يَضيع المُتابع لأخبار العراق في إيجاد دوافع عقلانية لتلويح نُخبهُ السياسية الدائم، بإعادة فتح “صندوق باندورا” من جديد، والذي تطلب بعد فتحه أميركياً 2003، عقدين من الزمن على الأقل لإعادة غلقه -جزئياً- مرة أخرى، وذلك بأثمان باهظة تحملها الجميع في المنطقة وأكثرهم العراقيين؛ بداية من الغزو والاحتلال والانسحاب وتداعيات كل منهما، حيث الاقتتال الأهلي، وتفشي التنظيمات الإرهابية وتمركزها هناك، وذروتها المتمثلة في تنظيم وفكر داعش، ناهيك عن عناوين أضحت اعتيادية طالما اقترنت بالعراق، من أعمال عنف وتكريس للفساد وفوضى سياسية وأمنية واجتماعية وانهيار اقتصادي لا تساعد عوائد النفط وتضاعف أسعاره في تخفيف آثاره على العراقيين، واستسهال النُخب السياسية تسوية الخلافات بأنواعها عبر السلاح، حتى وإن مال قطبي الاستقطاب الإقليمي، السعودية وإيران، للحوار بأنواعه والتهدئة بمختلف دوافعها خلال العامين، الماضي والجاري.
علاوة على ذلك، فإن استمرار واعتيادية تواجد المأساة العراقية، كأحد مكونات المعادلات الإقليمية والدولية المتغيرة، وساحة معتادة لإدارة صراعات المنطقة المتنوعة، وإطلاق بالونات الاختبار لتكريس تهدئة أو استئناف التصعيد، تجاه ملفات وقضايا قد لا يكون للعراق والعراقيين صلة بها أصلاً، سوى انفتاح نخبتهم السياسية لصراعات الوكالة، كسبب رئيسي لوجودهم، وكسبيل وحيد لاستمرارهم في مواقعهم وتكريس مكاسبهم الذين حصدوها خلال عقود الفوضى، حتى وإن غيرّ الرعاة الإقليميين لمقارباتهم نحو حوار بغرض خفض التصعيد وتكريس التهدئة، والذي لم ينعكس داخلياً على ساحات الصراع في المنطقة وعلى رأسها بلاد الرافدين، حيث تمسك نخبها وقادتها وشخوصها بالهرولة نحو تصنيف “الدولة الفاشلة” وتدرجاته، كآلية بقاء وحيدة.
في السطور التالية نحلل أبرز المتغيرات المستجدة على سيرورة الصراع الداخلي في العراق، والذي تمثل الأزمة الراهنة قمة جبله الجليدي، وذلك على ضوء حزمة من المتغيرات الخارجية، إقليمياً ودولياً، وعلاقاتها بمسارات إدارة هذا الصراع من حيث وتيرة التصعيد وإمكانيات التهدئة، ومصير القائمين عليه بمختلف مواقعهم السياسية والدينية والعسكرية.
-
التيار والإطار والحوار بين الرياض وطهران
أخر حلقات المأساة العراقية، وأخطرها من حيث احتمالية العودة لسنوات من الفوضى الدموية ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة، حيث اقتحام مقر البرلمان العراقي مرتين والاعتصام به حتى كتابة هذه السطور من جانب أنصار التيار الصدري، الذي يشكل بتحالفاته الأغلبية البرلمانية طبقاً لنتائج انتخابات أكتوبر 2021، بخلاف حيازة التيار أكبر كتلة برلمانية منفردة حتى استقالتهم الجماعية أواخر يونيو الماضي، وما تلا ذلك من تدهور سريع في مسار الأحداث، أخره دعوة لتظاهرات مليونيه لزعيم التيار رجل الدين السياسي، مقتدى الصدر، وذلك كذروة ضمن سلسلة من إجراءات وردود أفعال تصعيدية، أمنياً وسياسياً، خلال العام الجاري، تعيد للأذهان سنوات الفوضى والاقتتال الأهلي، والتلويح بهدم العميلة السياسة العراقية الهشة أصلاً.
وتعد الأزمة الأخيرة ذروة انحدار الأحداث في الداخل العراقي منذ مطلع 2020 لمستويات تهدد استقرار اجتماعه السياسي والأمني الهشّ بالأساس، والمندرجة بشكل مبتسر تحت عناوين مثل تسمية رئيس الوزراء الجديد وتالياً رئيس الجمهورية، وكيفية تشكيل الحكومة وفق أغلبية متحالفة أم ائتلافية أم وحدة وطنية، بالإضافة لعدد من العناوين الفرعية المتعلقة بقوانين ومقترحات تعديلات دستورية وإجراءات اقتصادية وأمنية، وهو ما تجلي في الإصدار الجديد من هذا التدهور في المشهد السياسي العراقي، والمتمثل في مرحلة جديدة من التفتت لمكونات الاجتماع السياسي المتخلف أصلاً، والذي في طور انحداره الجديد أضحت الخشية من فقدان التغطية والرعاية الخارجية، سواء لانتفاء الحاجة أو متغيرات الحوار والترقب والتحوط السائدة اقليمياً وخاصة بين الرياض وطهران خلال الأعوام القليلة الماضية، هي الهاجس المحرك لاستمرار النُخب السياسية في بغداد خلق وتوظيف الأزمات واحتراف التعطيل والتفنن في مفاقمتها.
فوت السابق الفرصة على العراق الاستفادة من فرص الحرب الأوكرانية والمتمحورة في ارتفاع عائدات النفط، وضياعها في متاهات الفساد والمحسوبية، بالتوازي مع انكشاف اقتصادي وخدمي، لم يعد الاستقطاب التقليدي على أرضية طائفية/إثنية يتكفل بتغطيته، وهو ما أرتد بشكل مباشر نحو أكبر مكونات الاجتماع السياسي هناك، ممثلة في ما بات يُعرف بـ”الشيعية السياسية” ولكن ليس بشكل حصري، وتفاقم الصراع داخله بين قطبيه في ثوبهما الجديد ممثلين في “التيار الصدري” و”الإطار التنسيقي“، كأوضح نموذج لتفشي الانشقاقات داخل مكونات الاجتماع السياسي العراقي طائفية كانت أو إثنية.
يمكن اعتبار محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، أواخر العام الماضي، نقطة البداية لهذا التدهور الأخير، ومحطة فارقة في مسار الصراع السياسي الداخلي في العراق وامتداداته الخارجية، حيث تسليح الخيارات السياسية ودفعها نحو الحد الأقصى المتمثل في التلويح بتفجير العملية السياسية والانتخابية ككل، وسيادة منطق القوة والسلاح بدلاً منها، وهو مثل الخط الأحمر الذي توافقت الأضداد الإقليمية على عدم تجاوزه، كون أن منصب رئيس الوزراء عموماً وشخص الكاظمي تحديداً، منطقة وسط جُربت لفترة لسنوات معتبرة عقب كارثة اجتياح الموصل، ومكنت معظم الأطراف من مختلف الطوائف والعرقيات والعشائر الالتقاء فيها على قاعدة الفوز للجميع، وهي المعادلة التـي يقبل بها ويدعمها معظم الخارج الإقليمي؛ حيث نجح الكاظمي في الانفتاح على الجميع وبناء صلات مع كافة القوى الإقليمية والدولية المعنية بالعراق، كتجربة ناجحة نسبياً في استعادة مظاهر الدولة واعتماد المؤسساتية كبديل لاستمرار بيئة ومناخ المحاصصة وارتهان القرار السياسي داخليًّا وخارجيًا لبندقية الميليشيات ووتيرة التصعيد والتهدئة بين القوى الإقليمية.
هذا التوافق النادر خارجياً وداخلياً على الكاظمي ووجوب أن يكون منصب رئيس الوزراء ممر وسطي يلتقي عبره الجميع، دفع أقصى يمين الشيعية السياسية نحو خيارات صفرية، تصاعدت قبيل وعشية إعلان نتائج انتخابات أكتوبر الماضي، خاصة مع انتفاء الحاجة لاستمرارهم داخلياً بعد هزيمة داعش، وخارجياً باستقرار مؤشر التصعيد الإقليمي الخاص بالعراق عند أدنى مستوياته منذ عقود، كاستثناء فوق الدولة استند على فتوى دينية تم دعمها باستثناءات دستورية وقانونية لاحقاً، باتت استدامتها أو إنهاءها محور الصراع داخل الشيعية السياسية بالعراق، وتجلي هذا عبر أحداث برلمانية وقضائية وارتداداتها الأمنية، امتدت طيلة العام الجاري كان أبرزها تسريبات صوتية منسوبة لرئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، ما جعل الخلافات داخل المكون الشيعي تطفو على السطح بشكل متسارع، وجعل الصدام والتهديد المستمر بالتصعيد بمثابة الوسيلة الوحيدة لشد عصب هذه الجماعات وإبقائها تحت سيطرة قادتها، وتوجيه فائض القوة الآتي من واقع امتلاك السلاح ودحر داعش، نحو مشروع الدولة الوطنية والمتعاطين معه حتى داخل المكون السياسي الواحد.
-
الرؤوس الحامية ومنهجية عيش الضباع
السابق جاء كرد فعل ضد الاتجاه المستجد داخل كل مكونات الاجتماع السياسي العراقي، والمتخطي لمختلف أشكال الاستقطاب السياسي والاجتماعي هناك منذ 2003، والآخذ في التبلور بعد هزيمة تنظيم داعش عسكرياً، نحو محاولات حثيثة لاستعادة شكل الدولة والمؤسسات، والتي كانت تعاني من اهتراء وترهل وفساد مزمن من قبل الانسحاب الأميركي حتى. مما خلق صدام يدفع الصراع السياسي في العراق نحو مستوى أخطر مما كان عليه في مرحلة سنوات المحاصصة والاقتسام والمساومة بين مختلف شبكات المصالح بعد الانسحاب الأميركي 2009، والتي هيأت الظروف الموضوعية لدولة داعش واجتياح أكثر من ثُلث العراق منتصف 2014، واقتناص هذه الكارثة كفرصة من جانب هذه الشبكات لإعادة إنتاج نفسها، وترسيخ وعسكرة وجودها استناداً على تمديد سنوات الفوضى والخراب، حتى باتت عناوين مثل الاستقرار والمحاسبة واستعادة الدولة وإنفاذ القانون، تهديداً وجودياً لمعظمها.
خارجياً، توازى السابق مع متغيرات دولية سريعة خلال الأعوام القليلة الماضية، بداية بوباء كورونا ووصولاً للحرب الأوكرانية وانعكاساتها على المنطقة، والمتجسدة في تحركات إقليمية من شأنها إدارة مخاطر واقتناص فرص كل منهما، وهو ما هيأ لهدوء نسبي في الإقليم مقارنة بسنوات العَقد الماضي، تمثل في جولات من الحوار والتهدئة بين القوى الإقليمية المتصارعة، بعد 10 سنوات على الأقل من حروب الوكالة، والتي كانت العراق مسرحاً رئيسياً لها، وهو ما جعل انعكاسات المخاطر الخارجية تتضاعف من حيث هشاشة وتخلف البُنية السياسية هناك لتفعيل واستقبال السابق والالتزام بوتيرته، ناهيك عن توفر الإرادة الوطنية لأي من مكونات الاجتماع السياسي العراقي، التي باتت عُملة شديدة الندرة في ظل تفشي الولاءات الإثنية والطائفية والجهوية والعشائرية وارتباطاتها بالخارج، بل وتشظي هذا حالياً نحو ولاءات شبكاتية/عصابية داخل كل مكون، تتميز في أغلها أنها بلا رؤية أو أفق سياسي، والاكتفاء بخطاب شعبوي رجعي أياً كانت رطانته الدينية/الطائفية/ الإثنية.
أوجدت هذه المتغيرات الإقليمية حالة من التوجس والارتياب من قطاع معتبر من الوكلاء المحليين، أي من استفادوا بكافة الأشكال من سنوات احتدام الصراع الإقليمي وخاصة منذ 2011، حيث بطء وتلكؤ الوكلاء المحليين بأنواعهم في مختلف البلدان (منها العراق سوريا لبنان اليمن ليبيا السودان) في استيعاب المتغيرات الدولية والإقليمية، والعمل وفقها بمنهجية سياسية أياً كان الموقف منها، وإحلال أنماط عصابية تعبر عن شبكات المصالح المتداخلة في كل مكون طائفي/جهوي/إثني/أيديولوجي، والتي استفحلت واستقوت في ظل انهيار مؤسسات الدولة وضعفها لمختلف الأسباب في مختلف هذه البلدان. وتفتقد هذه الأطر والتنظيمات لتراتبية قيادية تندرج تحت مظلة سياسية تعبر عن الانتماءات السابقة، وبالتالي فأنها لا تخضع للمواءمات والتفاهمات السياسية على مستوى الداخل أو الخارج، وهو ما تعزز بشكل غير مسبوق بفضل انفلات السلاح وغزارته في العراق، وانفلاته لاحقاً خارج ما يريده الرعاة الإقليميين والدوليين وتوقيتاتهم.
يمكن اعتبار السابق ظاهرة إقليمية تمتد في كل ساحات الصراع في المنطقة وفي كل المجالات السياسية والإعلامية وطبعاً العسكرية والأمنية، مفادها أن العقبة الرئيسية في تمرير أي تهدئة بالمنطقة واستقرارها هو المكون الأكثر تطرفاً -ليس بالمعنى الأيديولوجي حصراً- ويمتلك النفوذ والتمويل والسلاح، وأفرط في استخدامه في مرحلة احتدام الصراع، والذي أمسى في مرحلة الهدوء النسبي الاضطراري الجارية، خارج أولويات معادلات التسوية والتهدئة الجاري حسابها حالياً، ما جعل عناوين مثل “الإدماج” و”والمحاسبة” و”إنفاذ القانون” في بلاد مثل ليبيا أو العراق، تعد بمثابة تجريد لشبكات مصالح وأطر هذا المكون من مكاسبهم وقوتهم، وارتفاع احتمالية محاسبتهم واقصاءهم ككباش فداء في مختلف المجالات وليس فقط العسكرية والأمنية، خاصة إذا كانوا من المكون المتطرف الغير مقبول كواجهة للتسوية بأنواعها.
يتضح هذا بجلاء في الأزمة العراقية الراهنة بمختلف مراحلها، حيث عدم اشتباك الفاعلين الإقليميين بالدفع نحو الخيارات الصفرية لطرفي الأزمة -التيار والإطار- والاستمرار في سياسة التحوط واللجم البادئة منذ محاولة اغتيال الكاظمي، حيث أتى أبرز رد فعل عليها من جانب إيران، ومن خلال قائد فيلق القدس، إسماعيل قآني، بزيارة عاجلة للعراق اعتبر خلالها محاولة الاغتيال من جانب من أسماهم بـ”الرؤوس الصلبة” تهديداً لأولويات بلاده ولأمن العراق. مما يعني أن طهران تمارس لأول مرة ضغوطاً، وبشكل علني، ضد مظاهر انفلات السلاح واستخدامه في الصراع السياسي، كأحد تجليات منهجية اللعب على حافة الهاوية من قبل الجماعات الموالية لها، وضبط إيقاع نشاطها بحيث يتفق مع الأولويات الإيرانية الراهنة، والتي من ضمنها التأكيد على أن طهران هي الجهة الوحيدة القادرة على كبح جماح هذه الجماعات في العراق وغيرها، والدفع أكثر للانخراط في تصعيد سياسي مُدار، خطه الأحمر العودة للاقتتال واستخدام السلاح لتمديد واقع مفاده اعتياد وجود قوى سياسية واجتماعية فوق الدولة والمساءلة القانونية، تنشط الأن عبر التهديد بالعنف المسلح وانفلاته خارج حدود البلد الواحد، للوصول لتسوية على غرار ما اعتادته الطبقة السياسية في لبنان لعشرات السنين كنموذج استرشادي.
استنتاجات عامة واستشراف
قد يكون وصف الأزمة الحالية في العراق بأنها مجرد “صيف ساخن” أخر، اعتادته البلاد طيلة السنوات الكثيرة الماضية، غير دقيق، وذلك كون وتيرة تدهور مجرياتها هي الأسرع، من حيث بدايتها بخلاف على نتائج الانتخابات البرلمانية، وتالياً تسمية رئيس الوزراء الجديد، وصولاً للتلويح بتفجير العملية السياسية ككل، سواء كان ذلك عبر التهديد بالسلاح واستخدامه في حوادث فارقة كمحاولات اغتيال المسؤولين، أو عبر آليات الحشد والتعبئة من التظاهر وحتى الاعتصام، وهو ما يعني أن الهامش الوحيد للحركة داخل هذا الاحتقان الراهن، يتمثل في أدوات إداراتها، وليس حلها في القريب العاجل.
هنا يمكن رصد نقاط رئيسية يمكن استشراف مستقبل هذه الأزمة من خلالها، ومدى التحكم في وتيرتها ما بين التجميد والتصعيد، وليس الحل، كون أن حل الأزمة يرتبط بعوامل تجعل ما يدور في بغداد الأن مجرد ثقب باب لمتغيرات داخلية وإقليمية شديدة العمق والتأثير، تجعل البنية السياسية في العاصمة العراقية رهن إعادة هيكلة جذرية، وتيرتها ومحدداتها لازلت في طور البلورة على كافة المستويات والتدرجات البادئة من صراعات المكون السياسي الواحد، وصولاً للمتغيرات الدولية والإقليمية وكيفية ضبط الأولويات والتوقيت، كذلك تلزيم الوكلاء بخطوط حمراء جديدة للتصعيد.
- أولى هذه النقاط، وتتعلق بالسلاح واستخدامه، وهي المسألة التي يبدو أن هناك إجماع إقليمي بين الأضداد للجمه وتقييده ولو مؤقتاً، وذلك لاعتبارات الحوار والتهدئة الجارية، والنظر لمدى الاستمرار فيها، دون التلويح بالعودة لنقطة الصفر، خاصة إذا ما كانت ظروف استدعاءه لأخر حلقات مسلسل الأزمة الداخلية في العراق، متأخرة في أولويات القوى الخارجية المعنية ببلاد الرافضين.
- ثانياً، خلق أدوات وأساليب جديدة بديلة عن السلاح في إدارة الأزمة الراهنة، والتي تمثلت داخل قطبي الأزمة في التلويح باستخدام السلاح دون استخدامه فعلياً -منذ محاولة اغتيال الكاظمي على الأقل- وهو ما ظهر عبر التسريبات المنسوبة للمالكي، والدفع بأشكال متدرجة من التصعيد “المدني” عبر التظاهرات والاحتجاجات الشعبية بمختلف أشكالها، والتي وصلت إلى اقتحام البرلمان والاعتصام به من جانب أنصار التيار الصدري، وخاصة بعد تقديم نوابه ذو الأكثرية استقالتهم.
- ثالثاً، الانقسام داخل “الشيعية السياسية” ليس محصوراً على هذا المكون فقط، ولكن هو الأكبر والأكثر تأثيراً داخل مكونات الاجتماع السياسي في العراق، وبدوره فإنه يمثل نموذج استرشادي لباقي المكونات بمختلف تنويعاتها، سواء من حيث مسبباته، وكيفية تشبيكه مع مختلف الملفات المحلية والإقليمية، ومحددات وأدوات إدارته، ولاحقاً الوقوف على أفقه من حيث الحل أو التجميد والإبقاء عليه بضغط خارجي ضمن حدود ما يمكن أن نسميه بـ”تصعيد مُدار”.
- رابعاً، هذا التصعيد المُدار يرتبط بما هو أكثر من أسباب الأزمة الراهنة داخل المكون الشيعي العراقي، والصراعات السياسية في العراق ككل؛ حيث يمتد تأثير ملفات إقليمية ودولية بوتيرته ومداه الزمني والمكاني، أبرزها مفاوضات فيينا النووية، والحوار بين الرياض وطهران وعواصم خليجية وعربية، كذلك بتطورات الصراع بين القوى الدولية والمعنونة حالياً في الحرب الأوكرانية وأزمة تايوان، وموقع الشرق الأوسط منها وكذلك موقع العراق في أولويات هذه القوى.
- خامساً، يتضح أن تبلور مشروع وطني عابر للانقسامات بأنواعها في العراق، أحد مسببات الأزمة الراهنة، كون هكذا مشروع يهدد شبكات مصالح استفادت من تحلل مظاهر الدولة وقوتها طيلة السنوات الماضية، وتضع النموذج اللبناني بعيوبه المزمنة من فساد وزبائنية و إقطاع سياسي إلخ كدليل استرشادي، يتطلب فقط غطاء إقليمي يخلق ويرعى معادلة ما دون الدولة في الداخل العراق، والتي في مقابلها مجرد إرهاصات وتجارب ترتبط بأشخاص تدفع نحو المؤسساتية وتقوية مركزية الدولة ومؤسساتها، وتضع نموذج مصر-السيسي كدليل انقاذي للخروج من أزمات العراق المزمنة، وخاصة مع توافر موارد أهمها النفط، ورؤى لمشروعات إقليمية محورها الطاقة، يعرقلها الفساد والمحاصصة السياسية.
- سادساً، هناك بوادر اتفاق بين القوى الإقليمية في إنهاء ولملمة فوضى العقد الماضي في المنطقة، وذلك عبر استعادة الدولة الوطنية ومؤسستها الموحدة في البلدان المفككة، ولكن تختلف مقاربات وتوقيتات وأولويات هذه القوى فيما يتعلق بالسياق العراقي، وهو ما نتج عنه منطقة وسط تمثلت في إيجاد أسماء توافقيه مرحلياً، أبرزها كان نموذج الكاظمي في العراق، وهو ما يشي خلال مجريات الأزمة الأخيرة هناك، أن القوى الإقليمية وحتى الدولية المعنية بالعراق، ليس لديها مانع في أن تُعاد هيكلة البنية السياسية في بغداد وفق معادلات وأسماء توافقية لديها داخل كل مكون استعداد للحوار بأفق سياسي وانفتاح على خيارات تضمن الفوز للجميع وليس خيارات صفرية، وهو ما تجلى في جولات حوار بين أفراد وأحزاب وأطر سياسية داخل التيار والإطار وبينمها أستبعد منها الأسماء والأطر الجدلية والمثيرة للخلافات، إلا أن تكريس هذا لا زال يخضع لعوامل إقليمية ودولية من حيث التوقيت وترتيب الأولويات، ولكن أيضاً يضمن استمرار وجوده على الطاولة بين المتحاورين في المنطقة وتحديداً الرياض وطهران، عدم انزلاق الصراع في العراق نحو المجهول، وذلك كخط أمان أخير، يتفنن كل من الإطار والتيار في اللعب على حافته.