مما لا شك فيه أن تعزيز العلوم الإنسانية والاجتماعية بالذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى دفع حدود المعرفة الحالية إلى عوالم أخرى ومستويات أكثر تعددية وعمقاً، بالإضافة إلى حل مشكلة عدم الترابط القوي بين تلك العلوم، وإلى فهم أعمق لسلوك البشر والمجتمعات.
ويبدو أيضا أن الذكاء الاصطناعي سيعيد تشكيل العلوم الإنسانية والاجتماعية وذلك بتغييرات سريعة ستطرأ على عمليات وممارسات البحث الحالية، والتي يصفها Yoshua Bengio بـ “شديدة الغباء”، وهو بروفيسور بجامعة مونتريال بكندا وأحد أبرز خبراء الذكاء الاصطناعي في العالم والحاصل عام 2019 على جائزة ACM A. M. Turing؛ وهي بمثابة جائزة نوبل للحوسبة.
ومن الواضح أن تعزيز العلوم الإنسانية والاجتماعية بالذكاء الصناعي سيؤثر بالإيجاب على مستويات الجودة والدقة والوقت بالنسبة لمناحي البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية. كما سيزيل الذكاء الاصطناعي الحدود أكثر فأكثر بين التخصصات المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وفي هذا الصدد، يتم الآن تطوير تقنية GPT-3، أي الذكاء الاصطناعي الذي يكتب المقالات بشكل مستقل تقريباً، مما يسهم في تعزيز العلوم الإنسانية والاجتماعية للتمكن من كتابة رسائل ماجستير ودكتوراة.
ويتم أيضاً في فرنسا الآن تطوير تقنية تسمي التفلسف بالذكاء الصناعي Philosopher AI، والتي أظهرت من خلال تجريبها جزئيا قدرة رائعة على التجريد، وعلى الجدال بشكل مدروس، وعلى التنظير، وعلى التمنطق المتماسك المليء بالحكمة.
كما أن هناك مشروع بحثي بين معهد الذكاء الصناعي وكرسي راؤول دانديران للدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية بمونتريال، لتطوير تقنية للدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية، من بين أهدافه تعزيزالإسلامويات التطبيقية islamismologie appliquée بالذكاء الاصطناعي وذلك لفهم وتفكيك ونقد الإسلاموية.
من ناحية أخرى سيمثل توافر البيانات الضخمة Big Data، إلى جانب تحليلها بالذكاء الصناعي، تحدياً لنظريات المعرفة الراسخة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مما سيمثل تحولاً معرفياً سيقلب العلوم الاجتماعية والإنسانية رأساً على عقب. فعلى سبيل المثال سيسمح ذلك بلا شك إلى التوصل إلى أشكال وعوالم جديدة من التجريبية والتطبيقية، التي ربما ستؤدي إلى ما يسمى نهاية النظرية.
وسيبدأ الاعتماد أكثر فأكثر على العلوم المبنية بالأساس على البيانات بدلاً من العلوم التي تحركها المعرفة النظرية، وتطوير العلوم الإنسانية الرقمية والعلوم الاجتماعية الحاسوبية التي ستقترح طرقاً مختلفة جذريّاً لفهم الإنسان والثقافة والتاريخ والاقتصاد والمجتمع.
إن تعزيز العلوم الإنسانية والاجتماعية بالذكاء الاصطناعي يدفع نحو براديغما جديدة في البحث؛ تقوم على اعتبار المعرفة الحالية مجرد عتبة لا غاية، حيث ستقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي بتوليد معرفة جديدة تطبيقية، بدلاً من مواصلة التركيز على المعرفة التي سبق إنتاجها.
فالدول المتقدمة مثل الصين وصلت لمراحل متقدمة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية المعززة بالذكاء الاصطناعي Human and Social Sciences assisted by Artificial Intelligence ، في بناء سياسات داخلية وخارجية أفضل وذلك بالتنبؤ المبكر بالمخاطر واستشراف المستقبل وبناء نماذج مختلفة وبدائل للقرارات والسياسات، مما يؤثر على الحوكمة الداخلية والسياسة الدولية.
من جانب آخر سيثير تعزيز الحياة الإنسانية بالذكاء الاصطناعي الكثير من التحديات والتساؤلات المعقدة والتي لا يمكن معالجتها بشكل ناجع إلا من خلال تولي العلوم الإنسانية دورها في البحث في تلك التحديات والآثار السياسية والاجتماعية والثقافية، وتحديد القضايا القانونية والأخلاقية المرتبطة بتبني ونشر الذكاء الاصطناعي في المجتمع.
وككل شيء، سيكون لتعزيز العلوم الإنسانية والاجتماعية بالذكاء الاصطناعي مخاطره. فقد نرى مجال الدراسات والبحوث ونتائجها كساحات قتال افتراضية بين أشكال الذكاء الاصطناعي، التي ستسعى بلا شك إلى تعطيل بعضها البعض وإصابة أنظمة التحليل والتحكم التلقائي بالتضليل والتعليمات البرمجية الضارة.
هناك حاجة ملحة إذاً لتفكير نقدي واسع داخل الأكاديميات ومراكز البحوث لفهم الآثار المعرفية والاجتماعية والثقافية والقانونية والأخلاقية لثورة تعزيز العلوم الإنسانية والاجتماعية بالذكاء الاصطناعي على مجتمع البحث العلمي، ولتأطيرها بضوابط أخلاقية وقانونية.
في النهاية، لا بد من أن يستعد الباحثون والجامعات والمؤسسات البحثية العربية العاملة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية لمواكبة تلك الثورة والمشاركة في تحول العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى علوم معززة بالكامل بالذكاء الاصطناعي قادرة أكثر من أي وقت مضى على التنبؤ باحتياجات المستقبل والمضي قدماً في مسيرة المجتمعات نحو بناء اقتصاد المعرفة المستدام لضمان رفاهية وسعادة الإنسان.