واجهت المؤسسة العسكرية المصرية في أعقاب هزيمة ١٩٦٧ أزمة شرعية عميقة؛ نتيجة اتضاح قدرتها المحدودة على رد العدوان، وتراجع صورتها الذهنية باعتبارها القوة الأكبر في المنطقة، وهي صورة ذهنية لا تعكس الإهمال الذي تعرضت له القوات المسلحة خلال الفترة الممتدة من 64 إلى 67 من قبل قادة الجيش.
كاد الغضب أن ينهي الشعبية الكبيرة التي اكتسبها الجيش بعد ثورة يوليو 1952، نتيجة تحوله إلى مؤسسة وطنية جامعة ممثلة للنسيج الاجتماعي المصري. الأمر الذي دفع الرئيس جمال عبد الناصر بالقيام بنفسه بثورة تغير على بنية ومؤسسات نظامه، للتحول من مرحلة الوهم العسكري إلي مرحلة الفهم الصحيح لطبيعة البناء العسكري المصري بعد 67. ويحاول هذا التقرير فك طلاسم تأثير تنامي الغضب الشعبي على مرحلة إعادة البناء وإدارة المعارك الحربية من 1967 إلى 1973.
شكل العلاقات المدنية العسكرية خلال الفترة (1952-1967)
ساهمت الصراعات السياسية بين أجنحة النظام السياسي في مصر بعد نجاح ثورة يوليو 52، وانصراف قادة الجيش نحو الحياة المدنية في تهيئة الأرضية العسكريّة للهزيمة. وتعود أسباب الهزيمة إلى عدد من الأسباب يمكن تداركها كما يلي:
افتقاد قائد المؤسسة العسكرية إلى المهنية
تحولت المؤسسة العسكرية تحت قيادة عبد الحكيم عامر إلي مركز من مراكز القوي، إذ لم يكن عبد الحكيم عامر مخلصًا إلا لذاته، ولم يعتنِ إلا بمن أظهروا له الولاء، كما أثار تنامي قوة وتأثير عبد الحكيم عامر داخل المؤسسة العسكرية، قلق وشكوك جمال عبد الناصر وبالفعل حاول عزله عام 1961، إلا أن محاولته باءت بالفشل بسبب التقديرات بتمرد وشيك من الضباط، وقد حاول جمال عبد الناصر كسر قوة وتأثير عبد الحكيم عامر والسيطرة علي الضباط سياسيًّا وأيديولوجيًّا من خلال التأطير الأيديولوجي لمبادئ العروبة والاشتراكية من خلال التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي من جانب والمراقبة الأمنية وتكريم بعض الضباط من جانب آخر. إلا أن تلك المحاولات لم تفلح في إصلاح العلاقة المتوترة بين القيادة العسكرية والقيادة السياسية.
افتقاد قادة الجيش لحسن تدبير الخطط الدفاعية والهجوميّة
شكلت السنوات ما بين 1960 و1967، أوج تمركز المؤسسة العسكرية في السياسة الداخلية. في الوقت نفسه، كان الإهمال قد طال المؤسسة العسكرية من حيث الكفاءة العسكرية بمقوماتها الشاملة. أدرك جمال عبد الناصر خطورة الأمر، وسعي جاهدًا في أن يقدم للمؤسسة العسكرية تجهيزات وأسلحة حديثة. لم تستهدف مساعي عبد الناصر مجرد تحقيق الاستقرار في العلاقات المدنية العسكرية، بل محاولة ردع إسرائيل التـي عززت من قدراتها العسكرية، وهو ما اتضح في اعتدائها المتكرر على قطاع غزة الخاضع لحكم مصر.
شكل هذا انكشافًا حقيقيًّا نتيجة العجز العسكري الذي ظهر به النظام، وهو ما جعله دائمًا عرضة للتهديد. وهو ما ألجأ عبد الناصر إلى الاتحاد السوفييتي إثر رفضه القبول بالشروط الغربية الخاصة بشراء الأسلحة الحديثة، إلا أن جمال عبد الناصر أخطأ حين ائتمن عبد الحكيم عامر علي تطوير القدرات العسكرية للجيش المصري وتحويله إلى قوة قتالية حديثة وفعالة، فلم يغير عبد الحكيم عامر من حال وكفاءة القوات المسلحة لتتمكن من الاستفادة الفعالة من التدفق الهائل من الأسلحة المتطورة، وظل الجيش مركز قوة، أكثر منه منظمة مخصصة لبناء فعالية عسكرية.
افتقاد التقديرات والحسابات الاستراتيجية للمصداقية والواقعية
يعد من بين العوامل الهامة التي أدت إلى هزيمة 67، المعلومات والتقديرات الخاطئة من قبل المؤسسات الأمنية التي سيطر عليها العسكريين. وهو الأمر الذي أثر بالسلب في العلاقات المدنية العسكرية أبان الهزيمة؛ إذ أشارت التقديرات إلى أن مصر تستطيع استيعاب الضربة العسكرية الأولي ومن ثم القيام بهجوم مضاد وعلى إثر هذه المعلومات قام القائد العام للقوات المسلحة عبد الحكيم عامر برفع درجة الاستعداد العسكري من المرحلة الدائمة إلى المرحلة الكاملة في خلال 48 ساعة، والقيام بتحريك تشكيلاتٍ متتالية تتوجّه على الفور إلى سيناء وتحتلّ مراكزها دون القيام بهجوم عسكري. على سبيل أن قيام مصر بالمبادرة بهجوم عسكري قد يضعها في مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة دون غطاء سوفييتي.
كيف تغيرت العلاقات المدنية العسكرية بعد 1967
مع مجيء هزيمة 1967، بدأ الرفض الشعبي في التنامي ضد تدخل قادة الجيش في السياسة. وكانت محاكمة القادة العسكريين بمثابة رفض لتدخل الجيش في السياسة، ولوضعه السياسـي. لذا كان من الضروري إعادة بناء القوات المسلحة على قاعدة الاحتراف والخضوع للقيادة السياسية. حاول عبد الناصر العودة بالصفة الاحترافية للجيش وتقليص دوره في السياسة وأجهزة الدولة، ولاسيما في إثر تخلصه من عبد الحكيم عامر وشبكة أنصاره من الضباط، وزيادة الصفة المدنية للحكم.
كان ذلك من خلال قانون رقم 4 لسنة 1968، والذي أعاد تنظيم أسلوب الدفاع عن الدولة والقيادة والسيطرة علي القوات المسلحة، وأعاد تحديد مسؤوليات واختصاصات أجهزة الدولة في خدمة إعداد الدولة والشعب ومسرح العمليات للحرب، وكان ثمار هذه التعديلات المعارك التي حسمها الجيش المصري بداية من معارك راس العش في يوليو 67 بتدمير قوة مدرعة إسرائيلية، وفي الجو قامت القوات الجوية بقصف لقوات إسرائيلية يوم 14 يوليو 1967، وكان النصر الأكبر للقوات البحرية بإغراق المدمرة إيلات في أكتوبر 1967 لاجتيازها المياه الإقليمية شرق بورسعيد.
الرئيس السادات وإعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية
بعد تسلم الرئيس السادات السلطة بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، دار صراع قوي على قمة السلطة وتحديد القرار السياسي مع مما اسماهم السادات “مراكز القوي” وتضمن مراكز القوي الفريق محمد فوزي وزير الحربية قوتها، سعي الرئيس السادات بمعاونة ونصيحة الأستاذ محمد حسنين هيكل إلي تحييد الجيش وتعزيز سياسة تخفيف الطابع العسكري للسياسة المصرية. إذ عمد السادات علي تخفيض التمثيل السياسي للعسكرين من خلال تقليل نسبة العسكريين في الوزراء والمناصب السياسية العليا في الدولة مقارنة بعهد الزعيم جمال عبد الناصر.
لم يدم الأمر طويلاً إذ أعاد نصر أكتوبر 1973، الشعبية الجارفة للمؤسسة العسكرية التي افتقدها خلال ست سنوات ما بين 1967-1973، وبالتالي تم إعادة انخراط العسكريين في السياسة، وتوجيه القرار السياسي، ففي أعقاب الحرب عمل السادات علي إشراك المؤسسة العسكرية في مراحل عمليات مفاوضات السلام؛ إذ قام القادة العسكريون مثل المشير عبد الغني الجمسي بعدد من الأدوار الهامة في مفاوضات فك الاشتباك وفي محادثات ومفاوضات السلام. ومنذ عام 1976، تم إعادة بعض القادة العسكريين إلي المناصب السياسية خاصة الوزراء ونواب الوزراء إضافة إلي اختيار الرئيس السادات لنائب لرئيس الجمهورية من الجيش الفريق محمد حسني مبارك وقتها.
ويعد من اهم المتغيرات التي حدثت في عهد الرئيس السادات فيما يخص العلاقات المدنية العسكرية أولا إيجاد صيغة علاقة جديدة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع إدخال المؤسسة العسكرية في المجالات التنموية والأنشطة الاقتصادية المدنية، إذ أنشأ السادات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع المصرية، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحاجات الأساسية للقوات المسلحة لتخفيف أعباء تدبيرها عن كاهل الدولة.
تأثير نمط العلاقات المدنية العسكرية على إدارة الحرب من 67 الي 73
ساعد التراجع النسبي لنفوذ المؤسسة العسكرية في عملية صنع القرار السياسي في مرحلة ما بعد 1967، إلي عودة سياسة الجيش المحترف وقد ساعد ذلك اختيار عناصر محترفة ذو كفاءة عالية علي راس الجيش المصري أمثال الفريق محمد فوزي وزير الحربية في مرحلة إعادة تطهير وبناء القوات المسلحة ثم الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة والمشير الجمسي رئيس عمليات القوات المسلحة لاستكمال باقي مراحل الاستعداد للمعركة.
الأمر الذي أتاح للمؤسسة العسكرية إعادة البناء نفسيًا ومعنويًا وماديًا،.وفي الوقت نفسه، واصلت القيادات الجديدة خطط التدريبات الشاقة والتخطيط الجاد لخوض معركة حتمية. ويمكن تقسيم الفترة ما بين 67 الي 73 الي خمس مراحل أساسية، هي الصمود من يونيو 67 إلى 68، الدفاع النشط من سبتمبر 68 إلى فبراير 69، ومرحلة الاستنزاف من مارس 69 إلي أغسطس 70، ومرحلة إيقاف النيران من أغسطس 70 إلي أكتوبر 73، ومرحلة الحرب 73.
حدد القيادات المحترفة الجديدة كان الهدف الرئيسي من مرحلة الصمود هو الالتزام بنوع من الهدوء لإتاحة الفرصة لإعادة البناء بعد رفع الأنقاض بأسرع ما يمكن، إلى جانب تجهيز الدفاع عن القناة. أما مرحلة الدفاع النشط، فكان الهدف منها تقييد حرية العدو في التحرك والمناورة والاستطلاع وتكبديه خسائر متزايدة في الأفراد والأسلحة والمعدات، ونتيجة لنجاح تخطيط هذه المراحل عملت إسرائيل على إنشاء خط دفاعي “خط بارليف” الأمر الذي استلزم الدخول في مرحلة العمليات الخاطفة التي عرفت باسم حرب الاستنزاف وكان الهدف منها تكبيد أكبر قدر ممكن من الخسائر للعدو خلف خط الدفاع الوقائي الإسرائيلي واستمرت تلك المرحلة إلى قبول معاهدة روجرز والدخول في مرحلة إيقاف النيران. ومنذ ذلك التاريخ دخلت مصر مرحلة جديدة هي مرحلة التخطيط والإعداد لمعركة العزة والكرامة ونشط العمل في صبر وصمت من ناحية التدريبات وإعادة التسليح اللازم للمعركة. ولم تضع مصر الوقت، بل أخذت تدعم القوات المسلحة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا، ولما تحققت أسباب القوة المنشودة كان طبيعيا الدخول في مرحلة الحرب باستخدام العامل العسكري لكسر الجمود السياسي للازمة.
وكان الهدف الأساسي أمام المخطط العسكري للحرب هو إهدار نظرية الأمن القومي الإسرائيلي القائمة على أكذوبة الحدود الأمنة، وحتمية الاحتفاظ بالمبادرة والقدرة على الردع، وضرورة مواجهة العرب فرادي، وضمان مؤازرة قوة عظمي كحليف موثوق بنجدته في كل وقت.
ختاماً: هناك عاملان يحددان علاقة المؤسسة العسكرية بالدولة والمجتمع في مصر، الأول ثقافة المجتمع وقيمه تجاه المؤسسة العسكرية، إذ يحمل السواد الأعظم من الشعب المصري ثقافة وطنية تقوم علي احترام وتقدير الدور الوطني للمؤسسة العسكرية المصرية نتيجة الدور التاريخي في دعم التغير الاجتماعي وانحياز المؤسسة العسكرية منذ 1952 إلي الطبقات الدنيا من الشعب، أما العامل الأخر طبيعة عمل وتركيبة المؤسسة العسكرية نفسها كون المؤسسة العسكرية ممثلة لأغلب طبقات وفئات الشعب المصري بحكم التجنيد الإجباري، فأنها لا تري نفسها فقط حامية الوطن من الأخطار الخارجية فقط، بل تري نفسها حافظة علي الهوية الوطنية للدولة المصرية، إضافة إلي كونها المحافظة علي استقرار الوطن والمحافظة علي إرادة الشعب المصري.
المراجع
- احمد بيلي، الصفوة العسكرية والبناء السياسي في مصر، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 1993).
- هاني سليمان، العلاقات المدنية العسكرية والتحول الديمقراطي في مصر بعد ثورة 25يناير، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، ط1، يوليو 2015).
- احمد عبد الله (محرر)، الجيش والديمقراطية في مصر، (القاهرة: سينا للنشر، 1990).
- أنور عبد اللك، المجتمع المصري والجيش، 1952-1973، (القاهرة: مركز المحروسة للنشر، ط2، 2005).
- مصطفي علوي،” الجيش بين الثورة والسياسة: حالة مصر”، مجلة الديمقراطية، العدد 52، أكتوبر 2013.
- حسن البدري، طه المجدوب، حرب رمضان الجولة العربية الإسرائيلية الرابعة أكتوبر 1973، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 1987).
- محمد فوزي، حرب أكتوبر 1973 دراسة ودروس، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 2015).