددة. بلغ حجم الصفقة ٢ مليار دولار، وهي الصفقة الأكبر في تاريخ إسرائيل، وكان جزءًا من الاتفاق نقل النظام على أجزاء على متن طائرات إلوشين الروسية المتخصصة في نقل الطائرات العسكرية.
سابقًا توصلت إسرائيل إلى اتفاق مع واشنطن يتضمن السماح لإسرائيل بيع الأسلحة للصين ما لم تتضمن تكنولوجيا أمريكية. إلا أن الغضب قد تملك واشنطن ما إن علمت بالصفقة الضخمة. ولم تنجح حملة اللوبي الإسرائيلي في إقناع الكونغرس بالضغط على البيت الأبيض للموافقة على صفقة الفالكون. بل إن أكبر مؤيدي إسرائيل دعا البيت الأبيض لقطع مبالغ من المعونة الأمريكية لإسرائيل (٢٥٠ مليون دولار ما يعادل ما دفعت الصين مبدئيًا لإتمام الصفقة.) وأدانت وزارة الدفاع في حكومة كلينتون الصفقة علنًا. إزاء هذا الضغط وجدت حكومة باراك نفسها مضطرة لإلغاء الصفقة من طرف واحد، ودفعت ٣٥٠ مليون دولار كشرط جزائي لبيچين بالإضافة إلى ما دفعت الأخيرة مسبقًا.
في منتصف التسعينيات، حصلت الصين على طائرات إسرائيلية بدون طيار من طراز هاربي HARPY. واتفق الطرفان على قيام إسرائيل بصيانة دورية للطائرات. إلا أن الأمور دخلت في منحنى خطير في ٢٠٠٥ عندما اكتشفت واشنطن الصيانة الدورية تتضمن رفع الأداء من خلال تكنولوجيا أمريكية. وفقًا لمسؤولين سابقين في وزارة الدفاع الأمريكية، كانت هذه الحادثة أو “الخداع الإسرائيلي” كفيلاً بتدمير العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. وكأداة للضغط على تل أبيب للانسحاب من اتفاق الهاربي، علقت واشنطن تعاونها مع تل أبيب في تطوير الطائرة إف-٣٥ الهجومية. مرة أخرى رضخت إسرائيل للضغط الأمريكي، وتضررت العلاقات العسكرية الصينية الإسرائيلية بشكل كبير. كمحاولة لترضية واشنطن، أصدرت إسرائيل قانون التحكم في الصادرات في ٢٠٠٧، لوضع قيود على الصادرات العسكرية الإسرائيلية التـي تتضمن تكنولوجيا مزدوجة، ولإنشاء آلية للتشاور مع وزارة الدفاع الأمريكية حول الصادرات المقبلة.
أضرت هاتان الحادثتان بالعلاقات العسكرية الصينية الإسرائيلية، وإن ظلت مستمرة بوتيرة منخفضة، وفي إطار الفيتو الأمريكي. إلا أن دبلوماسية السلاح كانت مفتاح دخول إسرائيل للصين وبناء علاقات اقتصادية وسياسية قوية من المحتمل أن تتطور لعلاقات عسكرية أقوى في حال تضاؤل الضغط الأمريكي على تل أبيب وزيادة مساحة الدور الأمنـي والعسكري للصين في المنطقة.
السلاح يبني التحالف الإسرائيلي الهندي
كما العلاقات مع الصين، بدأت العلاقات بين الهند وإسرائيل قبل سنوات طويلة من إعلان العلاقات بين البلدين في ١٩٩٢. كذلك، كان التعاون العسكري هو مفتاح تلك العلاقات. في السبعينيات والثمانينات، وعلى خلفية الصراع في كشمير وباكستان، تردد الضباط ومسؤولو الدفاع الهنود على تل أبيب للإفادة من الخبرة الإسرائيلية في “قمع التمرد الأهلي” و”الاستخبارات الإلكترونية” وكلاهما تخصص إسرائيلي. وفي ١٩٩٠، التقى دافيد إيفري المدير العام لوزارة الدفاع برئيس الوزراء الهندي نارسيمها راو في نيودلهي لبحث تطوير العلاقات العسكرية، وتوضيح منهج إسرائيل في الدبلوماسية العسكرية. وكانت رسالة إسحاق رابين لراو عبر إيفري أن “الدول الكبرى تضع مشروطيات على صفقات السلاح، أما إسرائيل فهي دولة صغيرة ولا تلحق صفقاتها بشروط.”
اتفق الطرفان على صفقة أسلحة وصلت قيمتها ٢ مليار دولار، ليصل حجم الصفقات بين الطرفين في ٢٠١٤ ل١٠ مليار دولار، على نحو جعل إسرائيل ثالث أكبر مورد للسلاح للهند بعد روسيا والولايات المتحدة. وشهدت هذه العلاقات طفرة مع تولي نارندرا مودي رئاسة الوزراء، واتجاه الهند إلى تبنـي سياسة أكثر عدائية تجاه جوارها، وفي الداخل. يلاحظ مراقبون تصاعد العلاقات الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية الهندية مع المناوشات الأخيرة بين نيودلهي وبيچين في هضبة التبت في ٢٠١٩، وتصاعد التوتر الهندي الباكستاني حول كشمير مع إلغاء وضعية حكمها الذاتي في العام نفسه.
تعتمد الهند حاليًا في تنفيذ استراتيجيتها العسكرية تجاه خصميها الشماليين على معدات عسكرية إسرائيلية خاصة تلك الواردة في صفقة ٢٠١٧ مع شركة رافايل. وتتمثل هذه المعدات في صواريخ سبايك المضادة للدبابات، وصواريخ باراك أرض- جو وقذائف سبايس الموجهة. من ناحية أخرى، شهد عام ٢٠١٨، توقيع الطرفين على مذكرة تفاهم حول التعاون في مجال الأمن السيبراني، وتنظر إسرائيل للهند باعتبارها سوقًا هامًا وواسعة لنظم المراقبة الإلكترونية.
بمعدل ثابت، تشتري الهند من إسرائيل أسلحة بما يقارب مليار دولار سنويًّا. وعلى الأرجح، سيشهد معدل التعاون تصاعدًا مع احتدام الصراع الجيوستراتيجي في جنوب آسيا بين الصين وباكستان والهند. بالنسبة لتل أبيب، فإن هذة المليارات أقل بكثير من نجاحها في تعديل سلوك الهند الدبلوماسي من سياسة عدم الانحياز ودعم القضايا العربية إلى التحالف العلنـي مع إسرائيل في مواجهة “القوى الإسلامية.” وربما كان المؤشر الأقوى على هذا امتناع الهند عن التصويت على ثلاثة قرارات مدينة لسياسة الاستيطان الإسرائيلية في الأمم المتحدة في ٢٠١٥.
العلاقات الروسية الإسرائيلية: حدود الضغط من خلال السلاح
على مدار عقود من الصراع العربي الإسرائيلي كانت روسيا، وما زالت، هي المورد الأساسـي للسلاح لكل أعداء إسرائيل، إيران وسوريا وحزب الله، ومن قبلهم مصر، قبل التحول نحو الغرب في منتصف السبعينيات. كانت هذه هي الفكرة المسيطرة على صناع القرار في وزارة الدفاع الإسرائيلية في حكومة أولمرت في ٢٠٠٨، عندما طلبت موسكو عقد صفقة بمليار دولار لشراء طائرات بدون طيار إسرائيلية. كان العائق الأساسـي أمام هذه الصفقة هو خشية وقوع هذه التقنية في يد خصوم إسرائيل؛ خاصة أن ذكرى حرب صيف ٢٠٠٦ كانت ماثلة في الأذهان، وفيها برع مقاتلو حزب الله في تدمير الميركافا الإسرائيلية بصواريخ روسية مضادة للدبابات.
ظهرت حاجة روسيا للطائرات الإسرائيلية بدون طيار في حربها القصيرة مع جورجيا في ٢٠٠٨ حول مقاطعتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. اتضح في الحرب التـي انتهت بانتصار روسـي حاسم أن موسكو في حاجة إلى تجديد نظم الاستطلاع؛ فقد كانت عمليات الاستطلاع الجورجية بدون طيار أسرع وأشمل، فيما كانت نظيراتها الروسية أبطأ ولا توفر معلومات استخباراتية فورية؛ مما اضطر الجيش الروسـي إلى إرسال قاذفات بعيدة المدى للقيام بعمليات الاستطلاع. لم تكن الطائرات الجورجية سوى طائرات هرمس ٤٥٠ التـي صنعتها شركة ألبيت الإسرائيلية. وهو رأت موسكو ضرورة الحصول عليه.
أثارت الصفقة انقسامًا بين وزارة الخارجية بقيادة أفيغدور ليبرمان ووزارة الدفاع بقياد إيهود باراك. ففيما رأت الأولى ضرورة استخدام الصفقة لممارسة الضغط على موسكو تجاه أي سلاح روسـي سيتم تصديره لإيران أو سوريا، رأت الأخيرة ضرورة التريث مخافة تسرب التكنولوجية الإسرائيلية لحزب الله أو حماس من خلال روسيا. وبعد نقاش قصير، رأت تل أبيب إبلاغ موسكو بالموافقة على الصفقة شريطة إلغاء صفقة نظام الإس-٣٠٠ مع إيران. كانت طهران وموسكو قد اتفقتا على هذه الصفقة في ٢٠٠٥، إلا أن موسكو أجلت إيصال هذا النظام الدفاعي المتطور تحت ضغط أمريكي وإسرائيلي وربطته بمدى التقدم في مفاوضات الملف النووي الإيراني. ومع طلب روسيا للطائرات الإسرائيلية، رأت تل أبيب إمكانية الضغط على موسكو لإلغاء الصفقة نهائيًّا.
كان رد روسيا على هذه المحاولات الإسرائيلية هو أن نظام الإس-٣٠٠ دفاعي، وإذا كانت إسرائيل تخشـى امتلاك إيران له، فعليها ألا تفكر في مهاجمتها. في النهاية، سلمت إسرائيل لروسيا طائرات “سيرشر” وهي طراز أقل من الطائرات المطلوبة. وظلت إسرائيل تحاول الضغط لعدم إتمام الصفقة الإيرانية الروسية خاصة مع وجود تقارير تشير إلى سماح موسكو للقوات الإيرانية بالتدرب على النظام داخل روسيا. ومع إبرام الاتفاق النووي الإيراني في ٢٠١٥ الذي يتضمن روسيا كطرف فيه سلمت روسيا إيران نظام الإس-٣٠٠. الأنكى من هذا أنها استغلت إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية في شمال سوريا في نوفمبر من العام نفسه، وقامت بنشر نظام الإس-٤٠٠ داخل سوريا بجوار إسرائيل، وهو ما ساهم في تحسين الدفاعات الجوية السورية تجاه الخروقات الإسرائيلية المستمرة.
كانت هذه المناورة الروسية إجهاضًا لمحاولات إسرائيل استغلال سلاحها للضغط على القوى الدولية، خاصة في سياق منطقة مركبة ومعقدة مثل الشرق الأوسط، وتأكيد لحدود دور “دبلوماسية السلاح” في المنطقة. ومع ذلك، ما زالت الطرفان الروسي والإسرائيلي حريصين على التعاون والتنسيق خاصة حول سوريا.
تكشف دبلوماسية السلاح الإسرائيلية عن حقائق عديدة، أهمها قوة السلاح في فتح ممرات للنفوذ الإسرائيلي حول العالم. وما استعرضناه هنا كان قاصرًا فقط على القوى الدولية الصاعدة التـي أصبحت ترى في إسرائيل القوة المركزية الرئيسة في المنطقة، بفضل استثمارها في تكنولوجيا السلاح منذ أمد بعيد، وهي ميزة ما زالت الدول العربية تفتقدها. ومع ذلك فهذه الدبلوماسية محدودة التأثير كما رأينا في حالة الصين بسبب طبيعة العلاقة العضوية بين إسرائيل والولايات المتحدة، وفي حالة روسيا بسبب تعقد أوراق وحسابات الشرق الأوسط.