ينتمي السادات إلى طراز نادر من الساسة القادرين على اتخاذ قرارات تاريخية، وربما تفرد سادات بالطابع الدرامي سواء لحياته الشخصية التـي تقلب فيها بين حياة الضعة والتمرد حتـى ارتقى إلى أعلى مدارج الثروة والسلطة في مصر حتـى اغتياله في ذكرى انتصاره الثامنة، وحياته السياسية التـي تقلبت بين الثورية والتمرد والصدام والخنوع، والوصول إلى ذروة الشعبية في أعقاب حرب أكتوبر.
كثيرًا ما كتب السادات، المعروف بولعه بالكتابة دون القراءة، نفسه عن هذه التقلبات، ولا يعزو قارئ سيره وكتاباته في المراحل المختلفة ذاك الإيمان الشديد بالذات وقدرها المحتوم. كذلك، كان السادات، بشخصه وسياساته، موضوع الكثير من الكتابات التي وجهت سهام النقد له لحد الكراهية، أو كالت له المديح لحد التمجيد.
تجمع هذه الكتابات على دور حرب أكتوبر في منح السادات “الشرعية التاريخية” التـي كان يسعى إليها حتـى يخرج من ظلال “بطولة” عبد الناصر الجريحة التـي امتدت حتـى رحيله في 1970 من المحيط إلى الخليج. إلا أن القليل عربيًّا قد كتب عن دور السادات في صياغة الاستراتيجية العسكرية المصرية في هذه الحرب؟ وكيف أدى تدخله إلى الانتصار الهائلة في بداية الحرب على الجبهة المصرية، ثم الانتكاسة التـي أفضت إلى القبول المصري بوقف إطلاق النار.
أظهر السادات مهارة نادرة في صياغة الاستراتيجية العسكرية؛ وفهمًا لطبيعة الحرب وعلاقتها بالسياسة نادرًا ما تتوفر للقادة السياسيين والعسكريين. وربما كانت المفارقة أن السادات متواضع الخبرة العسكرية والذي لم يكن في موقع الصدارة في نظام عبد الناصر، قد استطاع تطويع الحرب لأهدافه السياسية الكبرى التـي حددها بدقة نتيجة لقراءته أولا لفجوة القوة العسكرية بين مصر وإسرائيل أولاً، وطبيعة النظام الدولي ثانيًا. ومن خلال بناء استراتيجية تقوم على استغلال لنقاط ضعف العدو والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة؛ وعلى رأسها العامل البشري.
السادات وإعادة الاعتبار للقيادة العليا
ترتكز العلاقات المدنية العسكرية على دراسة العلاقة بين مؤسسات الدولة المدنية الحديثة وعلى رأسها القيادة السياسية والقوات المسلحة. ولا يخلو هذا الحقل من تصورات “معيارية” ترى ضرورة أن يسيطر المدنيون من صناع القرار على القوات المسلحة خاصة قرارات خوض الحرب، على أن يكون للقادة العسكريين مساحة واسعة من الحرية في إدارة العمليات العسكرية. يفترض هذا النموذج، الذي يعرف ب “السيطرة الموضوعية“[1]، الفصل الكامل بين السياسة والاستراتيجية، ووفقًا له سيكون على القادة الساسيين أن يقبلوا بآراء العسكريين الذين لن يتدخلوا، بدورهم، في تقديرات وقرارات القادة السياسيين.
تشير كثير من الروايات وبعض الدراسات إلى أن الانتصار الأولي الذي حققته القوات المصرية في الحرب في المرحلة الأولى (٦- ١٣ أكتوبر) كانت نتيجة اتباع هذا النموذج، حيث منح السادات قادته، المشير أحمد إسماعيل علي وزير الدفاع ورئيس الأركان الفريق سعد الشاذلي، الذين عرفا بالمهنية وعدم الاهتمام بالسياسة، الحرية في تحديد خطة الحرب وإدارة العمليات، وأن أي تعثر لاحق إنما جاء مع فرض السادات للاعتبارات السياسية على مسار العمليات وتدخله المباشر فيها.
يرى الباحث عمرو يوسف في دراسته الهامة عن السادات كقائد[2] أعلى أن قيادة السادات للقوات المسلحة المصرية، أثناء الحرب، لا تخضع لهذا النموذج، الذي يتنافى مع حقيقة أن عمل العسكريين هو تحقيق الأهداف السياسية التـي يحددها رجال الدولة، وبالتالي لا يمكن الفصل نظريًّا أو عمليًّا بين السياسة والاستراتيجية. لقد كان تدخل السادات في تصميم الاستراتيجية العسكرية وإدارة العمليات نابعًا من رؤيته لذاته باعتباره “القائد الأعلى” للقوات المسلحة، وهو نموذج القيادة الذي يفترض هيمنة رجل الدولة على قرار الحرب وإدارة مسارها، ولو أدى هذا إلى الصدام مع “الجنرالات” الذين يفتقرون القدرة على الرؤية السياسية الأوسع.
كانت الهزيمة في ١٩٦٧ حاسمة في تشكيل رؤية السادات لعلاقة الجيش بالسياسة. في أحد خطاباته، أكد السادات أن العسكريين هم من يتحملون وزر الهزيمة لا القيادة السياسة الممثلة في جمال عبد الناصر الذي “أُبعد” عن إدارة العمليات، وخدعه العسكريون الذين بالغوا في إمكانية الانتصار واتخذوا قرار الانسحاب منفردين دون أن يقوموا بتأمين الغطاء اللازم لحماية الجنود الذين لم يعطوا فرصة للقتال.
مع مجيء السادات للسلطة في أعقاب رحيل عبد الناصر، كانت استعادة الأرض بالقتال هي المهمة الأولى على رأس أولوياته. إلا أنه لم يثق في القيادات العسكرية الموجودة لتنفيذ المهمة. لذا بعد التخلص من الجناح اليساري في النظام ومن بينهم الفريق محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة والذي تولى مهمة إعادة بناء القوات المسلحة في مرحلة حرب الاستنزاف، آثر السادات أن يعيد الاعتبار إلى مهام رئيس الدولة باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، على ألا تكون هذه القيادة رمزية بل عملية وفعالة؛ بحيث يكون هو المسؤول الأول عن وضع استراتيجية الحرب وتنفيذها، وهو ما انعكس في اختياره لقادة عسكريين “مهنيين” و”غير مسيسين”؛ الفريق محمد صادق، ثم الفريق أحمد إسماعيل؛ اللذين دانا بالولاء السياسـي له.
خاطب هذا التحول نزعة “رومانسية” لدى السادات الذي لم يخف إعجابه منذ أن كان شابًا ثوريًّا في الأربعينيات بالقادة السياسيين الذين قادوا جيوش بلادهم نحو التحرر وعلى رأسهم نابليون وحتـى هتلر، وربما فرانكو، وهو النمط الذي يطلق عليه “الجنراليزمو” أي كبير الجنرالات. وكانت هذه الرومانسية أوضح ما تكون في حرصه، وهو صاحب النزعة الدرامية المعروفة، على الظهور بالملابس العسكرية التـي أشرف بنفسه على تصميمها مستوحيًّا خطوطها من الملابس النازية.
يرى إليوت كوهين في كتابه “القيادة العليا: الجنود ورجال الدولة والقيادة في وقت الحرب“[3] وبعد دراسته للدور القيادي الذي لعبه كل من إبراهام لينكولن في قيادة جيش الاتحاد في الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦١-١٨٦٥)، وجورج كليمنصو في قيادة جيوش فرنسا للانتصار في الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨)، وقيادة ونستون تشرشل لجيوش بريطانيا في الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥)، وديفيد بن جوريون في قيادة القوات الصهيونية في حرب ١٩٤٨، أن انتصار هؤلاء كان نابعًا من مقارعة هؤلاء السياسيين للجنرالات وفرضهم لخياراتهم على مسار العمليات.
كان لأولئك القادة الأربعة أربعة خصال هامة تفاعلت لتحقيق الغاية من القيادة الفعالة وهي: الحدس أي القدرة على نسج التفاصيل مع الأهداف الكبرى وإدراك المتطلبات الخاصة لكل موقف؛ والمعرفة بالشؤون العسكرية؛ والقدرة الاستثنائية على الحكم على الرجال؛ والحسم والاعتدال. ربما امتلك السادات معظم هذه الخصال؛ خاصة الحدس الغريزي بالمواقف والاهتمام بالغايات السياسية الكبرى، إلا أنه افتقد أية معرفة سليمة بالتفاصيل والشؤون العسكرية، وهو ما أثر في إدارة العمليات بسبب سوء تقديره التكتيكي في مقابل براعته الاستراتيجية.
السياسة قبل السلاح
لم يخف السادات ولعه بالتقاليد العسكرية البروسية، والثقافة الألمانية بشكل عام، إلا أنه لم يقرأ كتاب كارل فون كلاوزفيتس “عن الحرب“. ومع ذلك، طبق السادات نظرية كلاوزفيتس عن الحرب باعتبارها امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى، بمهارة فائقة.
كان السادات، المعروف أثناء فترة عبد الناصر بتوجهاته اليمينية التـي ستتضح فيما بعد، مشككًا في جدوى المواجهة مع الغرب. كذلك كان متشككًا في شعار عبد الناصر أن ما أخد بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. فاعتداله وحدسه جعلاه يؤكد لقواده والدائرة الداخلية أن الحرب وحدها لن تستعيد الأرض؛ إذ أن قدرات العدو الإسرائيلي العسكرية تفوق قدرات الجيش المصري، والدعم الأمريكي السخي لإسرائيل سيحول دون هزيمتها في حرب طويلة، مقارنة بالدعم الذي قد يقدمه الاتحاد السوفياتي لمصر، وقد دخل لتوه في مرحلة الوفاق مع الغرب.
لم يرد السادات الحرب كغاية، بل كوسيلة “سياسية” لتحقيق ما فشلت فيه مبادراته الدبلوماسية المختلفة، والتـي تراوحت بين مبادرة فبراير ١٩٧١، ومحادثات مستشار الأمن القومي المصري حافظ إسماعيل مع هنري كيسنجر، ومبادرة السلام السرية في فبراير ١٩٧٣ والتـي رفضتها غولدا مائير.
ومع تعاظم الضغط الداخلي في الأوساط الطلابية وحتـى داخل القوات المسلحة، أضحت الحرب ضرورة بالنسبة للسادات. تبدى فهم السادات الغريزي لكلاوزفيتس في كلماته التـي وجهها للحكومة في ٥ مايو ١٩٧٣ بميت أبو الكوم والتـي قال فيها إن الموقف العسكري ليس إلا امتدادًا من الصراع السياسـي وهو ما يعنـي أن جزءًا من المعركة دبلوماسـي والجزء الآخر عسكري. وفي النهاية سيكون على الدبلوماسية أن تقود سواء قبل التحركات العسكرية وخلالها وبعدها وبلا توقف.
لقد كانت كلمات كيسنجر لحافظ إسماعيل ملهمة أيضًا للسادات؛ حيث أوضح له عبثية أن “تطالب مصر بأية تنازلات أو “غنائم المنتصرين” وهي مهزومة؛ وإلا، فعليها أن تخلق أزمة”. لذا أصبحت الحرب الأداة التـي سيستخدمها السادات لخلق الأزمة التـي ستجبر القوى العظمى على التدخل لإجبار إسرائيل على التفاوض. ولن يتحقق هذا إلا بانتصار عسكري سريع ومحدود يحقق سيطرة مصر ولو على “١٠ سنتمترات” حسب قول السادات نفسه شرق القناة للتفاوض على بقية سيناء.
على الرغم من أن الخطاب السياسـي العلنـي أصر على تحرير كافة الأرض بالحرب، إلا أن السادات وجه وزير الدفاع المشير إسماعيل وقائد الأركان سعد الشاذلي بتعديل خطة الحرب “جرانيت ٢” التـي تقوم على الحرب الشاملة لتستبدل بخطة “المآذن العالية” والتـي تقوم على “الحرب المحدودة” وتستهدف الاستيلاء على مساحة تتراوح بين ١٠ و١٥ كيلو مترًا شرق القناة، وهي المساحة القصوى التـي يمكن أن تغطيها مظلة الصواريخ “سام”، وتستهدف نقاط ضعف العدو وهي التعبئة الطويلة وحساسية الخسائر البشرية.
كذلك، أدرك السادات أن الهدف الرئيس للحرب ليس إيقاع الخسائر المادية والبشرية بالعدو فقط بل “تغيير وجهة نظره”، وهو أيضًا مفهوم ينتمي إلى كلاوزفيتس. اتضح هذا في التوجيه السياسـي لقرار الحرب الصادر يوم ١ أكتوبر والذي نص على “تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي عن طريق عمل عسكري، حسب إمكانيات القوات المسلحة، يكون إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو وإقناعه أن مواصلة احتلاله لأراضينا يفرض عليه ثمنًا لا يستطيع دفع.. وبالتالي، فإن نظرية الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسـي والعسكري- ليس درعًا من الفولاذ يحميه الآن أو في المستقبل.”
ربط السادات الأهداف الاستراتيجية للحرب ب” وإمكانيات القوات المسلحة” كحقيقة واقعة وكعذر مستقبلي لأي إخفاق في الحرب؛ حيث أنه “إذا حدث شيء فلن يخرج الشعب مطالبًا بعودتي مرة أخرى للرئاسة كما فعل مع جمال.”[4]
اتضح أيضًا دقة حدس السادات السياسـي في اتجاهه لإشراك الحلفاء العرب في المعركة، من خلال تنسيق الهجوم مع القوات السورية، على الرغم من ممانعة الجنرالات الذين لم يخفوا عدم ثقتهم بجيش حافظ الأسد، والصعوبات العملية للهجوم المشترك. أدرك السادات أن مثل هذا التحالف ضروري لإقناع العالم العربي بتجاوز قرار الحرب للمصلحة المصرية فقط، ولتمهيد الطريق لاستخدام سلاح البترول.
السادات يفرض السياسة على السلاح
اشتهر السادات بقوله إن “٩٩٪ من أوراق اللعبة في المنطقة بيد أمريكا” وهي مقولة يدعي أن عبد الناصر أقر له بحقيقتها مع انتهاء حرب الاستنزاف من خلال مبادرة روجرز. وبالفعل، كان السادات يحارب جيوش جولدا مائير، فيما كان يستهدف إجبار كيسنجر، الذي كان مفوضًا من قبل نيكسون الغارق في فضيحة ووتر غيت لإدارة الأزمة، على التدخل.
بحلول يوم ١٠ أكتوبر، لم يكن كيسنجر قد شعر بعد بضرورة التحرك لإنقاذ الموقف؛ حيث بدأت إسرائيل في الإعداد لهجوم مضاد بعد أن ثبتت جبهة الجولان. لذا أدرك السادات ضرورة استخدام سلاح النفط من ناحية، ومن ناحية أخرى، ضرورة الاستجابة للاتصالات السورية التـي لم يستجب لها منذ يوم ٧ أكتوبر؛ حيث طالب الأسد بضرورة التقدم المصري لمنح القوات السورية الفرصة لتثبيت مكاسبها. والآن أصبح عليه الاستجابة لحليفه بعد أن نجحت القوات الإسرائيلية في صد الهجوم السوري وعبور الجولان نحو دمشق.
اتخذ السادات قرارًا بتطوير الهجوم نحو الممرات الاستراتيجية في ١٢ أكتوبر لتخفيف الضغط عن سوريا، إلا أن القرار لاقى معارضة من الجنرالات وعلى رأسهم الفريق الشاذلي، في الوقت الذي وافق عليه المشير إسماعيل. وجاء اعتراض الشاذلي من حقيقة أن دفع القوات خارج مظلة الصواريخ سيؤدي إلى جعلها مكشوفة أمام طيران العدو.
نجحت معارضة الجنرالات الشاذلي وسعد مأمون قائد الجيش الثاني، وعبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث في تأخير الهجوم ليوم واحد. إلا أن السادات كان حاسمًا، وأمر بتحريك الفرقتين المدرعتين ٤ و٢١ المتمركزتين غرب القناة لتطوير الهجوم، وهو الخطأ الذي كانت تفترضه خطة ديفيد أليعازر رئيس أركان جيش العدو، لينتهي ببعض الخسائر في صفوف الجيش المصري.
بالنسبة للسادات كان تطوير الهجوم مجرد ضرورة سياسية، إلا أن خبرته العسكرية المحدودة وفرض رأيه السياسـي على العمليات تجاهل الاعتبارات العسكرية التالية؛ أنه من المستحيل عمليًّا تخفيف الضغط عن سوريا بسبب طول المسافة بين شرق القناة والجولان؛ أن الهجوم جاء متسقًا مع عقيدة الحرب السوفيتية التـي كان القادة الإسرائيليون على معرفة بها؛ وقد كان النجاح الذي تحقق وفقًا لخطة المآذن العالية قائمًا بالأساس على الخروج عن هذه العقيدة؛ وأن البديل لتطوير الهجوم بالفرق المدرعة هو نشر وحدات خفيفة من المشاة المسلحين المعدات المضادة للدبابات.
لم يلتفت السادات لهذه الاعتبارات، ولم يرِ في تطوير الهجوم سوى مجرد معركة دبابات. ومهد هذا التراجع لعملية “غزالة” أو “ثغرة الدفر سوار بقيادة آريل شارون وإبراهام آدان والتـي بدأت في ١٥ أكتوبر، واستهدفت استغلال الثغرة ما بين الجيشين الثاني والثالث، للعبور إلى غرب القناة، وتهديد القاهرة.
قلل السادات من أهمية العملية، وأدعى أنها مجرد “عملية تلفزيونية”. ووقع الانقسام في أركان القيادة العامة حول كيفية تصفيتها. وفيما رأت الأقلية وعلى رأسها الشاذلي إمكانية “المناورة بالقوات” من خلال عودة أربعة لواءات مدرعة من شرق القناة إلى الغرب للتصدي للقوات الإسرائيلية، رأت الأغلبية وعلى رأسها المشير إسماعيل أن تحريك القوات سيؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية للقوات شرق القناة. وفي المقابل اقترحت تحريك اللواء ٢٥ مدرع شمالاً ليلتقي مع الفرقة ٢١ جنوبًا. وهو ما أقره السادات على الرغم من الأخطاء الواضحة في الخطة خاصة مع عدم وجود غطاء جوي في منطقة البحيرات المرة لتغطية تحرك القوات. وهو ما أدى إلى وقوع خسائر في اللواء ٢٥ يوم ١٧ أكتوبر، واستمرار الثغرة التـي استقبلت في اليوم الثالث ثلاث فرق إسرائيلية.
ومع ذلك أصر السادات في ٢٠ أكتوبر على رفض تحرك أية بندقية أو جندي مصري واحد من شرق القناة إلى غرب القناة. مرة أخرى، أثبت القائد الأعلى، عدم اكتراثه بالحقائق العسكرية، وتغليب وجهة النظر السياسية على اعتبار العمليات. كان السادات، الذي لم ينل العبور الإسرائيلي من ثباته حتـى الآن، ما زال واقعًا تحت تأثير تجربة الانسحاب الكارثي في ١٩٦٧، ولم يمنح نفسه الفرصة دراسة خطة “المناورة بالقوات” التـي اقترحها الشاذلي و”الانسحاب غير المنظم للقوات”. فالعكس مما حدث في النكسة، كان يمكن للأولوية المصرية المدربة على العبور والخبيرة بطبيعة الأرض غرب القناة أن توقف التقدم الإسرائيلي، دون أن يؤثر انتقالها على معنوية القوات.
أدى قصور خبرة السادات العسكرية إلى نجاح الثغرة في الإحاطة بالجيش الثالث الميداني شرق القناة مع وصول القوات الإسرائيلية إلى السويس وحصارها دون التمكن من دخولها. بالنسبة للسادات، كانت الحرب قد انتهت فعليًّا مع نجاح سلاح النفط في إجبار كيسنجر على التحرك لربط وقف إطلاق النار بالانسحاب الإسرائيلي، واتفاقه في ٢٠ أكتوبر مع السوفيات على صيغة قرار أممي لوقف إطلاق النار، في الوقت الذي بدأ فيه الجسر الجوي الأمريكي في تقديم الدعم السخي لإسرائيل. توصل السادات إلى نتيجة مفادها أنه لم يعد هناك طائل من الاستمرار في القتال، ومن الضروري الحفاظ على ما تمت السيطرة عليه من أرض شرق القناة.
انتهت الحرب على النحو الذي خطط له السادات. بتحرك القوى العالمية لإيقاف الحرب، وبدء التفاوض مع إسرائيل برعاية أممية على الانسحاب من سيناء مع توقيع اتفاقية فك الاشتباك (الكيلو ١٠١). ومع بدء تردد كيسنجر في رحلاته المكوكية إلى المنطقة، كانت الحرب بداية لتحول في منطق الصراع العربي الإسرائيلي، ولموقع مصر منه، وهو ما قد إلى اتفاق السلام مع إسرائيل ١٩٧٩.
كما تؤشر فوضـى الحروب الدائمة، فمن الصعب تحديد إن كان السادات مخطئًا أم مصيبًا في قراراته. وربما الأفضل قراءة تاريخ الحرب ودوره فيها بدون أحكام قيمية، بل من خلال طبيعة أي حرب باعتبارها حالة طارئة يتراوح كل قرار فيها بين الخطأ والصواب، والانتصار فيها معقود بقدر كل طرف على تحقيق “ما يراه” من أهداف قد تتغير مع مسار الصراع. لقد صاغ السادات استراتيجية مصر العسكرية بحنكة وغريزة سياسية خالطتها نزعته الرومانسية في القيادة الفعلية للجيوش، وكان عليه أن يتعامل مع معضلات ليست من اختياره في ميدان متداخل وغاية في التعقيد، بشكل افضى في النهاية باسترجاع الأرض المحتلة.
مراجع
[1] يعتبر صامويل هانتينجتون رائد هذا النموذج في كتابه
Samuel Huntington, The Soldier and the State (Cambridge, MA, 1957).
[2] Amr Youssef, Sadat as Supreme Commander, The Journal of Strategic Studies. Vol. 37, No. 4, 532-555.
[3] Eliot Cohen, Supreme Command: Soldiers, Statesmen, and Leadership in wartime (New York: Anchor books, 2002).
[4] راجع محمد حسنين هيكل، “أكتوبر ١٩٧٣: السياسة والسلاح” (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، ١٩٩٣) ص٢٩٨.