لطالما كانت سوريا ملتقًى تجاريًّا مهمًا في المشرق العربي؛ فدمشق وحلب كانتا من أهم المدن التجارية في الإقليم عبر عدة عصور. ولكن ما أضافته عوامل الصراع السياسي والعسكري في المنطقة أن أصبحت لهذه الميزة التنافسية للموقع الجغرافي وجه آخر، يعتمد بالأساس على توليد الدخل في الخفاء بعيداً عن سياسة العقوبات التي فُرضت في المنطقة خلال العقود الماضية. وهكذا نشطت شبكات الجريمة المنظمة التي استفادت من تفاوت الأنظمة الاقتصادية في دول المنطقة لتوليد الدخول عبر تهريب البضائع والبشر، سواء كانت هذه البضائع شرعية أو غير شرعية.
لقد نسجت هذه الشبكات علاقات وثيقة بشكل متغير من عصر إلى آخر مع السلطات القائمة في دمشق كي تسهل هذه العملية مقابل الحصول على مقابل أو ضرائب على السلع المهربة. فيما كان سلوك السلطات السورية متفاوتًا إزاء هذه الشبكات للجريمة المنظمة تبعًا لحجم الضغط الذي يمارس عليها من المجتمع الدولي ومدى وقوعها تحت طائلة العقوبات من عدمه. فكلما حازت دمشق مكاسب من الشراكات الدولية المعلنة كلما كان لديها حافز للسيطرة على الجريمة المنظمة لاسترضاء الخارج. وكلما ضغط الخارج بعقوبات وحصار ضد دمشق، كلما ازدهرت الجريمة المنظمة وربما أصبحت من خلف الستار أحد أدوات توليد الدخل البديل، وأصبح التهريب أحد أهم أدوات النظام السوري للحصول على الاحتياجات الأساسية.
التهريب عبر الحدود ما قبل الحرب السورية
يُنظر للتدخل العسكري السوري في لبنان منذ العام 1976 باعتباره البوابة الأبرز التي دخلت منها تجارة التهريب في الاقتصاد الخفي السوري واستوطنت فيه. لقد انتعشت حول الجيش السوري في لبنان شبكات التهريب إلى داخل سوريا، وتراوحت بين تهريب السلع المشروعة بعيداً عن أعين الجمارك السورية وصولاً إلى تهريب السلع غير المشروعة من سوريا إلى لبنان والعكس.
أما على الحدود مع العراق، فقد انتعشت لسنوات طويلة تجارة تهريب النفط العراقي إلى المصافي السورية ومن ثم بيعه في الأسواق العالمية باعتباره سورياً، أو تهريب السلع الممنوع توريدها إلى العراق عبر سوريا، وهكذا أصبحت سوريا منفذاً للنخبة العراقية للحصول على سلع الرفاهية أو جسراً لتمرير النفط العراقي بعيداً عن أنظار العقوبات الدولية. ازدهر أيضاً التهريب عبر الحدود السورية العراقية عقب الغزو الأمريكي للعراق وحل الجيش العراقي، فكانت الحدود المشتركة مرتعاً للجريمة المنظمة وكافة أنواع التهريب. انتعش خلال هذه الفترة تهريب المشتقات النفطية العراقية إلى سوريا، فضلاً عن تهريب الآثار العراقية إلى الخارج. بينما ازدهر نوع آخر من تجارة البشر بتهريب المهاجرين الراغبين في مغادرة العراق عبر سوريا ومنها إلى دول أخرى أو اختطاف النساء والفتيات وإيهامهن بالهجرة ثم احتجازهن واستغلالهن جنسياً في شبكات للدعارة المنظمة.
لم تكن السلطات السورية ضالعة آنذاك في إدارة أو التنسيق مع شبكات الجريمة المنظمة الناشطة على الحدود العراقية بينما استمرت هذه الشبكات في دفع ضرائب وإتاوات ثابتة على هذه الأنشطة غير المشروعة لموظفين متوسطي الرتبة مما أسس لتلاحم الجريمة المنظمة مع شبكات الفساد داخل السلطات القائمة. ولكن كان تهريب المقاتلين السوريين الراغبين في قتال الأمريكيين في العراق بكل تأكيد بضوء أخضر رسمي سوري. وكانت دمشق في ذلك تعتبر أن السماح بتهريب المقاتلين إلى العراق ورقة ضغط تمكنها من المساومة مع واشنطن على الملفات الإقليمية المختلفة وخاصة بعد زيارة كولن باول الشهيرة لدمشق للضغط على النظام السوري للسيطرة على الحدود مع العراق في مايو 2003. إذ كانت سوريا آنذاك بمثابة الهدف التالي للأمريكيين بعد غزو العراق في لعبة الإطاحة بالأنظمة، وكانت دمشق تعتبر تسهيل سفر المقاتلين إلى العراق فرصتها الذهبية كي يتعثر الأمريكيون في العراق ومن ثم ينجو النظام السوري من خطر الإسقاط بالغزو الخارجي الذي كان حينها خطراً ماثلاً في الأفق.
أما على الحدود اللبنانية، فقد حافظت سوريا على وجودها العسكري خاصة بطول الحدود المشتركة وحافظت أيضا على وضع ضبابي فيما يتعلق بترسيم الحدود بشكل رسمي بين البلدين. فيما كانت دعايات المقاومة والممانعة وحماية خط إمداد المقاومة بالسلاح لمواجهة إسرائيل هو العنوان المثالي للتغطية على نشاط شبكات التهريب الناشطة بين البلدين. وبطبيعة الحال كان التهريب الداخل إلى لبنان يشمل السلاح والعتاد لحزب الله. لكنه أيضا كان تجاريًّا لتحقيق مكاسب اقتصادية يسعى من خلالها الحزب إلى تأسيس نظام اقتصادي بديل ليدير به أنشطته ويرعى به جمهوره الحاضن ويقدم به الرشاوي اللازمة لاختراق أركان الدولة. أما على الحدود التركية والإردنية فقد كانت الجهود بين البلدين تتواصل من الجهتين للتخفيف من آثاره وملاحقة الضالعين فيه؛ فالعلاقات بين أنقرة دمشق وأيضا بين دمشق وعمان قبل 2011 كانت مزدهرة للغاية وكانت حركة التجارة البينية مع البلدين في أعلى معدلاتها.
شبكات الجريمة المنظمة بعد اندلاع الحرب
تسببت الحرب السورية في انهيار سيطرة النظام على رقعة كبيرة من الآراضي السورية؛ ومن ثم أصبحت تدريجياً السيطرة على شبكات الجريمة المنظمة أقل كفاءة، في ظل بروز أولوية أهم وهي الحفاظ على النظام من السقوط. وإزاء تراجع سلطة النظام الرسمي وبروز قوى سياسية وميليشيات مسلحة أخرى تشابكت علاقات شبكات التهريب مع المسيطرين الجدد على الأرض. وبمجرد خروج بعض المناطق عن سيطرة النظام السوري سيطر الفاعلون المحليون على المشهد وتم بناء نموذج جديد للإدارة الاقتصادية وتوليد الدخل المرتبط بالحرب. وكلما كان نموذج اقتصاد الحرب ناجحًا ومدرًّا للدخل، كلما قلت فرص نجاح المساعي في إنهاء الحرب؛ لأنها لم تعد قائمة على إيديولوجيات أو طائفية أو حتى مطالب سياسية، بل أصبحت معبرة عن مصالح اقتصادية تم إرسائها ولن يتخلى عنها بسهولة المستفدون منها.
ازدهرت داخل مناطق سيطرة الميليشيات المعارضة تجارة الأسلحة بشكل كبير وكانت مكوناً أساسياً من دورة حياة هذه الميليشيات. فالقوة النسبية التي تتميز بيها ميليشيا عن أخرى هي بمقدار ما كانت تحوزه من سلاح وعتاد سواء كان من خلال مداهمة مخازن أسلحة النظام أو سيطرتها على تجارة السلاح القادمة من الخارج وخاضةً من العراق إلى داخل الآراضي السورية. بينما كانت معادلة اقتسام الغنائم بين الميليشيات في عملياتها المشتركة ضد معاقل النظام السوري تتم وفق القوة النسبية لكل ميليشيا والسلاح الذي كانت أصلاً تسيطر عليه. لذا وبشكل خاص، كانت الميليشيات الجهادية المرتبطة بداعش والقاعدة والتي تحتفظ بعلاقات وطيدة مع شبكات التهريب عبر الحدود العراقية والتركية هي الميليشيات الأقوى على الساحة والأكثر سيطرة على المشهد.
في المقابل، كانت الحاميات العسكرية التي انشقت عن الجيش النظامي أو المجموعات الثورية التي انبثقت من الحراك السلمي وقررت حمل السلاح، هي الأضعف والأقل قدرة على الاستمرار في العمل العسكري نظراً لانفصالها عن شبكات الجريمة المنظمة وارتباطها أكثر بالقيم المدنية التي قامت على أساسها الاحتجاجات الشعبية وصولاً إلى الثورة. تمددت شبكات تهريب السلاح عبر الحدود اللبنانية لفترة قصيرة حيث تم استجلاب السلاح من شمال إفريقيا وخاصة ليبيا عبر وساطات وأموال متبرعين من بعض دول الخليج لصالح الميليشيات السورية الناشئة عبر ميناء طرابلس اللبناني ثم براً إلى الآراضي السورية. ولكن سرعان ما تم إجهاض هذا الطريق بوساطة سيطرة حلفاء النظام السوري في لبنان على الطرق البرية منه إلى سوريا.
ثم عاودت شبكات تهريب السلاح للنشاط شمالًا عبر الحدود التركية وشرقًا عبر الحدود العراقية؛ وهي الخطوط التي أصبحت أكثر استقرارًا لمد المقاتيلين المعارضين في سوريا بالسلاح والذخيرة. وفيما كانت أغلب الميليشيات تعتمد على خطوط تهريب السلاح عبر الحدود مقابل دفع مبالغ وتبرعات طائلة خاصة من بعض دول الخليج.كان من شأن إنطلاق حرب اليمن وتحول الانتباه الخليجي عاملاً مؤثراً في الإضعاف التدريجي لهذه الميليشيات منذ العام 2015. ولذا انهارت سريعاً أغلب المعارضات المسلحة التي عزلت نفسها عن مليشيات داعش وجبهة النصرة المرتبطة بشبكات التهريب عبر الحدود من كل من العراق وتركيا.
ازدهرت أيضا السيطرة على المعابر الحدودية التي كانت تشكل نقطة قوة كبيرة لهذه الميليشيات، فالسيطرة على معابر سوريا مع تركيا كان عاملاً حاسماً في قوة الميليشيا ومقدار سيطرتها على الأرض. فالمعبر الحدودي هو بوابة الدخول للبلاد سواء للمسافرين أو البضائع ومن ثم مصدر دخل ضخم للقائمين عليه من حيث تحصيل رسوم المرور والجمارك على البضائع وأيضا السيطرة على حركة المواصلات إلى داخل البلاد من وإلى المعبر وتوفير الحماية للمسافرين والبضائع في مقابل فرض إتاوات ورسوم إضافية. توزعت المعابر الحدودية مع دول المحيط السوري؛ فالمعابر مع لبنان ظلت دوماً تحت سيطرة النظام، خاصةً أن الأخير مسيطر عبر حلفائه وخاصة حزب الله على الجهة المقابلة من الحدود في البقاع وغيرها.
أما المعابر مع الأردن، فقد ظلت المعابر التي تعمل تحت سيطرة النظام السوري مفتوحة بالتفاهم مع السلطات الأردنية، ومتى نجحت الميليشيات المسلحة في السيطرة على معبر حدودي مع الأردن، كانت عمان تقرر من جهتها غلق المعبر ووقف العمل به. كان الأردن يخشى نشاط شبكات الجريمة المنظمة التي تمتد عبر نشاط العشائر الممتدة النسب على جانبي الحدود، إذ نشطت بعض هذه العشائر في تجارة التهريب عبر الحدود منذ ما قبل اندلاع الحرب السورية ثم اكتسبت زخماً أكبر بعد اندلاع الحرب. إذ عادةً ما يعلن الأردن عن إحباطه لمحاولات تهريب للمخدرات عبر الحدود مع سوريا، وهي محاولات متكررة ربما كان أطرفها في أكتوبر 2021 الإعلان عن إحباط شحنة مخدرات تحملها طائرات مسيّرة قادمة من سوريا.
أقدم الأردن مؤخرًا على إعادة افتتاح معبر نصيب/ جابر الحدودي مع سوريا لإعادة حركة المسافرين والبضائع بشكل طبيعي. وكان المعبر قد أغلق مرة بعد أخرى عقب سيطرة الميليشيات المسلحة عليه، فيما سيطر نظام دمشق على الجهة السورية من المعبر منذ منتصف 2018 بشكل نهائي. أما الحدود مع العراق، فقد ظل الجزء الشمالي منها تحت سيطرة الأكراد طوال فترة الحرب، بينما سيطررت داعش على الجزء الجنوبي منها بين 2014 و2018 وكانت هي خطوط الإمداد الرئيسة التي توغلت من خلالها إلى سوريا. فيما نجح النظام السوري في السيطرة على هذه المعابر بعد دحر داعش بدعم روسي، وأصبحت معابر سوريا مع العراق هي عنوان الدعم العيني الإيراني الذي يصل براً إلى سوريا.
ولكن أهم ما ميز شبكات التهريب عبر الحدود مع سوريا أنها تعمل على تهريب كافة البضائع المشروعة وغير المشروعة وحتى البشر في بعض الأحيان. فالأصل في شبكات التهريب في البداية كانت لإدخال السلاح إلى سوريا وإخراج المهاجرين الراغبين في الهرب من ملاحقة النظام السوري، فكان المهربون عبر الحدود اللبنانية يُهرِبون المطلوبين أمنياً للنظام بسبب مشاركتهم في المظاهرات في بداية الثورة أو الجنود الهاربين من الخدمة العسكرية فيما كان غير المطلوبين أمنيا يعبرون الحدود بين البلدين بشكل رسمي دون قلق.
لكن مع تزايد حدة المعارك في سوريا بين المسلحين المعارضين والنظام، بدأت الحرب تأتي على خزان الغذاء السوري وتشهد مناطق سيطرة المعارضة والنظام على حد سواء نقصاً حاداً في المواد الغذائية والطبية والإغاثية فبدأ نوع آخر من التهريب يزدهر وهو تهريب المواد الغذائية إلى داخل سوريا وأيضا تهريب الثروة الحيوانية السورية عبر الحدود لبيعها على الجانب الآخر خوفاً من نفوقها في الحرب. ولذا ازدهرت لبعض الوقت ظاهرة تهريب المواشي عبر الحدود السورية وبيعها في لبنان ربما بأقل من نصف سعرها الأصلي خوفاً عليها من أن تتعرض للسلب أو للنفوق خلال المعارك التي اشتعلت في المناطق الحدودية.
مع امتداد أمد الحرب وعجز الفلاحين عن القيام بمهام الزراعة موسماً بعد آخر وفقدان الامدادات المائية المستقرة اللازمة للزراعة، أصبحت أغلب المناطق السورية تعاني من نقصٍ حادٍ في الحبوب والخضراوات والمواد الغذائية المختلفة ولذا انتعش تهريب الغذاء وإعادة بيعه في سوريا بمبالغ مرتفعة خلال الحرب. وهنا تولت الميليشيات المسلحة التعامل مع المهربين في شأن إدخال حصص الغذاء الخاصة بكل منطقة وإعادة توزيعها على الأهالي الذين بقوا في هذه المناطق ورفضوا المغادرة إلى مناطق أقل اشتعالاً أو اللجوء للخارج.
فيما ازدهرت أيضا مجموعات الجريمة المنظمة التي تنشط في الخطف وطلب الفدية لإطلاق سراح المخطوفين. وبخلاف الخصومة السياسية التي كانت تستدعي تبادل الخطف بين الميليشيات المسلحة ثم عقد تبادل للأسرى فيما بينهم، نشأت مجموعات تمتهن الخطف بغرض الحصول على فدية. وتشير بعض التقديرات أن توليد الدخل في مناطق سيطرة المعارضة بواسطة الخطف والفدية قد بلغ في عاميّ 2013 و2014 ما يقارب 200 مليون دولار، سواء كان الخطف وتحصيل الفدية قد تم مباشرة بواسطة الجهة الخاطفة أو أن المخطوف قد تم بيعه فيما بعض لميليشيا أخرى تتولى تحصيل مبلغ الفدية النهائي. وهكذا كانت بعض المجموعات الإجرامية تسيطر على منطقة وتستعلم عن هوية المقيمين فيها، وإذا ما تبين وجود صحفيين أجانب ذوي جنسيات غربية يتم بيعهم لمجموعات أخرى مثل داعش وجبهة النصرة لمباشرة التفاوض بشأنهم مع بلدانهم أو حتى تصفيتهم في مشاهد إراقة الدماء التي اشتهرت بتنفيذها هذه الجماعات الإرهابية.
تقطيع أوصال الاقتصاد السوري
بعد اشتعال المعارك لسنوات طويلة، عاد بعض الهدوء إلى الرقعة السورية واستعاد النظام السيطرة على جنوب ووسط سوريا وبعض المناطق من شرقها وغربها ، بينما بقى جزءاً من الشمال الغربي بيد المعارضة المسلحة الموالية لتركيا، فيما بقى الشمال الشرقي بيد الأكرد وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). مما رسخ لحالة انقسام اقتصادي فرض نموذج للاقتصاد القائم على التهريب في كل منطقة من هذه المناطق، فمن جهة تعد المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام خاضعة لنظام تهريب للوقود والمواد الغذائية من لبنان، وبعد تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان أيضاً منذ حوالي العامين أصبحت مسألة تهريب المواد الأساسية إلى سوريا أمراً ضرورياً لاستمرار المعيشة في مناطق النظام.
من جهة ثانية، كان اقتصاد الشمال السوري اكثر ارتباطاً بتركيا حيث تعبر يومياً مئات الشاحنات المعبئة بالمواد الغذائية وكل احتياجات السوق المحلية. ولعل من أهم نقاط القتال بين الميليشيات المسلحة فيما بينها أو بينها وبين قوات النظام وبينها وبين جبهة النصرة أو داعش كانت نقاط العبور والسيطرة على الحواجز بين المناطق السورية المختلفة والمعابر الحدودية لما توفره من دخل طائل بسبب تحصيل رسوم العبور والجمارك.
كذلك الأمر بالنسبة للطرق الرئيسية التي تقع على مسار التجارة الدولية عبر الداخل السوري وخاصة طريق الـ M4 الذي يصل العراق بسوريا من معبر اليعربية مروراً بمحافظة الحسكة ثم حلب وينتهي في اللاذقية وهو شريان التجارة مع العراق، وأيضا طريق الـ M5 والذي يصل بين حلب وحمص مروراً بإدلب ثم الجنوب السوري وصولاً لمعبر نصيب مع الأردن. فضلاً عن طريق الـ M1 والذي يصل وسط سوريا من دمشق إلى معبر المصنع مع لبنان. حيث تركزت معارك القتال الكبري خاصة منذ عام 2018 على السيطرة على هذه الطرق كي يضمن كل فريق من المتحاربين سيطرة جزئية على مسارات التجارة وبالتالي يتولد له الدخل من خلال وضع الحواجز عليها. وكان محور الاتفاقات الروسية التركية المتتالية حول إدلب خلال الأعوام الثلاثة الماضية هو ضمان حرية التجارة على هذه الطرق ومنع الميليشيات الموالية لتركيا من تعطيل طرق التجارة كي يتمكن النظام من الاستفادة من الدخل الذي تدره عودة التجارة الدولية البرية عبر هذه الطرق.
أحد أهم مصادر الثروة خلال الحرب كانت أيضا السيطرة على حقول النفط المنتشرة بشكل خاص في شرق ووسط سوريا. ولذا نجد أن المعارك كانت أكثر اشتعالاً حول حقول النفط والتي حازتها سريعاً وتمكنت من السيطرة عليها جبهة النصرة قبل أن يحدث الشقاق الشهير بينها وبين داعش وتصبح داعش هي المسيطر الأساسي على مرفق النفط السوري منذ عام 2014. فخلال خريف هذا العام نجحت داعش في انتاج ما يقارب 80 إلى 120 ألف برميل يومياً بما يعادل 2 إلى 4 مليون دولار يومياً. وحتى بعد اشتداد القصف الجوي للتحالف الدولي لمحاربة داعش وأيضا القصف الروسي فيما بعد، لم تفلح هذه الضربات الجوية في إنهاء نفوذ داعش على حقول النفطـ بل انخفض الانتاج بمقدار الثلث فقط خلال العاميين التاليين.
لقد تشابكت طوال سنوات سيطرة داعش على هذه الحقول الأطراف الضالعة في تهريب المحروقات إلى خارج سوريا لتصفيتها وتكريرها ومن ثم بيعها بسعر أقل من السعر العالمي. ويذكر أن قرار تركيا برفع أسعار الوقود في بداية أزمتها الاقتصادية في العام 2017 قد تزامن فعلياً مع تمكن قوات قسد المدعومة أمريكياً من جانب وقوات النظام المدعومة روسياً من جانب آخر في السيطرة على حقول النفط التي كانت في قبضة داعش لعدة سنوات منذ العام 2013. الأمر الذي يكشف عن حجم استفادة الأسواق التركية من الوقود السوري المهرب عبر الشمال، ولكن ذلك لم يكن حكراً على تركيا فقط، إذ استفاد النظام أيضا من هذا الوقود رغم أنه كان واقعاً فعلياً في مناطق خارج سيطرته، ولكن شبكات التهريب كانت عابرة لخطوط القتال ويستفيد منها الحلفاء والخصوم على حد سواء.
ازدهار تهريب المخدرات عبر سوريا
كما كانت سوريا محوراً لتهريب السلاح والبشر والوقود خلال السنوات الماضية، أسهمت الحرب السورية في تحقيق نقلة نوعية في انتاج وتهريب المخدرات من سوريا إلى الشمال نحو أوروبا وإلى الجنوب نحو دول الخليج. إذ توالى خلال السنوات الماضية الكشف عن عدة شحنات للمواد المخدرة وخاصة مخدري الكبتاغون والحشيش في وقائع منفصلة في موانئ عدة دول منها السعودية والإمارات واليونان وإيطاليا ومصر. ويذكر أن الحشيش مخدر مزروع في حين أن الكبتاغون مخدر مصنع كيميائياّ وقد شهد انتاجه طفرة كبيرة خلال السنوات الماضية، إذ يتميز بقوة مفعوله وانخفاض تكلفة انتاجه وبالتالي انخفاض سعره حتي حاز لقب “كوكايين الفقراء”. وقد سجلت عدة دراسة إنتاج وتجارة مختلف المجموعات المسلحة في الحرب السورية لهذا المخدر بهدف إعطائه للمقاتلين لما له من أثر على تعظيم قدراتهم القتالية وتغييبهم عن أهوال المعارك وبالتالي إقدامهم على الاشتباكات دون خوف. ولكن مع خفض التصعيد في الحرب السورية بدأ الانتاج يتم تحويله بشكل متزايد إلى الخارج ودمجه في شبكات التهريب العالمية مما أدى إلى تصاعد الكشف عن الشحنات عقب وصولها إلى الموانئ الغربية والعربية.
تتعدد الروايات التي تُحَمِل النظام السوري مسؤولية انتاج وتهريب المواد المخدرة كوسيلة للربح البديل عقب تدهور حالة الاقتصاد وانهيار قيمة العملة السورية خلال العامين الماضيين؛ إذ عادة ما تعتبر التقارير الدولية ذات الصلة أن النظام متورط بشكل فعال في هذه الصفقات غير المشروعة رغم نفيه المتكرر لذلك على لسان كبار رجال الأعمال المرتبطين به. فإحدى شحنات تهريب الأقراص المخدرة التي تم ضبطها في إحدى الموانئ المصرية جاءت معلبة ضمن منتجات غذائية تعود ملكية مصانعها لأحد أقارب الرئيس السوري. وقد تسببت الاكتشافات المتكررة لشحنات المواد المخدرة في الموانئ العربية والغربية، في إحراج دمشق مما جعلها تعلن هي الأخرى خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2 عن اكتشافات مشابهة لشحنات مواد مخدرة على أراضيها قبل أن يتم تصديرها إلى وجهتها النهائية. وقد تزامن هذا الإعلان اللافت في توقيته مع جهود عربية متعددة دعت إلى إعادة النظام السوري إلى المظلة العربية قبل القمة القادمة، فلربما كان من بين شروط هذه الإعادة بذل المزيد من الجهود من جانب النظام السوري لإحباط تصدير المخدرات إلى دول المنطقة.
تختلف التقديرات حول سبب ازدهار إنتاج وتهريب المواد المخدرة في سوريا، إذ يعتبر البعض أن سوريا على قمة منتجي هذه المواد في العالم بسبب طول أمد الحرب وضعف قدرة السلطات على وقف هذا الانتاج المشبوه. بينما يرى آخرون أن الحرب ساهمت بالفعل في تزايد الانتاج السوري ولكن يعتبرون أن السلطات ضالعة بشكل مباشر في هذا الانتاج ولا تحاول وقفه إلا بما يُخلي ساحتها أمام ضغوط دول المنطقة. ذلك أنه في ظل تآكل روافد الدخل القومي السوري وتراجع أغلب الانشطة الاقتصادية بل وتوقفها، تزايد الاعتماد الرسمي على مثل هذه الانشطة لتمويل بقاء النظام وتمويل آلة الحرب ورواتب المقاتلين واعضاء الميليشيات الموالية له.
غير أن المؤكد أن انتاج المواد المخدرة وخاصة أقراص الكبتاغون تتركز في سوريا في مدن الساحل وخاصة طرطوس واللاذقية وهي مدن كانت واستمرت تحت سيطرة النظام السوري ولم تسقط أبدا بيد المليشيات المعارضة له. كما أن تهريب المخدرات يتم عبر ثلاثة خطوط رئيسية إما بحراً عبر التعبئة في سفن متجهة إلى لبنان وتركيا ومنها إلى موانئ عربية وأوروبية أو براً عبر الحدود مع لبنان وخاصة البقاع حيث المعاقل الرئيسية لحليف دمشق حزب الله، والذي يشرف بدوره على إعادة التصدير مرة أخرى بأغلفة تحمل عبارة “أنتج في لبنان” إلى دول الخليج، وإما بالبر أيضا ولكن عبر خط ثالث للتهريب يمر بالاردن ويستهدف مصر ودول الخليج. وتتصل شبكات التهريب في دمشق بمثيلاتها في أفغانستان؛ حيث يعتقد أن الأفيون الأفغاني يتم تهريبه عبر إيران فالعراق فسوريا حيث يتم معالجته وتجهيزه ثم إعادة تهريبه مرة أخرى للوجهات العربية والغربية عبر خطوط التهريب سالفة الذكر.
أرباح تهريب المخدرات من سوريا كبيرة للغاية ويتعذر حصرها بالكامل ولكن يمكن الاسترشاد بالقيمة السوقية لبعض الشحنات التي تم ضبطها في الموانئ العالمية. ففي يوليو عام 2019، ضبطت السلطات اليونانية شحنة واحدة لأقراص الكبتاغون بقيمة 660 مليون دولار. وفي يوليو 2020، ضبطت السلطات الإيطالية شحنة أخرى بقيمة سوقية تعادل مليار و300 مليون دولار. بينما تشير التقديرات إلى أن أرباح تهريب المخدرات من سوريا في عام 2020 فقط بلغت ما يقارب 3.45 مليار دولار.
ينتشر بالمثل خط لتهريب الحشيش المزروع في مناطق سيطرة الأكراد إلى داخل العراق، ولكنه يعتبر خطًا أقل أهمية لأنه يخدم الاستهلاك المحلي في مناطق الأكراد في كل سوريا و شمال العراق وغير مرتبط بالضرورة بشبكات التهريب العالمية. الأمر ينطبق كذلك على مناطق أخرى لزراعة وانتاج الحشيش تقع تحت سيطرة الميليشيات المعارضة للنظام والموالية لتركيا، وتعتبر أيضا أقل أهمية لأنها للاستهلاك المحلي ضمن مناطق سيطرة المعارضة وغير مرتبطة بشبكات التهريب العالمية. ولذا يظل التحدى الرئيسي في مناطق سيطرة النظام التي اندمجت بشكل لافت في انتاجها وخطوط تهريبها مع الشبكات العالمية وأصبح لها السبق في ذلك عالميّاً.
ختامًا
يتضح من كل ماسبق أن اقتصاد الحرب في سوريا قد أنتج خلال مختلف مراحل الصراع مواقع اقتصادية معتبرة لكل الأطراف الفاعلة في الحرب بصرف النظر عن انتماءاتهم الإيديولوجية أو خصومتهم السياسية فيما بينهم. ولذا فإن وقف الحرب لا يعتمد فقط على الاتفاقات السياسية لإحلال السلام وتحقيق التوافق بين المتحاربين، بل يتطلب أيضاً بشكل عاجل تفكيك المراكز الإقتصادية المتكسبة من هذا التهريب وبخاصة تهريب المخدرات، وإلا فلن يقلع المستفيدون عن تكريس سيطرتهم الاقتصادية ومنع قيام مؤسسات دولة فاعلة.
بينما يرى بعض الباحثين أنه حتى بعد إحلال السلام وتغيير هياكل مؤسسات الدولة بما يضمن إنهاء الحرب، ستظل سوريا مرشحة لقيام نوع متجذر من المافيا العالمية التي ستستمر بشكل فعال في إضعاف مؤسسات الدولة واختراقها عبر شبكات الفساد، ومن ثم ينتقل هذا الفساد تباعاً للسيطرة على الأجهزة البيروقراطية في دول الجوار. ومثلما كانت المساعي الدولية للحل في سوريا خلال الأعوام السابقة تنصب على شحذ الجهود لمكافحة الإرهاب، ربما يصبح من الضروري في المرحلة المقبلة أن تنصب هذه الجهود على مكافحة الجريمة المنظمة وشبكات التهريب.