عند الحديث عن مستقبل البنية الأمنية للشرق الأوسط، ودور القوى الصاعدة فيها خاصة روسيا والصين، غالبًا ما يسود الافتراض أن هذه القوى الصاعدة ستحل محل الدور الأمريكي المهيمن على المنطقة منذ عقود، وأن تزايد دور هذه القوى في رسم سياسات المنطقة إنما هو نتيجة مباشرة لتراجع دور الولايات المتحدة، وتخليها عن واجبات الهيمنة.
لا يجانب هذه الافتراضات الصواب من نواحِ عديدة، إلا أنها تفترض حتمية استمرار هيمنة القوى الخارجية على إعادة تشكيل النظام الأمنـي. وبالتالي لا تقدم سيناريوهات متماسكة للمسارات المتوقعة التـي قد يتخذها أمن الشرق الأوسط في عصر ما بعد الهيمنة الأمريكية الذي بدأ فعليًّا منذ عقود.
وينصب تركيز هذا المقال على السيناريوهات المحتملة لدور الصين في أمن الشرق الأوسط في ظل الاتجاهات المتشكلة حاليًا، والمتمثلة في سيولة النظام الدولي، وتراجع القوة الأمريكية، وتفكك بنية الشرق الأوسط بالفعل الاستقطاب والصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية، وتزايد الأهمية الاقتصادية للمنطقة بالنسبة لبيچين، وتزايد المخاطر الأمنية على طموحاتها الاقتصادية في المنطقة والتـي قد تستدعي ضرورة الانتقال من سياسة “المراقب” إلى “الفاعل الأمنـي”.
ما هي طبيعة البنية الأمنية الحالية للمنطقة؟
قد تكون نقطة البداية في التفكير في مستقبل الدور الصينـي في المنطقة، هو تحديد طبيعة الدور الحالي للولايات المتحدة خاصة منذ نهاية الحرب الباردة. كان العقد الطويل الممتد بين اندلاع أزمة الخليج في ١٩٩٠ حتـى غزو الولايات المتحدة المباشر للعراق في ٢٠٠٣ هو التجلي الأكبر للهيمنة الأمريكية على المنطقة والتـي تمثلت في التأكيد على دورها على الضامن لأمن المنطقة خاصة حلفائها في الخليج، وقدرتها على ضبط توازن القوى بين بلدان المنطقة بالمفهوم الكلاسيكي من خلال المعاقبة المباشرة للدول المارقة، وهو العراق في تلك الأثناء، وكذلك التدخل السياسـي والدبلوماسـي المباشر لإدارة النزاعات، وهو ما تجلى في مسارات السلام المنبثقة عن مؤتمر مدريد في ١٩٩١، وهيمنة الوساطة الأمريكية على عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية. وعزز هذه الهيمنة التأثير الواسع لنموذج الليبرالية الأمريكية في مقابل تأزم القومية العربية.
وربما كان سعي واشنطن لتأكيد “الهيمنة” في أعقاب هجمات ١١/٩ بغزو أفغانستان والعراق، والإمعان في فرض “السلام الديمقراطي” بالقوة على المنطقة بداية التراجع الحقيقي لتلك الهيمنة، خاصة مع التردي الذي أصاب النموذج، وزيادة تكلفة التواجد والاحتلال المباشر للمنطقة الذي انتهي عهده منذ عقود، وفشل واشنطن في إدارة التحول المحسوب، على نحو أفضـى إلى “فوضـى أمنية” وبروز دور القوى المناوئة لواشنطن وعلى رأسها إيران وشبكة تحالفاتها، وروسيا.
وفي الوقت الذى شهدت فيه الدوائر الأمريكية جدلاً حول جدوى التواجد في المنطقة، أخدت واشنطن خاصة في عهد إدارة أوباما وإدارة ترامب الحالية في إعادة تعريف دورها في المنطقة على نحو واقعي يقوم على “الارتباط الأمنـي” دون السعي للتأكيد على الهيمنة.
اتضحت هذه الاستراتيجية في إحجام واشنطن عن التدخل العسكري المباشر، كما حدث سابقًا في العراق، وفي ليبيا بدرجة أقل؛ وفي تركيز مواجهتها على مواجهة المخاطر الأمنية المباشرة التـي مثلتها تنظيمات مثل “الدولة الإسلامية” من خلال تحالف إقليمي ودولي واسع ومحدود. والتصدي للنفوذ الإيراني من خلال التفاوض الدبلوماسـي حول الملف النووي أو سياسة “الضغط الأقصـى” التـي تمارسها حاليًا إدارة ترامب.
ولعلاج عقدة “الركوب المجاني”، أدركت واشنطن ضرورة منح الوكلاء والحلفاء في المنطقة مساحة أوسع لحماية أنفسهم، ولكن دون محاولة ضبط إيقاع التصادم بين مصالح كل منهم؛ على النحو الذي تنبأ به الأزمة الخليجية- القطرية. وفي هذا السياق، يبرز النقاش حول الدور الصينـي في المنطقة.
كيف ترى الصين أمن الشرق الأوسط؟
لعقود، ومنذ إنشاء جمهورية الصين الشعبية، كان ارتباط بيچين مبنيًّا على التضامن مع قضايا العالم الثالث، ودعم حركات التحرر في مواجهة بقايا الاستعمار الغربي، وسياسات التدخل. ومع ذلك، بقي الدور الصينـي اقتصاديًا وسياسيًّا محدودًا للغاية. ومع بدء التحول داخل الصين في إطار المشروع الإصلاحي لدينغ زياو بينغ، والذي ارتكز على إحداث ثورة اقتصادية، بدأت بيچين في التعامل مع المنطقة من منظور اقتصادي باعتبارها أولاً مصدر الطاقة اللازمة لاستمرارية التصنيع، وثانيًا معبر التجارة الصينية إلى أوروبا. في الوقت نفسه، أخذت الصين في التأكيد على دورها الحيادي تجاه كافة دول المنطقة المتنازعة. وبعد عقود من دعم النضال المسلح للفلسطينيين، أعادت فتح سفارتها في إسرائيل في ١٩٩٢.
لا زالت علاقة الصين بالشرق الأوسط ترتكز حول الطاقة، ومن ثمن فركيزة هذه العلاقة هي العلاقات الصينية الخليجية، نظرًا لدور بلدان الخليج البارز في أسواق الطاقة. واستطاعت الصين أن تصبح الشريك التجاري الأكبر لمعظم بلدان المنطقة، ومن أكبر المستثمرين حيث تضخ في الأسواق الشرق الأوسطية حوالي ١٧٧ مليار دولار، من بينها ٧٠ مليار دولار في قطاعات تترواح بين الطاقة والبنية التحتية والتطوير العقاري. ولا تخفي الصين أن اهتمامها الأول بالمنطقة ينصب على الاقتصاد، كما يتضح في “ورقة السياسة العربية” الصادرة في ٢٠١٦، والوثائق التالية حول مبادرة “الحزام والطريق”.
وسياسيًّا، وبسبب خبرة الصين السلبية مع التدخل الغربي الذي تسبب في إخضاعها وفتح أسواقها بالقوة وتجزئتها، فإن الصين تؤكد على رفضها للتدخل الغربي في شؤون الشرق الأوسط. وترى أن هذه السياسات التدخلية أدت إلى فوضـى أمنية. كذلك وبسبب منظورها الاقتصادي، فالصين ترى ضرورة الحياد في التعاطي مع كافة دول المنطقة المتصارعة. ت
كذلك تتصور الصين ضرورة وجود نظام متعدد القطبية في العالم، وكذلك في الشرق الأوسط، وأن يرتكز بناء الاستقرار في المنطقة على أساس “السلام من خلال التنمية” والذي يقوم على أربعة أسس هي (أ) أولوية التنمية التـي تقودها الدولة، (ب) أولوية التنمية على الإصلاح السياسـي، (ج) أولوية الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على الديمقراطية السياسية، (د) دعم التنمية من خلال المساعدات والاستثمارات غير المشروطة سياسيًّا. تضع بيچين هذه الرؤية كنقيض لرؤية “السلام الديمقراطي” الغربية التـي تفترض أن التحول الديقمراطي في المنطقة، ولو بالقوة والضغط الدبلوماسـي، سيؤدي إلى سلام إقليمي بين الديمقراطيات الناشئة في المنطقة.
أخدت هذه “الفكرة الجديدة” كما ستسمى لاحقًا في الاتضاح مع رفض الصين المعلن للغزو الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣، والذي كانت الشركات الصينية، وللمفارقة، من أكبر المنتفعين اقتصاديًّا منه مع طرح مشروعات إعادة إعمار العراق وحصول الكثير منها على عقود البترول العراق. وكذلك في نمط تصويت بيچين في العديد من قضايا المنطقة، وذلك إعمالاً لمبدأ عدم التدخل، مثل الامتناع عن التصويت على القرار الأممي ١٩٧٣، الذي أسس للتدخل الغربي في ليبيا، واستخدم كأساس للإطاحة بنظام القذافي، وهو ما أدى إلى رفض الصين لكافة القرارات التـي حاولت بها المجموعة الغربية إعادة سيناريو التدخل الأممي في سوريا، وهو ما جرى تصويره على أنه دعم غير مشروط لنظام الأسد على الرغم من محدوية العلاقة الاستراتيجية والاقتصادية بين بيجين ودمشق.
تصاعد التواجد الأمنـي الصينـي في المنطقة
يتمثل التحدي الرئيس في هذه السردية الصينية في أن تآكل البنية الأمنية في المنطقة قد يعرض مصالحها إلى أخطار مباشرة، وهو ما قد يدفعها لتعزيز وجودها الأمنـي وربما تطوير أدوات التدخل لدرء المخاطر أو إدارة الأزمات الأمنية. ومقارنة بحجم التواجد الصينـي أمنيًّا وسياسيًّا في العقد الأول من القرن الحالي، شهدت الفترة الأخيرة علامات على زيادة اهتمام الصين بأمن المنطقة. ويمكن رصد هذه الإشارات على النحو التالي:
أولاً: تزايد المخاطر تجاه حركة الملاحة الدولية
أدى تزايد المخاطر الأمنية على حركة الملاحة الدولية في مضيق باب المندب وخليج عدن، والمتمثلة في عمليات القرصنة وحضور الجماعات الإرهابية، فضلاً عن اتساع المصالح الاقتصادية للصين في أفريقيا، إلى اتجاه بيجين إلى بناء قاعدة عسكرية في جيبوتي في 2016 وعلى الرغم من حرص الصين على عدم إطلاق صفة العسكرية على هذه القاعدة، وتأكيدها على كونها قاعدة “دعم لوجيستـي” إلا أن قيادة الجيش الشعبـي الصينـي صرحت أن القاعدة ستعمل بالأساس كنقطة تجمع وإعادة توزيع للقوات الصينية المشاركة في عمليات حفظ السلام وعمليات الإنقاذ الإنساني. وتمثل القاعدة نقطة ارتكاز للوجود الصينـي في أفريقيا والشرق الأوسط وغرب المحيط الهندي. من ناحية أخرى، ترصد تقارير عديدة مساعي الصين لعسكرة ميناء غوادر على شاطئ بحر العرب، والذي يبعد عن مضيق هرمز ب 400ـ كيلومتر فقط، والتـي تسلمت الصين إدارتها من باكستان في 2018، وتربط الممر التجاري الصينـي الباكستاني بالمحيط الهندي.
ثانيا: التوسع في عمليات التدريب البحرية المشتركة
المشاركة في عمليات تدريب بحرية مشتركة مع روسيا وإيران في بحر العرب وخليج عمان في ديسمبر ٢٠١٩، وذلك بهدف تعزيز التعاون بين البلدان الثلاثة في تأمين حرية الملاحة ومواجهة القرصنة والإرهاب البحري. من ناحية أخرى، وفي ظل زيادة التوتر حول حركة الملاحة في خليج هرمز، أعلن السفير الصينـي في الإمارات في أغسطس ٢٠١٩، عن إمكانية مساهمة الصين في عمليات حماية الملاحة المارة عبر مضيق هرمز. وتدل الإشارات على استعداد الصين لجزء من أعباء حماية الملاحة مع القوى الدولية والإقليمية المعنية.
ثالثًا:تعزيز التواجد على طاولات التفاوض وحل النزاعات
تعسى الصين نحو تعزيز مشاركتها في جولات التفاوض حول الملف النووي الإيراني، حيث كانت بيچين طرفًا فاعلاً في التوصل للاتفاق النووي الإيراني ٢٠١٥. كما استضافت الصين جولات تفاوض لحل الصراع في جوارها المباشر في أفغانستان بداية من ٢٠١٦، مع ضخ مزيد من الاستثمارات في البنية التحتية في البلاد. مع حرصها على عدم الاحتكاك بالمصالح الهندية والأمريكية جنوب آسيا. وفي العام نفسه، بدأت الصين في محاولة التوسط لحل النزاع السوري من خلال مبعوثها للسلام في الشرق الأوسط شيه شياون، مع دعم جهود المبعوث الأممي. وفي العام التالي، أعلن الرئيس شيه جين بين عن النقاط الأربعة غير الملزمة لحل النزاع الفلسطينـي الإسرائيلي، واقترح آلية ثلاثية للحوار والتعاون بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والصين.
رابعًا: عمليات بيع الأسلحة
تقود الصين حالياً بتوريد الأسلحة لبعض بلدان الشرق الأوسط وإن على نطاق صغير. وفقًا لبيانات معهد ستوكهولم لدراسات السلام، فإن الصين تحتل المرتبة الخامسة لمصدر السلاح في العالم (٥.٥٪ من إجمالي الصادرات العالمية). ويمثل الشرق الأوسط ٦.٧٪ من إجمالي صادرات السلاح الصينـي. وعلى الرغم من ضآلة هذه النسبة، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت اهتمامًا بالشرق الأوسط من قبل شركات الأسلحة الصينية؛ خاصة تلك العاملة في مجال الأسلحة الذكية والمسيرة بتقنيات الذكاء الاصطناعي وعلى رأسها الطائرات بدون طيار من طراز CH-4 المباعة للسعودية، ووينغ لونغ المباعة للإمارات التي تلقت أيضًا المدمرة غير المأهولة Mini Aegis، فضلاً عن العديد من القطع البحرية الأخرى. في الوقت نفسه، ما زالت الأسلحة الصغيرة والخفيفة SALW صينية المنشأ منتشرة في المنطقة عبر طرق التهريب البرية والبحرية المختلفة.
خامسًا: عمليات الإجلاء للرعايا الصينين كأحد أدوات حماية المصالح
أنجزت الصين عمليات إنقاذ للجاليات الصينية في كل من ليبيا واليمن. حيث نجحت مع اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا في ٢٠١١ في إجلاء حوالي ٣٥ ألف من مواطنيها العاملين في ليبيا. وهي العملية التـي تكررت عبر البحرية الصينية في مارس ٢٠١٥، بإجلاء آلاف الصينيين العاملين في اليمن عبر موانئ جيبوتي. كما ساهمت البحرية الصينية في إجلاء وتهريب مواطنـي بلدان أخرى من اليمن. وبقدر الجانب الإنساني في هذه العمليات، إلا أن سرعة وكفاءة تنفيذها أوضحت قدرة الصين على التدخل لحماية مصالحها المباشرة.
ليس من الواضح أن هذه الإشارات تنبأ عن “استراتيجية شاملة” لتأكيد الحضور الأمنـي والسياسـي للصين في الشرق الأوسط؛ حيث ما زالت التحركات الصينية محدودة من حيث الأهداف، والأهم من حيث الموارد ومدى رغبة بيچين في التحمل المسؤولية اللازمة للقيام بأعباء إدارة الصراعات. ومن المؤكد أنها ما زالت تنظر للدور الأمريكي على أنه ضروري للحفاظ على الأمن في المنطقة، خاصة أمن الممرات البحرية والطاقة. وهي الحقيقة التـي دفعت المسؤولين الأمريكيين في غير ذي لاتهام الصين ب”الركوب المجاني” أو بالسلوك الانتهازي الذي يسعى لجنـي المكاسب الاقتصادية، مع تجنب تحمل أية مسؤولية أمنية أو سياسية.
ويمكن القول أيضًا أن التحركات الصينية في أحد جوانبها تسعى لإبراز جوانب الخلل في الإدارة الأمريكية لأمن المنطقة. وربما يتضح هذا في حرص بيچين في التعاون مع طهران وتأكيد التزامها بالاتفاق النووي الإيراني في الوقت الذي انسحبت فيه إدارة ترامب من التزاماتها. ولم تخف واشنطن من اتفاق التعاون الصينـي الإيراني الذي توصل إليه الطرفان مؤخرًا وينص على استفادة بيچين من الطاقة الإيرانية لمدة ٢٥ عامًا في مقابل مساعدة طهران على تطوير البنية التحتية في مجالات النقل والسكك الحديدية والبنك والأمن السيبراني.
ومن قبل، لم تخف واشنطن امتعاضها من التعاون الصينـي الإسرائيلي فيما يخص تطوير ميناء حيفا، واضطلاع الشركات الصينية بتطوير شبكات الجيل الخامس الإسرائيلية بما يخل من آليات التعاون الاستخباراتي بين واشنطن وتل أبيب. وكذلك التعاون بين بيجين والرياض لتطوير محطات الطاقة النووية السعودية. ومع ذلك، فمن غير المتوقع أن تحول واشنطن دون استكمال أشكال التعاون تلك، خاصة أنها لم تستقر بعد على رؤية محددة لطبيعة الدور الصينـي في المنطقة وخطابها ما زال يتراوح بين القلق من التمدد الاستراتيجي الصيني وبين الحاجة لتشارك الأعباء.
سيناريوهات دور الصين في أمن المنطقة
بناءً على ما سبق من اتجاهات، يمكن القول إن مستقبل الدور الصينـي في المنطقة يتحدد على أساس مدى اتساع وتجذر مصالحها الاقتصادية في المنطقة والسياق السياسـي والأمنـي المحيط بها. وبهذا قد يتخذ هذا الدور مسارًا بين المسارات الأربعة التالية:
سيناريو الهيمنة
وفيه تقوم الصين بضمان أمن المنطقة والتدخل المباشر لحل النزاعات من خلال القوة الاقتصادية والانتشار العسكري. ويستدعي هذا السيناريو أولاً قدرة الصين على التنصل من مبدأ الحياد وعدم التدخل، وبالتالي حدوث تحول في رؤية القيادة الصينية في العالم. كذلك، يتطلب هذا الدور توسع الصين عسكريًا خاصة في قوتها البحرية وفي الانتشار في مفاصل المنطقة من خلال القواعد العسكرية.
وترى بعض التحليلات الواقعية وفقًا لنظرية ثيوكيديدس الكلاسيكية حول حروب الهيمنة ضرورة وجود صراع عنيف يؤدي إلى تراجع القوى المنافسة، في هذه الحالة الولايات المتحدة وأوروبا، وإذعان القوى الأخرى أمام قوة الصين الصاعدة.
ولا شك أن هذا السيناريو مستبعد على الأقل في المدى المنظور. وحتـى على المدى الطويل، هناك قيود جيوسياسية لا تستطيع الصين الهروب منها بسهولة، وتتمثل في طبيعة الصين كقوة برية، وتطورها التاريخي المتجه نحو حماية تكامل أراضيها وكيانها السكاني، في مقابل النزعة التوسعية الغربية عميقة الجذور.
سيناريو السلام التنموي
وهو ما يعنـي محاولة الصين تفعيل رؤيتها حول المنطقة من خلال ضخ مزيد من الاستثمارات والمشروعات العابرة للحدود والتـي قد تحقق نوعًا من الاستقرار بين الشركاء الاقتصاديين. مع الحرص على الحفاظ على مصالحها المباشرة من خلال التدخل الاختياري المحسوب والدقيق، مع عدم منافسة الأطراف الأخرى الضرورية للاستقرار مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة فضلاً عن بقية القوى الإقليمية. يعنـي هذا امتداد الاتجاه الحالي مع عدم اعتماد استراتيجية محددة للتأثير على البنية الأمنية في الشرق الأوسط.
سيناريو تقسيم النفوذ
مع تعاظم المخاطر الأمنية، واستمرار رغبة بيچين في الحفاظ على مبدأ عدم التدخل، والالتزام ببرنامج السلام التنموي، قد يصبح من الضروري تأكيد الوجود السياسـي للصين من خلال التحالف مع قوى المنطقة التـي تشاركها نفس المصالح الاقتصادية، والقوى الدولية مثل روسيا التـي تتشارك معها في ضرورة الحفاظ على أمن المنطقة بعيدًا عن الهيمنة الغربية. وبالتالي تتقاسم الصين أعباء المنطقة أمنيًّا من خلال سلسلة من التحالفات المفيدة لمعظم الأطراف.
يعزز هذا السيناريو مرونة علاقات الصين السياسية بكل دول المنطقة، وجاذبية نموذجها التنموي للكثير منها، فضلاً عن قصور معظم الأطراف الدولية، خاصة روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات، عن فرض نظام أمنـي بعينه. ووفقًا لهذا المسار، قد تعوض الصين قصور قوتها العسكرية، بالحضور الأمنـي لقوى أخرى، مثل روسيا وهو ما يحقق نوعًا من التوازن.
سيناريو الانسحاب
وهو مسار ممكن نظرًا لوقوع أية أسباب غير متوقعة مثل التأزم الاقتصادي العالمي الذي يؤدي إلى تراجع الطلب الصينـي على موارد النفط من الشرق الأوسط، وتراجع حركة الملاحة بين الصين وأوروبا. أو اتساع نطاق الفوضى في المنطقة على نحو يدفع بيچين للاعتماد على موارد الطاقة الأخرى من خارج المنطقة (حتى الآن ما زالت روسيا هي أكبر مصدر للطاقة للصين، وتمثل القارة الأفريقية مصدرًا واعدًا آخر)، أو قد تجد مسارات لنقل البضائع إلى أوروبا مع تقليل حركة المرور عبر المنطقة، مع تعزيز الحضور الصينـي البحري في شرق أفريقيا وفي جنوب آسيا لتأمين التجارة عبر مثلث المضايق. وبالتالي هو انسحاب غير كامل بل تنصل من أي مسعى نحو التدخل في شؤون المنطقة بعيدًا عن الخطاب الدبلوماسـي المعتاد.
يمكن القول أنه بقدر المخاطر الناتجة عن سيولة النظام الأمنـي في الشرق الأوسط، بقدر ما توجد فرص للتعامل بمزيد من المرونة مع المسارات المحتملة لتأثير الصين وغيرها على أمن المنطقة. فلا يوجد سيناريو حتمي. لذا، فمن الضروري لبلدان المنطقة أن تتعامل بواقعية مع كل مسار وما يتضمنه من سياسات بدلاً من الوقوع أسرى لحتمية التأثير الصينـي أو الهيمنة الأمريكية.