خلال النصف الأول من عام 2020، وبينما تفشت جائحة كوفيد-19 في موجتها الأولى، متسببة في حالة من التوتر لم يشهدها كوكبنا منذ أكثر من مائة سنة مع الأنفلوانزا الإسبانية، تعلّقت العيون بتلك الحالة الحرجة التي يقف عندها العلم في تماس مع السياسة، فالخبراء من جونز هوبكنز أو هارفارد مثلا سيقولون شيئًا ما قد لا يكون مع هوى الساسة، خاصة من أصحاب التوجهات اليمينية مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
في كل دول العالم تقريبًا كان هذا التقاطع بين أهداف العلماء وأهداف الساسة موجودًا، وهذا مفهوم فأمور مثل الحاجة إلى فتح الإقتصاد وحركة الطيران وهجرة العمالة واستيراد المنتجات من دول أخرى، في عالم يعيش -حرفيًا- اليوم بيومه، كانت تعتمد بالكلية على ما يقوله العلم، في بعض الاحيان تمكنت السياسة من التدخل لإعادة صياغة منتجات البحث العلمي بما يوافق هواها، والعكس حدث في أحيان أخرى، وفي النهاية فقد استخدمت نتائج الأبحاث العلمية في أروقة الحكومات والبرلمانات بصورة سخية، بل ربما الأكثر كثافة في تاريخ العلم.
لكن في أثناء كل ذلك طغت نظرة سلبية على رؤية الجمهور لتلك العلاقة، بل تصور البعض أننا أمام مؤامرة تمت حياكتها للسيطرة على العالم أجمع. هناك أسباب كثيرة لهذه النظرة، والتي لم تكن بسبب كوفيد-19 فقط بل تمتد لعقود طويلة مضت، لكن ربما كان أحد أهم الأسباب هو جهل الناس بطبيعة العلم، فهم يتصورون أنه آداة محايدة تمامًا، لا تتأثر بالظروف المحيطة.
العصور الذهبية
إلا أن ذلك خاطئ، بالطبع فإن النتائج العلمية محايدة في منطقها للكشف عن الحقائق العلمية، إلا أن توجه البحث العلمي نفسه كان طوال التاريخ مشوبًا بالأهداف السياسية، وهذا في الواقع لم يكن سلبيًا على طول الخط بل كان ايجابيًا في الكثير من الحالات، ولننظر مثلا إلى العصور الذهبية من الحضارة الإسلامية، نعرف أن الإسلام يرفض التنجيم ويعتبره متناقضًا مع العقيدة الإسلامية فضلا عن كونه ضربًا من الخرافة، لكن على الرغم من ذلك الموقف كان للنخب الحاكمة في تلك العصور ولعًا بمسائل التنجيم مما دفع الكثير منهم الى تشجيع المنجمين، والواقع أن تلك كانت احدى نقاط انطلاق علم الفلك.
إلى جانب ذلك، فإن مسائل مثل مواقيت الصلاة، واختلافها من بلد لآخر، ومواعيد الصيام، والحاجة إلى وضع قوانين عامة تحكم كل الدول في أرض الخلافة، تطلبت أن ينفق رجال الدولة الأموال على الباحثين في نطاق علم الفلك للتوصل إلى أدق النتائج، هذا ولم نتحدث بعد عن “الوعي الحضاري” الذي تطور لدى العرب في تلك الحقبة فتتبعوا العلوم مثل من سبقهم من الأمم المتقدمة.
ولا يتوقف الأمر فقط عند حدود تلك الحقبة التاريخية، في الواقع كانت معظم التطورات المبكرة في الرياضيات وعلم الفلك والهندسة نتاجًا ثانويًا لأهداف فورية وعملية، والأهم من ذلك سياسية، كانت احتياجات المسح والمحاسبة هي الدافع وراء الرياضيات المصرية والبابلية والصينية والهندية واليونانية القديمة، في حين أن التقويمات التي تم إنشاؤها للأغراض الدينية والزراعية دفعت بعلم الفلك المبكر.
صواريخ بدلا من الدبابات
وحتى في التاريخ الحديث، تأمل مثلا الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي في أثناء الحرب الباردة خلال الفترة من الأربعينيات حتى التسعينيات، يمكن القول بكل ثقة أنه كان سببًا مباشرًا في التقدم الثوري لعلوم الفضاء، في الواقع فإن برنامج الرئيس الأمريكي جون كيندي لوضع انسان على سطح القمر، والذي بدأ قبل اعلانه الشهير سنة 1961، قد تكلّف – بعد ضبط معايير التضخم – ما يصل إلى حوالي 150 – 200 مليار دولار!
نتحدث هنا عن مئات الإطلاقات الصاروخية من قبل الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية في فترة قصيرة نسبيًا، بل لا تحاول مقارنة الأمر بما تراه هذه الأيام من اطلاقات الصواريخ الخاصة بأي من الدولتين أو حتى شركات خاصة مثل سبيس أكس، لقد تراجعت البرامج الفضائية بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن في تلك الفترة كان خبر في التليفزيون أو الجرائد بعنوان “صاروخ في الطريق إلى القمر” هو شيء يومي معتاد للناس في الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي، وذلك ببساطة لأن الذهاب إلى القمر لم يكن مهمة علمية في جوهرها، كل تلك التكلفة الهائلة كانت بديلًا موضوعيًا لتكلفة طائرات والرؤوس والسفن الحربية، لقد كان حربًا، لكن القتال خلالها لم يكن بالدبابات، بل بروّاد الفضاء.
في الواقع، لابد حينما نتأمل منجزات التلسكوب الفضائي جيمس ويب، وهو مشروع تقوده الولايات المتحدة الأمريكية تكلف أكثر من 10 مليار دولار، أن نتأمل الجانب السياسي الذي يتضمن صراع بارد جديد في السيطرة على سوق المنجزات العلمية بين الولايات المتحدة والصين، التي اتبعت منذ ثلاثة عقود برامج تنمية مدفوعة بالبحث العلمي، وبالفعل حققت بعض المنجزات في نطاقات علوم الفضاء تحديدًا.
من تلك النقطة تكون ميزانية جيمس ويب، في أحد أهم جوانبها، هي هدف سياسي بجانب كونها هدف علمي، لذلك حرص الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يقوم بنفسه بالإعلان عن أول صورة من التلسكوب جيمس ويب، تكشف عن بعض أقدم المجرات في الكون.
تدليس باسم العلم
هناك أيضًا جوانب كان فيها للسياسة تأثير سلبي تمامًا على العلم، الحركة الليسينكووية التي ظهرت في الثلاثينيات من القرن الفائت، وهي حملة علمية قائمة على أهداف سياسية ظهرت على يد البيولوجي السوفيتي “تروفيم ليسينكو”، لترفض كل أساسات علم الوراثة سواء عبر الجينات أو قواعد مندل أو الانتقاء الطبيعي، وتزعم أن الصفات المكتسبة تتوارث وأن الكائن قد يتحول من نوع لآخر!!
قد تتعجب من ذلك، لكن جوزيف ستالين أيّد هذه الفكرة وشن حملة لفصل وسجن وإعدام آلاف علماء ومتخصصي البيولوجيا الرافضين لها. كان سبب ذلك هو تعارض هذه العلوم مع المذهب الماركسي القائل إن جوهر طبيعة الإنسان يمكن أن يتغيّر بفعل البيئة، مما دفع “لينسكو” لمحاولة إيجاد دليل علمي للفلسفة الماركسية، ولاقت أبحاثه دعما كبيرا في حين أنها كانت -ببساطة- خاطئة.
انتهت الليسينكووية في الستينيات، بعد قرابة أربعين سنة من التدليس باسم العلم، أدّى ذلك إلى تراجع شامل في العلوم البيولوجية السوفيتية ما زال واضحا إلى لحظة كتابة هذه الكلمات.
هذا ولم نتحدث بعد عن استخدام علوم الوراثة لأغراض سياسية بحتة، تأمل مثلا “علم تحسين النسل النازي” ، وهو مفهوم يشير إلى السياسات الاجتماعية التي كانت في مركز الإيديولوجية العنصرية للنازية والتي هدفت إلى التحسين البيولوجي للشعب الألماني من خلال التكاثر الانتقائي لصفات تكون “الآرية” في مركزها. كانت أبحاث تحسين النسل في ألمانيا قبل وأثناء الفترة النازية مماثلة لتلك التي أجريت في الولايات المتحدة ، والتي كانت مصدر إلهام كبير لها.
كان المستهدفون بالتدمير بموجب سياسات تحسين النسل النازي من الأشخاص الذين يعيشون في مؤسسات خاصة وتديرها الدولة، والتي تم تحديدها على أنها “حياة لا تستحق الحياة”، وكان من بين هؤلاء السجناء والمعارضون والأشخاص الذين يعانون من إعاقات خلقية أو أصحاب الإضطرابات العقلية، بل كان تشخيص حالة “ضعف العقل” هو العلامة الرئيسية المعتمدة في التعقيم القسري.
ويمكن بالطبع أن نتأمل دراسة صدرت قبل عدة أعوام من دورية “كلايمت تشينج” التابعة لمؤسسة سبرينجر تقول إنه بين عامي 2000 و 2016، أنفق أعضاء جماعات الضغط السياسي أكثر من ملياري دولار من أجل التأثير على التشريعات ذات الصلة بالتغير المناخي في الكونجرس الأمريكي.
وفي نطاق التغير المناخي تحديدًا، ستجد دائمًا أن هناك فجوة مذهلة بين ما هو ضروري لتجنُّب تطور تغير المناخ بشكل خطير وبين ما فُعِل حتى الآن، في دراسة أخرى بدورية “نيتشر” ظهر أن أحد التأثيرات المثبطة على تمرير القوانين المناخية هو عمليات الضغط السياسي التي تمنع تمريرها. بسبب هذا الضغط السياسي، فإننا الآن نواجه مشكلات مناخية يعتقد العلماء في هذا النطاق أنها ستمتد لآخر القرن، وربما لا تحل تلك المشكلة أبدا.
سياسة العلم
يبدو إذن أن العلم والسياسة يتقاطعان في علاقة معقدة مستمرة، تكون ايجابية في بعض الأحيان وسلبية في أحيان أخرى، لهذا السبب تحديدًا نشأ اصطلاح حديث هو “سياسة العلوم” Science policy، ويعني النطاق الذي يربط بين الخبرة العلمية والقرار السياسي، يعمل خبراء السياسة العلمية كجسر بين الباحثين والجمهور ، فيترجمون القضايا العلمية، والتي غالبًا ما تكون عالية التقنية إلى شيء يمكن بيعه كسياسة جيدة.
في قضايا مثل التغير المناخي، كانت هناك دائمًا إستشهادات علمية متضاربة بين المؤيد والمعارض من الجهات السياسية، هذا العالم يقول كذا وهناك عام آخر يقول كذا، لكن بوجود متخصصين في سياسة العلوم ضمن جهات اتخاذ القرار يمكن ضبط هذه العملية العشوائية قدر الإمكان، خاصة مع العمل على توضيح مفاهيم غاية في الأهمية لجماعات السياسيين، مثل “اجماع العلماء”، وكيف أن ورقة بحثية واحدة لا تكفي للمضي قدمًا في اتخاذ قرار ما، وأن طبيعة العلم لا تحمل يقينًا مطلقًا لكن احتمالاته فعالة جدًا.
تهتم سياسة العلوم بتخصيص الموارد لتسيير العلوم نحو هدف خدمة المصلحة العامة على أفضل وجه، ويتضمن ذلك تمويل العلوم ومهن العلماء وترجمة الاكتشافات العلمية إلى ابتكار تكنولوجي لتعزيز تطوير المنتجات التجارية والقدرة التنافسية والنمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية.
من تلك الوجهة، تركز سياسة العلوم على إنتاج المعرفة، وبالتالي فإنها تلعب دورًا هامًا في تنظيم شبكات المعرفة، ويشمل ذلك علاقة بين عدد من العناصر، مثل الجهات الحكومية والشركات الخاصة والحركات الاجتماعية ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية والجامعات ومؤسسات البحث العلمي الأخرى .. الخ.
لكن على الرغم من ذلك، فإن تنظيم العلاقة بين العلم والسياسة سيتطلب الكثير من الوقت، لأنه لازالت هناك نقاط تقف محل نقاش، تتعلق جميعها بأن العلم والتقنية ليسا مفيدين على طول الخط، ولكن إذا قمت بتقييدهما إلى درجة كبيرة، حتى ان كان ذلك لضمان السلامة، لن يكونا مفيدين من الأساس! يختلف المتخصصون في تلك النطاقات على طبيعة تلك الدرجة، إلى أي مدى نحتاج أن نقيد العلم بحيث يظل علمًا؟! ومن هو المسؤول عن تقييد العلم، هل هو توجه سياسي ما؟ ومن من المفترض أن يعمل على تقييد من، العلم أم السياسة؟