يستدعي الحديث عن الدور الإقليمي لمصر ضرورة بناء إطار لفهم طبيعة ذلك الدور وحدوده والبيئات التـي يفعل من خلالها، والتـي تمثل مستويات التحليل الثلاثة، الداخلية والإقليمية والدولية، والتـي يطرح كل مستوى فيها عددًا من التحديات، ويقدم فرصًا متباينة. بالنسبة للدور الإقليمي لمصر، فمن الضروري أيضًا تحديد نطاق الإقليم الذي نتحدث عنه، فمصر معنية بدوائر إقليمية متداخلة هي الشرق الأوسط والمنطقة العربية والبحر المتوسط وأفريقيا.
بين التحوط الاستراتيجي والمبادرة
في أعقاب استقرار الأوضاع السياسية في مصر مؤخرًا، عاد النقاش في الدوائر البحثية والإعلامية الجادة حول مستقبل دور مصر في دوائر سياستها الخارجية التـي تعج بالأزمات التـي لم تكن مصر بعيدة عندها سواء قبل ٢٠١١، أو بعدها. وغلب على النقاش حول مستقبل الدور المصري في المنطقة اتجاهان؛ يرى الاتجاه الأول ضرورة تبنـي صناع القرار موقف “التحوط الاستراتيجي، أو الترقب الاستراتيجي” والذي يعني عدم التعجل في اتخاذ موقف معينة تجاه القضايا الإقليمية بغض الطرف عن ضرورات الداخل وأولويات إعادة البناء الاقتصادي وترميم مؤسسات الدولة. يذهب هذا الرأي في عدم جاهزية مصر في الوقت الحالي لدفع التكلفة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية للقيام بدور إقليمي نشط، وهي وإن قامت بهذا، فهو حتمًا سيكون بتمويل من أطراف أخرى ، وهي ما يعنـي أن الدور المصري سيكون محكوماً في بعض الأحيان بمصالح قوى أخرى قد لا تتشاطر مع مصر نفس الرؤية والمصالح والأولويات.
من ناحية أخرى، فسيولة النظام الإقليمي، وتفكك النظام الإقليمي العربي الذي قادته مصر لعقود، وتنازع قيادة المنطقة بين إيران وتركيا وإسرائيل والقوى الخليجية، وكذلك سيولة النظام الدولي، وتجاوزه مرحلة القطب الأمريكي الواحد، وتعدد الأقطاب الصاعدة، وغلبة نزعة البحث عن عوائد الدور Transactionalism على القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة في عهد ترامب، كلها عوامل تستدعي عدم الاندفاع باتخاذ أدوار في عالم يغلب عليه اللايقين. كذلك، يذهب هذا الاتجاه أن الأدوار تفرض على الدول دون أن تختارها، بحكم الضرورات الجيوسياسية والأمنية والسياسية.
لذا، إذا كان من الضروري القيام بأدوار معينة وفي نطاقات محددة، ينبغي على صانع القرار المصري الأخذ في الاعتبار العوامل التالية:
- تكلفة الأدوار السياسية والاقتصادية والعسكرية
- عائد الدور: والذي ينبغي أن يكون في المرحلة الحالية في خدمة أولويات إعادة بناء مؤسسات الدولة والتنمية الاقتصادية وإصلاح التعليم والبنية التحتية؛
- نطاق الدور: وتبدو الدائرة الأفريقية هي الأكثر أولوية من بين الدوائر الأخرى، دون أن ترتبط هذه الأولوية فقط برئاسة مصر للاتحاد الأفريقي. أما النطاق العربي، فعلى الرغم من أهميته، فمن الصعب استعادته في صورة النظام الإقليمي العربي أو القومية العربية، بل إن عباءة “العروبة” هي الأكثر ملائمة مع تصاعد خطورة النعرات الإثنية والعرقية المتصاعدة حاليا على المستوى الدولي، بعد انحسار دعوات العولمة، وما فرضته من تحديات على “الهوية القومية”.
- أدوات الدور: نظرًا للدور الكبير الذي يقوم به رئيس الجمهورية، والأجهزة الأمنية في صياغة خيارات السياسة الخارجية، فالدبلوماسية المصرية يغلب عليها الطابع السري. مع ذلك، هناك مساحة قائمة للدبلوماسية العلنية والسياسات الرمزية، مثل تعيين ممثلين خاصين لرئيس الجمهورية في عدد من القضايا الإقليمية أو لبعض الدول. يعزز هذه الأداة قوة المهارات والكوادر الدبلوماسية.
- قضايا الدور: هناك عدة قضايا لها أولويات، تشكل تحديات لكل دول الإقليم خاصة العربية، على رأسها تحول دور الولايات المتحدة إلى النهب العلني لثروات العالم العربي، الصعود الصينـي ودبلوماسية القروض في المنطقتين العربية والأفريقية التـي تصاعدت في السنوات الأخيرة على خلفية الحرب التجارية مع الولايات المتحدة وبدء اتخاذ الصين خطوات نحو دور “القوة العظمى العالمية”، وكذلك التحديات المستمرة للصراع العربي الإسرائيلي.
أما الاتجاه الثاني، فيرى أنه من الصعب على مصر التخلي طوعًا عن دورها الذي تفرضه تحديات مباشرة على أمنها القومي. على سبيل المثال، لا يمكن لمصر غض الطرف عن الأحداث في ليبيا، أو ألا تتدخل في السودان في مرحلة ما بعد البشير، أو أن تتجاهل تداعيات صفقة القرن الأمريكية عليها.
يرى هذا الاتجاه أن الحديث عن غياب الدور المصري يتجاهل فترات تاريخية قامت فيها مصر بدور حيوي، حتـى مع انحسار دورها الإقليمي في أعقاب التصالح مع إسرائيل. لذا هناك “حد أدنى للدور الإقليمي” يرتبط بالضرورات المباشرة للأمن القومي.
وفقًا لهذا الاتجاه، فعلى الرغم من قيام مصر بضرورات هذا الحد الأدنى على جبهات مختلفة في الفترة الأخيرة، مثل التحرك النشط في أفريقيا، الانسحاب من تجمع “الناتو العربي” ، اتخاذ دور محايد في سوريا، ومجابهة التدخل التركي في ليبيا، إلا أن هناك ملفات تبدو محيرة وتتنافى مع ضرورات هذا الدور.
على سبيل المثال، ترى مصر أن هناك قيودًا عليها في علاقة “التنافر” أو الحياد مع إيران تفرضها الولايات المتحدة أو الحلفاء في الخليج. مع ذلك، فالقوى الأكثر تقيدًا في المنطقة تتحرك على نحو أكثر حرية، فالعراق على الرغم من قربه لإيران له هامش حرية أكثر تجاه جيرانه، ولننظر في الحرية الكبيرة التـي تصرفت بها تركيا حيال الضغوط الأمريكية على صفقة الصواريخ الروسية، أو تحركها في المحيط العربي في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط دون تقيد بضرورات التحالف الاستراتيجي من خلال “الناتو”، أو في تضاد مع مصالح الاتحاد الأوروبي الذي كانت حتـى قريب تسعى للالتحاق به.
يتحدث هذا الاتجاه عن أن الإمعان في الترقب الاستراتيجي قد يؤدي إلى فقدان مصر لقيمتها الإقليمية، في الوقت الذي تصنف قدرات الدول على حسب قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية؛ كذلك يرى أن القيام بمتطلبات الدور لا يعنـي ارتكاب حماقات استراتيجية، أو تكرار سيناريو المواجهات العسكرية مع الخصوم بحسابات خاطئة، على نحو ما حدث في نكسة 1967 التـي وقعت بسبب ظروف داخلية خاصة ارتبطت بسوء تقدير الأوضاع الدولية والتباس العلاقات المدنية- العسكرية.
جاءت التطورات الأخيرة في محاور الأمن القومي المصري لتؤكد على الضرورة الملحة للاتجاه الثاني؛ حيث تعاظمت المخاطر الناجمة في تصاعد الصراع على الطاقة في شرق المتوسط، وتعقد الصراع الدولي حول ليبيا مع تدخل تركيا عسكريًا في غرب ليبيا، وتدهور موقف الجيش الوطني الليبـي حليف القاهرة. كذلك وصول قضية سد النهضة إلى طريق مسدود، واستمرار الاضطرابات في السودان في المرحلة الانتقالية بعد انهيار حكم البشير. مع عدم وجود أفق لحل الصراع الفلسطينـي الإسرائيلي، واستمرار تل أبيب في نهجها التوسعي. وبالتالي، لم يعد الانكفاء اختيارًا في دائرة الأزمات المترابطة والممتدة من الهلال الخصيب إلى ليبيا، ومن القرن الأفريقي حتـى سوريا وجنوب أوروبا.
من الاستراتيجية السالبة إلى الاستراتيجية الكبرى
بيد أن هذا النقاش باتجاهيه يتجاهل أن القاهرة ولأسباب تتجاوز في عمقها اضطرابات ما بعد يناير ٢٠١١، ويونيو ٢٠١٣، قد تبنت في علاجها لقضايا السياسة الإقليمية “استراتيجية سالبة” تقوم بداية على إصدار ردود أفعال على مخططات أو خطوات الآخرين سواء كانوا خصومًا استراتيجيين أم غير ذلك.
كما أن هذه الاستراتيجية قد خضعت لمفهوم ضيق عن الأمن القومي ويحصر خطوات القاهرة في الحد من نفوذ الإسلاميين والجماعات الإرهابية في المنطقة، على خلفية الصراع السياسـي بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين المدعومة من قبل قطر وتركيا. باختصار، عرفت القاهرة في تلك الفترة “ما لا تريده” دون أن تحدد على وجه التحديد “ما تريده” وما الأدوات والسبل اللازمة لتحقيقه.
بشكل ما، كانت هذه الاستراتيجية ناجعة في نواحٍ عديدة؛ فهي مثلمًا جنبت القاهرة أعباء أمنية واقتصادية نتيجة التورط في صراعات مفتوحة. في ملف اليمن على سبيل المثال، اختارت القاهرة حماية المدخل الجنوبي للبحر المتوسط كجزء من تحجيم آثار الحرب على التجارة الدولية وأمن الممرات البحرية الحيوية. إلا أن هذا الدور العسكري، المحدود والهام في آن، لم يدفع القاهرة نحو القيام بدور سياسـي في مفاوضات حل الصراع؛ التـي ستؤثر بشكل أو بآخر على الأمن القومي المصري في محور البحر الأحمر.
أي أن القاهرة قد تكون قد تجنبت أضرار الحرب في اليمن، إلا أنها لن تجنـي كثيرًا من مكاسب السلام. الأمر نفسه قد ينطبق على السياسة المصرية تجاه الصراع في سوريا الأكثر تعقيدًا وتداخلاً. قطعًا رفضت القاهرة أي نفوذ أو مكسب للجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا، وربما أبقت على قنوات اتصال أمنية مع نظام الأسد؛ إلا أن تحركاتها تجاه الملف السوري ظلت مقيدة باعتبارات الحلفاء في الرياض وفي موسكو، وبعدم وجود تنسيق سياسـي مع إيران أو تركيا، فضلاً عن قصور الموارد. وهو ما أفضـى إلى غياب مصري غير مسبوق عن ساحة الشام، على الأقل منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة.
من المتصور أن القاهرة بحاجة ماسة إلى بناء “استراتيجية كبرى Grand Strategy” كي تحافظ فعلاً على مصالحها القومية وكي تتجاوز موقع ردة الفعل سواء تجاه القضايا الواقعة أو المستقبلية. تعبر الاستراتيجية الكبرى للفاعلين الدوليين عن أعلى مراحل إدارة الدولة حيث توظف الأخيرة مواردها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والسياسية للحفاظ على ما تراه مصالحها.
وتتجاوز الاستراتيجية مجرد الحفاظ على “البقاء” أو الإبقاء على الحدود سالمة، فتقوم الدولة بعقد التحالفات وردع الخصوم واستخدام قوتها الناعمة الثقافية والدبلوماسية لطرح وجهة نظرها. كما تنطلق الاستراتيجية الكبرى من استيعاب مخططي السياسة الخارجية للدولة لحقائق وجودها الجيو-استراتيجي والتاريخي، ومتغيرات الواقع الحالي.
أي أن الاستراتيجية الكبرى تعني باختصار أن الدولة لا تتصرف حيال مصالحها بضرورات “الأمن” فقط، والتـي تركز على المخاطر، بل تسعى أيضًا إلى خلق فرص “السياسة”؛ حيث لا توجد معادلات صفرية، بل مصالح معقدة ومتشابكة تقتضـي وضوح الرؤية وامتلاك الأدوات والموارد الكافية للوصول إلى الأهداف.
إن ما يفرق “الخطط” عن “الاستراتيجيات” هو أن الأخيرة ذات طبيعة صراعية. وفي سياق الشرق الأوسط الذي يتسم بالسيولة والتصارع المستمر، لا يوجد مكان للخطط، بل لاستراتيجيات مرنة وقادرة على التنبؤ بالتغير في شبكة التحالفات والخصوم.
لذا عند القيام بضرورات الدور الإقليمي الحالية والمستقبلية، على صانع القرار المصري أن يأخذ في الاعتبار العوامل التالية:
- التحرر من أسر العلاقات مع الولايات المتحدة وعدم النظر إليها كقوة مهيمنة، وتفعيل علاقات تحالفية أو تشاركية مع القوى الصاعدة، وعدم اختزال العلاقات معها في جانب واحد.
- إعادة النظر في علاقات مصر مع قوى الإقليم غير العربية ، وعدم تجاهل تأثيرها.
- ضرورة التعاطي مع تداعيات الثورات التكنولوجية والرقمنة على ميزان قوة الدولة، خاصة عند النظر في التحدي الإسرائيلي.
- إعادة توظيف قوى مصر الناعمة والذكية في التعليم والإعلام والثقافة، خاصة في ظل تراجع التأثير الثقافي المصري لصالح المنصات الثقافية المعولمة وتلك التـي تملكها القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا وقطر.
- نسج هذه العوامل في “استراتيجية أمن قومي” تعبر عنها وثائق تعكس رؤية صناع السياسة الخارجية المصرية على نحو يوضح الدور وأدواته وقضاياه، بحيث تكون سياسات مصر الخارجية نتاج نقطة توازن بين الإمكانيات وما يفرضه الدور من ضرورات. دون أن يعنـي وجود رؤية استراتيجية ضرورة النجاح، فالإخفاق وارد ويحدث.
ربما تستوجب هذه الخطوات التعامل مع التحديات المؤسسية التـي تواجه صناعة السياسة الخارجية المصرية والمتمثلة ضعف بناء الكوادر وخاصة في المواقع القيادية وما يستصحب هذا من تردي المؤسسات الثقافية وإنتاجها، ونقص الخيال السياسـي لدى القائمين على عملية اتخاذ القرار، وضعف الثقافة الاستراتيجية في مؤسسات السياسة الخارجية بالمقارنة بالبلدان الأخرى.
من الملاحظ أن الدبلوماسية المصرية نشطة على مستوى “التحركات اليومية الخارجية” من حيث مستوى المشاركة في المنظمات الدولية، وحضور الفاعليات وتمثيل مصر دبلوماسيًّا في المحافل الدولية. إلا أن هناك مشكلات على مستوى “السياسة الخارجية” القائمة على تحديد نطاق للقدرات والرؤية والأدوار. ومن الصعب توجيه صانع القرار على ذلك المستوى العام من النقاش الذي قد يثير انقسامًا نظريًّا. لذا من الضروري نقل النقاش إلى مستويات القضايا المتخصصة دون فقد الرابط بين كل قضية وأخرى، وهو ما يشكل في النهاية رؤية تمثل بوصلة للدور المرغوب والنجاح لمصر إقليميًّا ودوليًّا.