تُعتبر أجهزة المخابرات أحد أهم أدوات الدولة فى معرفة ما يجرى خلف كواليس الطرف المعادى ، فهى الأعين التى ترى وتراقب وتحلل كافة التحركات الظاهرة منها والباطنه ، لتحذر من بعدها وتكشف عن خطوات الخصم القادمة لتتخذ أجهزة الدولة التنفيذية إجراءاتها كل منها بتخصصة ، والأهم من ذلك هو أن يرى متخذ القرار الصورة كاملة بكافة أبعادها ليستطيع إتخاذ أفضل القرارات الممكنة، و الأهم فى التوقيت المناسب.
ومما لا شك فيه بأن حرب اكتوبر تعتبر من أهم المحطات البارزة ليس فقط فى جولات الصراع العربى الإسرائيلى ، ولكنها أيضاً لها أهميه كبيرة فى مجال عمل المخابرات ، إذ أن نشوب الحرب كاد أن يكون مفاجئاً بشكلٍ تامْ دون وجود زمن إنذارى كافى للإحتلال الإسرائيلى يُمكنة من تنفيذ الخطوات المناسبة لردع الجانبين المصرى والسورى ومنعهم من شن الحرب أو على الأقل إتخاذ إجراءات تقلل من حجم تأثير الصدمة الأولى للعملية العسكرية الشاملة ، والتى أدت الى فقدان توازن كامل لجيش الإحتلال الإسرائيلى وفشل كافة خططة المُجهزه لصد الهجوم المصرى ، والأهم هو تدمير ركائز عقيدة الأمن لديه.
وعلى الرغم من تحقيقات لجنة أجرانات التى شُكلت عقب إنتهاء الحرب مباشرة ، والتى إستهدف الإحتلال الإسرائيلى منها بشكل رئيسى وضع يده بشكل واضح ومحدد على نقاط الخلل بالضبط التى أدت الى ما أُطلَق عليه البعض ” هدم الهيكل الثانى ” ، وهذا ما يفسر ويؤكد من جانب آخر بأن حرب أكتوبر 1973 كانت نصراً مصرياً كبيراً لا جدال فيه ، إلا أن محاضر ونتائج لجنة أجرانات مازالت حتى الأن لم يُصرح لها بأن تُنشر بشكل كامل ، ويتم بشكل شبه سنوى الإفراج عن بعض وثائقها لتُخرج من جديد بعض من خبايا ما حدث داخل أروقة دوائر صنع القرار الإسرائيلى قبل الساعة الثانية ظهرا يوم السادس من أكتوبر .
لهذا وعلى الرغم من التفاصيل العديدة التى نُشرت عن ما حدث قبل نشوب الحرب خاصة بال72 ساعه السابقة لها ، إلا أننا نرى بأن هناك خمس أسباب رئيسية أدت الى عدم قدرة أجهزة المخابرات الإسرائيلية من التنبوء بشكل سليم بنوايا الحرب لدى الجانب المصرى والسورى ألا وهى :
أسباب عدم قدرة المخابرات الإسرائيلية في التنبؤ بحرب أكتوبر
- أولاً : وقوع الشخصية الإسرائيلية بشكل عام والتى يندرج من ضمنها فئة المسئوليين بدولة الإحتلال لحالة من الحد الأقصى للثقه الزائفه بالنفس ، والوصول إلى أعلى درجات الغرور خصوصاً بعد نكسة 1967 . كما أن الشخصية الإسرائيلية لم تكن تُريد أن تستوعب التطور الذى ظهر فى قدرات القوات المسلحة المصرية خلال عمليات حرب الإستنزاف والتى كانت مختلفة بشكل كلى عن أدائها فى حرب 67 ، خشية الرجوع مره أخرى للشعور بالفناء الذى كان سائدا قبل 5 يونيو 67.
- ثانياً : التعبئة العامه التى نفذها جيش الإحتلال الإسرائيلى قبل عام من بدء الحرب نتيجة المعلومات التى رصدها لحجم التحركات العسكرية المصرية الكبير على جبهة القناه خلال عام 1972 حيث تعامل معها كتجهيز فعلى لشن الحرب ، و التى كلفته نفقات كبيرة من ميزانية الدولة دون جدوى ، وإستمرار تحركات القوات المصرية فى عام 1973 قبل شهر أكتوبر والذى رسخ حالة الإعتياد عند الجانب الإسرائيلى عند مراقبته لتلك التحركات ، مما جعل جولدا مائير حذره فى إتخاذ قرار التعبئة العامه مرة أخرى دون التأكد بشكل قاطع من نشوب حرب.
- ثالثاً : خطة الخداع المصرية التى نُفذت على مدى زمنى كبير وعلى كافة المستويات فى الدولة ، حتى أنها أثرت على أجهزة جمع المعلومات المختلفة للإحتلال الإسرائيلى بشقية الأمنى ( الموساد ) ( أمان ) فى قدرته على التفسير الصحيح لحجم المعلومات المُجمعه عن الجانب المصرى ، بالرغم من رصدهم الدقيق لكل التحركات المصرية على جبهة القنال بدقة ، إلا أن إستيعاب الموقف بشكل صحيح لم يصل الى مسئولى الجهازين الرئيسيين فى إسرائيل والذى ظهر جلياً فى الإجتماع الأخير لمجلس الحرب فى الثامنة من صباح يوم السادس من أكتوبر حتى بعد الرسالة التى وصلت رئيس جهاز الموساد تسيفى زمير قبل الحرب مباشرة بساعات تفيد بالهجوم المصرى فى الساعة السادسه مساءً السادس من أكتوبر .
- رابعاً: الحسابات السياسية التى يضعها القادة العسكريين الكبار فى جيش الإحتلال الإسرائيلى ، إذ أن هؤلاء القادة تظل أعينهم على مكانتهم السياسية الذى يمكن أن يلعبوها فيما بعد إنتهاء خدمتهم بجيش الإحتلال ، لذلك فكل منهم يتحسس خطواته لكى لا يقع فى قرار خاطئ يعرقل مسيرته السياسية فيما بعد .
- خامساً : عدم قدرة جهازى جمع المعلومات للإحتلال الإسرائيلى ( الموساد – أمان ) من الحفاظ على إستدامة عناصر بشرية سواء على شكل أفراد او شبكات تعمل داخل جمهورية مصر العربية سواء فى فى الشريحة المدنية أو العسكرية تمكنها من الإطلاع بشكل واضح عن النوايا المصرية إتجاه شن الحرب من عدمها ، إذ كان آخر عناصرها فى الشريحة العسكرية هو الضابط فاروق الفقى الذى تم إسقاط خليته مع هبه سليم إبان حرب الإستنزاف .
- هذا الى جانب العديد من الأسباب الخاصة بالجانب العسكري ، والتى تختص بخطط العمليات الحربية لجيش الإحتلال الإسرائيلى التى كانت مُعده للتنفيذ فى حال بدأ جيشى مصر وسوريا القتال ، والتى ظهر أنها كانت تتسم بالقصور الكبير خصوصاً فى تقييم قدرات الجيش المصري ، إذ أن تلك الخطط كانت تُبنى على أساس توافر معلومات جهاز المخابرات العسكرية ( أمان ) لأوضاع وقدرات وتسليح وأسلوب عمل القوات المصرية.
فمثال لذلك كانت المعلومات المتوفرة لدى القوات الجوية لجيش الإحتلال الإسرائيلى عن طائرات القتال المصرية من طراز ميراج-5 الفرنسية الصنع ، هى وجود سربي قتال متمركزين بقاعدة طنطا الجوية بوسط الدلتا ، وهى معلومة نصف صحيحة ، إذ أن النصف الصحيح خاص بوجود الميراج-5 بالفعل منذ قدومها قبل الحرب بعام تقريباً من ليبيا تتمركز بقاعدة طنطا الجوية ولكن النصف الخاطئ بأنها لم تزد تشكيلاتها بأى حال عن سرب قتالى واحد فقط ، ونتيجة لتلك المعلومة المغلوطة وخشية إسرائيل من قدرات الميراج-5 والتى تمتلك قدرات قتال عالية جداً تستطيع من خلالها الوصول الى عمق إسرائيل بقدرات تدميرية كبيرة ، فقد وجه سلاح الجو الإسرائيلي عدة ضربات جوية الى قاعدة طنطا الجوية يومى 7 و 14 و15 اكتوبر بهدف تدمير القاعدة بما فيها من طائرات ، خاصة هجوم 14 اكتوبر الذى إستهدف فيه سلاح الجو الإسرائيلى القاعدة بقوة سربي فانتوم-4 وسرب أخر لتدمير قاعدة المنصورة الجوية من إجمالى أربعة أسراب فانتوم-4 كانت كل ما لدى إسرائيل فى ذلك الوقت ، مما أدى الى تكبدة خسائر جسيمة فى مقاتلاته خلال تلك الهجمات.
فهل حقاً أخفقت المخابرات الإسرائيلية في حرب أكتوبر؟
بالنظر الى كافة النتائج والأحداث التى كُشف عنها سواء من خلال وثائق لجنة أجرانات أو التى صَرح بها أصحابها من جانب الإحتلال الإسرائيلى ، فإننا قد نكتشف أن حجم المعلومات التى كانت متوفرة لدى جهازى المعلومات للإحتلال الإسرائيلى ( الموساد – أمان ) كانت كافية جداً لتكوين صورة دقيقة عن الموقف العام على الجبهات المصرية والسورية والأردنية ، والتى إن تم قرائتها بشكل سليم وإتخاذ قرار الضربة الجوية الإجهاضية المقترحة فى إجتماع صباح يوم 6 اكتوبر للجبهة العربية ، لكانت أثرت بشكل كبير على عمليات جيشى مصر وسوريا . إلا أن تداخل العوامل النفسية كارتفاع مستوى الغرور، وتركيز القادة الإسرائيليين على مصالحهم الشخصية، وكفاءة الأجهزة المصرية في أعمال المراوغة والخداع وتقصي أثر العيون التي تعمل لصالح إسرائيل في الداخل المصري، كلها عوامل أفقدت إسرائيل القدرة على الاستعداد الكافي رغم توافر معلومات كافية من شأنها الدفع بالجاهزية ومواجهة الهجوم المصري.